أشتغالي على الرواية المشطورة سرديا : حراثة بكر حسب تجربتي النقدية، أعني أن أنشطارات السرد من أجتراح خبرتي الشخصية، وقد لمست هذه الانشطارات في الروايات التالية ومقالاتي عنها منشورة في المواقع الألكترونية:
(الرواية العمياء) شاكر نوري
(صيد الحمام) علي جاسم شبيب.
(زرايب العبيد) نجوى بنت شتوان
(فستق عبيد) و(بابنوس) سميحة خريس
(رائحة القرفة) سمر يزبك
(أمس كان غدا) كاظم الأحمدي
(جبل الزمرد) منصورة عزالدين .
(رجل في كل مكان ) زهدي الداودي
.(سعيدة هانم) ميسلون هادي.
(غدي الأزرق) ريما بالي
وهناك مخطوطات لم تنشر :
(1958) ضياء الخالدي
(نواقيس روما) و(عشيق المترجم) : جان دوست
(*)
في الصفحة الثالثة من (غدي الأزرق) تقدم لنا ندى خيّاط منصة النص الروائي :
(أكثر ما تشبّث بمخيلتي كان صورة التوأم المنكوب بداء الأيدز، وداء الكراهية. وأعتراني فضول كبير لأعرف السّبب الذي دمر جسدّي هاتين المرأتين، ودمّر صلة الرّحِم وصلة المشيمة اللّتين تربطان بينهما../ 6 ).. وما يثير فضول ندى في البدء لن يثير فضولنا إلا بعد مسافة من الصفحات المشطورة سردياً بين صوتين نسويين : ندى خيّاط+ إيفا. فهما بأنشطارت السرد تملأن فضاء الرواية
(*)
منصة النص هي الخلية الموقتة في الرواية التي ستنشطر من خلال صوتيهما: ندى خيّاط وإيفا. السيدة ندى بنسبة عالية. ويكون لصوت إيفا مديات متنوعة ومنها ستتكشف لنا شخصيتها الأنشطارية مع أختها ماريا والأنشطار الشخصاني يؤدي إلى أنشطار سردها : سرد ملّفق وسرد سوي..
(*)
تقوم ندى بعملية تشطير الرؤية السردية للمكان /المصحة،من خلال تبئيرها لسعة المصحة الشاسعة، فلا نرى من خلال البؤرة سوى التوأم : مارتا وإيفا وما جرى لهما بسبب الإيدز. المرضى والمرضيات تشملهما ندى خيّاط بتعريف وامض.
وما بين القوسين في ص6 يشكل الخطوة المشطورة الأولى، أعني التوأم مارتا وإيفا. وستخبرنا ندى عن نفسها فهي وحيدة أهلها ونبيل كذلك هو وحيد أهله ..(شعرتُ بأنّ نبيلاً هو توأمي وشقيقي، قبل أن يكون زوجي ووالد أبني الوحيد/7 ).. وتوصلنا نزهتنا السردية أن التوأمين في علاقة تضاد سلوكيا.. والتوأم المؤتلف سلوكيا يتجسد في نذالة : بابلو / نبيل .. هذه التشكيلة الأنشطارية هي التي تحوك النسيج السردي لسيرورة الرواية. من خلال تقاطعاتها يتدفق النص بشكل لا يخلو من مخالب ما يسمونه : القدر التراجيدي المسرود، بفعلية تملي نصوصها على الذات البشرية.
(*)
ندى متماهية/ منشطرة في شخصية جان دارك،لكن السلطة القمعية تجرد ندى من أي فعل في النهاية .لأن ندى خيّاط هي منذ طفولتها : أزاء نبيل تشعر بالدونية (على الرغم من أنّني كنت أكبره بشهر ونيّف،فأنّني كنت أشعر دائما بأنه الأكبر والأقوى،والأكثر فهماً ومعرفة وذكاءً../13 ) من خلال أعترافاتها نشعر أن ندى خيّا ط هي المرأة المخصيّة بقناعتها!! فهي محض صفحة بيضاء يملي نبيل فيها ظلاله الفاقعة ..(مستلبة من قبل طفل. حاولت أن أتمرد،لكنّني تراجعتُ فقد قمع الطفل المتسلط ثورتي../ 14 ) تأويلات ندى كاذبة حين تؤول مؤثريته عليها (لأنه يعرف أكثر مني،بالفطرة ربما) ثم يصل الأستحمار لديها في قولها(ربما هناك خطأ ما في تسجيل موعد ولادتي)!! هنا تنافق مع نفسها ندى خيّاط فهي أخبرتنا أن أم نبيل المرأة الحديدية وطموحاتها لا تقف عند حدود مديرة مدرسة أو مسؤولة اتحاد النساء في حكومة البعث السوري . إذن الهندسة الوراثة تنتقل من الأم إلى ولدها وليس لأن نبيل يعرف أكثر من ندى بالفطرة..
