18 ديسمبر، 2024 8:43 م

أنسنية إدوارد سعيد

أنسنية إدوارد سعيد

تبحث الأنسنية ( Humanism ) في مأزق الوجود الإنساني، في قضية الإنسان نفسه؛ مشكلته التي يفترض أن يجعلها في القلب من دائرة اهتمامه. فيما الحل مرهون بفعله.. الفعل الإنساني الذي يصنع التاريخ في إطار شروط موضوعية معطاة. وهو ( أي الإنسان ) يتحمل عقابيل فاعليته التاريخية، حيث تشكِّل له تلك القضية عبئاً أخلاقياً كونه قيمة عليا؛ قيمة تتجسد في وعيه لها، وفي سلوكه المعبّر عنه في ضوء ذلك الوعي. فالحياة ثمينة، أو هي لا تقدّر بثمن. وما على الإنسان إلاّ أن يستثمر ممكنات حياته من أجله، ومن أجل أشباهه الذين هم البشر أجمعين.
   بزغت فكرة الأنسنية مع تكريس النظر إلى الإنسان بوصفه ذاتاً مستقلة تحلّق في فضاء الوجود بجناحي العقل والحرية.. العقل الذي هو المرجع الأول والأخير في معرفة الإنسان لذاته وعالمه. والحرية التي هي الغاية الكبرى المحققة للكرامة والسعادة البشريتين.
   تعد الأنسنية مذهباً فكرياً ارتبط بقيم الحقيقة والتقدم والجمال. وجرى تبنيه وتداوله منذ عصر النهضة الأوربية ( وإن كان هناك من يرجعه إلى فترات أقدم )، ليترسخ مع عصر التنوير في القرنين السابع عشر والثامن عشر. ويجد له مريدين ومدافعين كثر، بعضهم من المفكرين الكبار الذين بشّروا به وأرسوا قواعد ومبادئ فلسفته من منظور علمي ونقدي صارمين. ولعل إدوارد سعيد واحد من آخر تلك الكوكبة اللامعة ممن التزموا بالفكر الأنسني ودعوا إليه وطوّروه.. يقول في محاضرة ألقاها في جامعة كولومبيا أوائل العام 2000: “كنت خلال العقود الأربعة الأخيرة، مدرِّساً وناقداً وباحثاً ملتزماً بالفكر الأنسني. ذلك هو العالم الذي أعرفه أكثر من سواه”.
   يحتوي كتابه ( الأنسنية والنقد الديمقراطي.. ترجمة فواز طرابلسي.. دار الآداب ـ بيروت 2005 ) على خمسة فصول/ محاضرات يقدّم خلالها محاجة سجالية باهرة عن موضوعته، مركِّزاً على المدرسة الأنسنية الأمريكية. قاصداً إخراج تلك الموضوعة من حدودها الأكاديمية التقليدية ليتفحص أهميتها في الحياة المعاصرة التي ازداد فيها “دور النزعة الأنسنية ومادة الإنسانيات وموقعهما في اكتساح الحيّز العمومي خلال السنوات الختامية من القرن المنصرم وبداية هذا القرن”، في الوقت الذي توسع فيه انشغال الناس بهموم السياسة والاقتصاد والمجتمع. من هنا تنبثق أهمية ربط مبادئ الأنسنية بالعالم الذي نعيش فيه. فيصحح سعيد الفكرة القائلة بأن الأنسنية هي من اختصاص نخب فكرية مغلقة وليس من المجدي جعلها مادة نقاش في الحيّز الاجتماعي الواسع. إن الأمر لديه هو على العكس من ذلك تماماً، طالما أن الأنسنية هي الحقل الفكري الذي نطرح فيه قضية الإنسان.
   بقي إدوارد سعيد حتى أواخر أيامه غير مقتنع بحجج المابعد حداثيين الرافضين لسرديات التنوير والتحرير. ورأى أن “التغيير هو التاريخ الإنساني والتاريخ الإنساني كما يصنعه العمل البشري ويفهمه وفاقاً لذلك إنما هو الركن الأساسي لمادة الإنسانيات”. بيد أنه كان واعياً بالمقابل للقصور الذي انطوى عليه الفكر الأنسني الصادر عن موجِّهات المركزية الأوربية والإمبراطورية. فدعا إلى أنسنية ذات بعد كوني يتجذر في اللغة والأدب غير الأوربيين أيضاً.
