أنغام الذاكرة: عازف “المطَبِّگ” وأصوات الريف في جنوب الموصل…

أنغام الذاكرة: عازف “المطَبِّگ” وأصوات الريف في جنوب الموصل…

‏لم تكن الآلات الموسيقية قد غزتها التكنولوجيا كما هو الحال في زمننا الحاضر. ففي الماضي، كانت الآلات المتوفرة مثل الربابة، والمطَبِّگ، والزُّرنايَة، والطبل، والدف، والدمبك وغيرها، تُصنع من مواد بسيطة توفرها الطبيعة، وغالبًا ما كانت تُنجز يدويًا في القرى والأرياف.
‏أما اليوم، فقد حلت مكانها آلات إلكترونية تعمل وفق البرمجة والتقنيات الحديثة، فاقدةً شيئًا من روح الأصالة ودفء التراب.
‏في قرانا الواقعة جنوب الموصل، كنا نشتاق إلى سماع أصوات تلك الآلات البسيطة، التي لم تكن تُعزف إلا في مناسبات الأعراس أو في تجمعات نادرة تأتي بالمصادفة.
‏في منطقتنا كان هناك عازف معروف على آلة “المطَبِّگ” يُدعى خلف الهَدبَة، وقد جمع بين العزف والغناء، مؤديًا دور الفنان الكامل بصوته وأصابعه. ولو قُدّر له أن يعيش في عصرنا الحالي، لكان له شأن فني كبير يفوق ما ناله في زمنه. ومع ذلك، فقد ترك أثرًا لا يُنسى في نفوس أبناء جنوب الموصل، خاصة في جانبيها الأيمن والأيسر.
‏كما كانت الربابة حاضرة في سهرات الشباب، تُعزف خلالها أبيات العتابة، والنايل، والزِهيري، بأوتارها الحزينة ونغمتها الشجية. كان عازف الربابة سيد الجلسة، يُخرج بأصابعه أنغامًا تلامس الوجدان، وبصوته يردد أبيات الشعر البدوي، فينصت له الجميع بوقار واحترام. ربما تجد في كل قرية عازفًا ماهرًا على الربابة يجتمع حوله أبناء القرية ليستمعوا إلى ذلك العزف وإلى صوته الشجي الحزين…
‏وفي بعض الحفلات، كان الحضور يُطلقون العيارات النارية احتفاءً بالعزف، تعبيرًا عن إعجابهم وتفاعلهم. مشاهد لا تُنسى، في غرف طينية بسيطة، تعجّ بأصوات الربابة من الداخل، وصوت الرعد والمطر من الخارج. كانت تلك أيامًا جميلة، مرّت كلمح البصر، لكنها ما زالت محفورة في الذاكرة، تطلّ علينا كلما سمعنا صوت مطَبِّگ أو ربابة.
‏أما اليوم، فقد تغيّر كل شيء. العازف الحديث يصطحب معه جهازًا موسيقيًا إلكترونيًا أو فرقة موسيقية كاملة، لكنه لا يلقى ذات الآذان الصاغية، ولا القلوب المُتفاعلة التي كانت تُنصت لـ”مطَبِّگ خلف الهدبة” وهو يغني:
‏”كل علو نرگاه ندور فضاة البال”،
‏أو لعازف الربابة وهو يردد أبيات العتابة من تأليف الشاعر البدوي عبد الله الفاضل، أو فطيم البشر التي كانت ترثي أبناءها الغرقى، مخاطبةً نهر دجلة بحرقة أم مفجوعة.
‏كل شيء في ذلك الزمان كان جميلًا. حتى العتابات الحزينة، كانت تضيف نكهة جمالية لصوت الربابة وأداء العازف. كل شيء كان له معنى وعمق: الدبكات العربية، وخلف الهدبة، والمطَبِّگ، والربابة، والدبّاجة، ومن يمسك “رأس الدبچة”، وهم يرددون:
‏”عامر يهتالي… عامر”.
‏‏رحم الله تلك الأيام، ورحم الله من زرعوا فينا ذوق الفن الأصيل. وأبعدونا عن عصر السرعة في زمن العصرية التكنولوجية، هذا الزمن الذي أصبحت دقائقه تسير بسرعة تتسابق معنا في كل شيء، ولم نحصل منها على أي شيء…..

أحدث المقالات

أحدث المقالات