(*)
نلاحظ أن سرديات الوزير نبيل لدى الحكومة راسخة في ذات ندى وهي تعرف أنها نعجته في نهاية الرواية . كنت ُ أتصور كقارىء للنص أن ندى خيّاط ستواصل تمردها عليه وتترك الشقة ولا أقول تواصل الحياة مع بوريس .. بل ربما تتوجه إلى بيت خالها ومن هناك إلى أرض الله الواسعة.. لكنها للأسف مكثت بعد كل هذه الفترة الزمنية مستسلمة تنتظر السيد الوزير نبيل :
(رن الأنتر فون جارحا سكون الليّل، رنة ً قصيرة وحادة
هل عاد بوريس؟ تساءلت وأنا أرفع رأسي من المخدة، ثم سحبت نفسي نحو الباب, رفعت السماعة وأصخت السمع،فجاءني صوت آخر يقول بالعربية :
أفتحي ندى، هذا أنا.
نبيل ؟
مفاجأة ؟
أبداً، ليست كذلك. كنت انتظرك، بين لحظة وأخرى ! / 184) وهذه المباغتة هي الثانية أما ..الأولى فكانت على هيئة كابوس له وظيفة الفعل الإستباقي لما سيجري في المباغتة الثانية. في الكابوس قرع عنيف يوقظها من نومها الباريسي يواجهها شخص رأته كثيرا في حلب ولا تتذكر من هو!! يحاورها الكائن السلطوي حوارا مقتضبا، يهمنا هذا السطر من حواره معها (نحن نراك ونعرف ما تفعلين في أي ركن من أركان العالم. رافقيني بهدوء/65 )
ضمن آليات الانشطار على مستوى المونتاج ستكون هناك مباغتة لإيفا في مسكنها الجديد بعيدا عن ضغوطات بابلو (ما أن طلع علي الصباح الأول في مسكني الجديد،حتى أيقظني طرقٌ عنيف على الباب.تخيلت أنه خوليو. بما أنني لا أعرف أحدا غيره.. فتحت الباب بسرعة، فوجدته أمامي : بابلو،مع نظرة مخيفة لم أرها قبل اليوم في عينيه، عاجلني قبل أن أتكلم بصفعة مفاجئة على وجهي أفقدني توازني،فسقطت أرضاً، وتخيلت أنني أهوى في بئر عميقة../ 63).. أوّل ما نلاحظهُ أن مداهمة بابلو تتموضع سرديا في ص63 أما مداهمة الكابوس لنوم ندى خيّاط فتتموضع في 65 وهذا التجاور بين المداهمتين، تقصدّت الروائية ريما بالي بتنضيده بالتجاور لكن لا يعني أنها تقصد من ذلك ما تقصده قراءتي للأنشطار السردي
(*)
الأزرق حين يلّطخ جسد الإنسان فهو توقيع الجلاد على الضحية . وأزرق الجلاد يشكل أنشطاراً، باطلا في هوية الأزرق فالسماء الرحيمة : صفوّها أزرق، وسعة البحر زرقاء وتعويذة العيون السبع تحرس بيوتنا بزرقتها
(*)
في رواية ريما بالي (غدي الأزرق) للدال مدلولات ثرة وللعنونة ثنائيتها.
: غدي : هو اسم الولد الأوحد لعائلة متكونة من ندى ونبيل. وهذا الولد المسالم هو من أحرار الغد السوري، تطوّع في الهلال الأحمر ليحقن الدم الزكي من غير شروط، وهذا الصنف من الأحرار : يعتبر من ألد أعداء السوريين المتعادين فيما بينهم. لذا فالقارىء يضع : مقتله ضمن المحتوم، أما نجاته فذلك من عجائب الدنيا والدين .
(*)
حالة الفقد تجهّز الثكالى برؤية القلب / فترى الغائب وها هي أم غدي ترى الغائب الآخر خوان كارلوس وهو من أتراب غدي، تراه في شقتها (..جالسا هناك وأمامه على الطاولة باقة عجيبة من أزهار عباد الشمس ولكن بلون أزرق! /178 ) والزرقة هنا تومىء إلى سواها مثلما تومىء لتفردها فالمكين بالمكان والعكس صحيح أيضا: (كانت رائعة الجمال،بالغة الغرابة والفرادة بلونها الأزرق العجيب وشذاها النادرة).. ثم يسلّم كارلوس رسالة من غدي لأمه.. مما جاء فيها(لا تبحثي عن الحي بين الأموات. لقد أخترت قدري بنفسي فكان أحلى الأقدار. لا تبحثي عني يا أمي../ 179 ) وفي الكلام التالي للولد الشهيد تتفعل دلالة الأزرق الأخرى (لا تبحثي عني يا أمي،بل عيشيني. أنا غدك. أنا أنت. أنا موسمك الأزرق)
(*)
للأزرق جهوية جديدة عند ندى خيّاط تتجسد في عينيّ بوريس (غمرتني زرقة عينيه القلقتين، إذ جسدت موسمي الأزرق، الذي قطفته راضية، حتى آخر حبة / 183 ).. ومن جهة أخرى الأزرق يحتمل دلالة أخرى. فهذا الأزرق المكنوز في الأم تقوم هي بلجمه من جراء قوة الأمومة التي فيها وهاهي تخاطب نفسها بهذا الخصوص: (عندما كان حيا كنت أتخلّى لأجله عن مواسمي، وأخبىء محصول حقولي في مخازنه. أما الآن،فهل تراني ارتبكت ذنبا إذ تمتعت بنفسي بموسمي الازرق/ 160 )
(*)
من كل هذا نرى أن الإنشطار يبدأ بثريا النص / عنوان الرواية. فالغد بياء التملك هو اسم الولد الأوحد للعائلة والياء نفسها تحيل لكلاهما : للتسمية وللأم وحياتها الخاصة أيضا.
(*)
للشخوص انشطاراتهم
فالشخصية الرئيسة هي ندى متماهية في شخصية جان دارك
والعمل السيء منشطر بين نبيل/ بابلو كلاهما انتهازيان / ص114
بوريس : فيه شطرٌ من الشهيد غدي وبشهادة أمه ندى وهو تخاطب بوريس :
( آه، أيها الأمير الصغير،حتى إن أستطعت أن أتناسى عمري برهة من الزمن،فكيف أتناسى ملامح طفلي المرسومة على وجهك، ونظرته التي تطلّ من عينيك؟! / 117 )
(*)
إيفا ومارتا مشطورتان في بابلو ومن جهة أسطورية لدينا تحديث نسخة وتدويرها جهوياً عن النسخ الأصل: العلاقة اللا أخوية بين هابيل وقابيل وقبل نهاية الرواية يتداعى السرد الكاذب الذي سردته المدعية أنها إيفا لكنها في الحقيقة هي مارتا وهاهي تعترف للسيدة ندى بكذبتها فالتي أسمها مارتا هي والدة الطفل وإيفا هي التي سرقت(طفل أختها وسلمته إلى بابلو ولم يكن هناك طفل ميت كما قلت لك ولمارتا. قام بابلو برشوة عناصر من إدارة المستشفى، كما تبرع للمركز بمبلغ ضخم ليسهلوا له أمر أختطاف الطفل بعد تحرير شهادة وفاة له. بعد أن شهدتُ له بأنه أبنه، ووقعت عوضا عن مارتا على تنازل ٍ عنه لأبيه../ 163 ).. نحن هنا أمام انشطار متقزز في لعبة الأسماء الذي لعبته بكل وسختها الشقيقة مع شقيقتها. وهكذا سيضح تفكيك الانشطار التمسوي بين الشقيقتين (مارتا هي إيفا، وإيفا هي مارتا)
(*)
الأم الثكلى ندى، تشاطر أم الولد الذي سرق بابلو منها ولدها (بأختصار ووضوح، بما أنني امرأة سُلِب منها ولدها أيضاً،فقد لمسني ألم المرأة الأخرى التي سُرق منها الطفل الذي جعلت منه منارة لغدها وسببا لاستمرارها في الحياة.لقد هربت من أسبانيا إلى فرنسا لتحميه ولتبدأ معه عمراً جديدا في عالم جديد،لأن بابلو كان يضغط عليها لإجهاضه. وعندما وُلد سرقه منها…/ 144 )
(*)
بابلو ونبيل يتشاطران النذالة نفسها .بقوة المال والمخدرات يتحرك بابلو وبقسوة كرسي الوزارة يفعل ما يشاء نبيل وها هي ندى تقصُ علينا كابوسها (حلمتُ أنّ نبيلاً يغتصبني، ولكن ليس بهيبته المعروفة، وإنما كان متقمصاً جسد شخص آخر، تطابق أوصافه تلك التي ذكرتها لي إيفا عن بابلو../ 118 )
(*)
قراءتي المنتجة ترى أن ما فعلته نذالة بابلو هو محاولة جادة للتخلص من انشطاره بين الشقيقتين : إيفا ومارتا. بابلو يريد أن يكون بابلو فقط وحده فقط في المشهد. لذا عليه أن يكسح سواه من طريقه. بابلو أراد تقديم نسخة ً نظيفة ً من بابلو الوسخ والملوث بالأيدز: فقام بسرقة الطفل الذي هو والده، من أمه :. ليؤسسه مستقبلا للبرجوازية الزراعية في الريف والمتجسدة بعائلته التي تمتلك تلك الأرض الزراعية الشاسعة وهو (يدرك أنّه لن يعيش لينجب طفلاً آخر! كان عليه أن يسرق الطفل من إيفا ويحرمها إيّاه، ضماناً لأستمراريته.. كان على الطفل أن يعيش كأبن بابلو وليس كأبن إيفا /150 )
(*)
أهتمام ندى بمأساة المرأتين مارتا وإيفا : نتيجة ميول أنشطارية (قصتهما هي أنعكاس لقصتي وقصة شعبي الذي مزقته الحروب، ورؤية مختلفة لها. ومجرد معرفتي بتفاصيل تلك القصة وخفاياها سيعطيني إضاءات رمزية لتفاصيل مخفيّة كان قد أعماني عنها حزني وقنوطي../ 114 )
(*)
من تركيم هذه الأنشطارات السردية، نهض صرح رواية (غدي الأزرق) للروائية ريما بالي
*ريما بالي / غدي الأزرق/ دار الآداب / بيروت /2017