   ولطالما استشهد سعيد بفيكو الذي تجلت الأنسنية في فكره العلماني بشكل ساطع.. يقول: “إن صميم الأنسنية هي الفكرة العلمانية القائلة؛ إن العالم التاريخي هو من صنع بشر من رجال ونساء… وإنه يمكن اكتناهه عقلياً وفق المبدأ الذي صاغه فيكو في العلم الجديد إذ قال؛ إننا ندرك فقط ما قد أنتجناه”. ولا يغيب عن بال فيكو قابلية الذهن البشري على ارتكاب الأخطاء والتي تجعل في المعرفة الإنسانية ما هو “مؤقت وناقص وقابل للطعن والمجادلة”.. كما أن التاريخ لا يسير بشكل سلس وإنما تعترضه معوِّقات. وحتى لو كان هذا التاريخ لا يمكن اختزاله بمعوقاته فإن هذه المعوِّقات تؤدي مع ذلك دوراً حاسماً فيه، وتشارك في تحديد مساره واتجاهات تطوره.    
   إن احتمال الوقوع في الخطأ، واعتراض سبيل التاريخ الإنساني بمعوِّقات، والذي يفترض أنه سائر قدماً نحو غاية إنسانية سامية ( قد تكون محض حلم )، يقودنا إلى ضرورة أن يتعشق الفكر الأنسني مع الديمقراطية وأن يكون له بعده النقدي. فهدف الأنسنية “هو التمحيص النقدي للأشياء بما هي نتاج للعمل البشري وللطاقات البشرية على التحرر والتنوير. وعلى القدر ذاته من الأهمية يقع التمحيص النقدي لسوء القراءة وسوء التأويل البشريين للماضي الجمعي كما للحاضر الجمعي”.
   في تناوله لموضوعة الأنسنية والنقد الثقافي يجعل إدوارد سعيد الكلمة المفتاح هي؛ الدنيوية، أي، بحسب وصفه “العالم التاريخي الحقيقي الذي يستحيل على أي منّا التفلت ولو نظرياً من شروطه”. وهنا يُحيل الدنيوية هذه إلى روابطها المتمثلة بالسلطة والموقع والمصالح، والتي في ضمن اشتباكها تتبلور الأنسنية بعدِّها “مستوى ثقافياً أكثر تحديداً يقول إن كل النصوص وكل التصورات كامنة في هذا العالم ومحكومة بوقائعه العديدة المتغايرة”.
   يشير سعيد من منطلق علماني وكوني إلى أن أخطر ما يتهدد المشروع الأنسانوي هو الحماسة الدينية. ذلك التطرف الأعمى المغلق على نفسه وعلى أي نقاش، والمفضي إلى الكراهية والعنف والمنازعات العبثية، موسعاً دائرة الأصولية لتشمل المسيحية واليهودية والهندوسية وغيرها والتي من وجهة نظره “لا تقل دموية وكارثية عن الأصولية الأسلامية. وتنتمي كل هذه الحميّات إلى العالم ذاته في الجوهر، تتغدى واحدتها من الأخرى وتحاكيها، وتحاربها على نحو فصامي. والأخطر من ذلك أنها تتساوى جميعاً في لا تاريخيتها وفي اعتصابها”.
   أما البديل المنطقي للنماذج القائمة على الانعزال والكراهية مثل ( القومية العنصرية، والحماسة الدينية الهوجاء، والنزعة الاستئثارية الصادرة عن الفكر الانتمائي الضيّق )، أقول ان البديل لهذه النماذج هو الأنسنية وقد خرجت من تحت عباءة المركزية الأوربية لتكون مشروعاً كونياً، وأعيدت لها وظيفتها النقدية. فكان عليها أولاً تحرير الإنسانيات من تحديدات المركزية الأوربية التي تلخصت بـ “دراسة نصوص كلاسيكية كوّنتها الثقافات الأغريقية والرومانية والعبرية”. فالحضور الثقافي والحضاري لمجتمعات أكثر تنوعاً في تاريخها وثقافاتها فرضت نفسها على الساحة الدولية لاسيما بعد عهود الاستعمار.. هذه المجتمعات المهملة سابقاً “أخذت تقتحم الحيّز الحصري الذي كانت الثقافات الأوروبية تحتله سابقاً”.
  ترتبط الأنسنية بفاعلية الإنسان في مجاله الاجتماعي، بمنجزه الذي هو نتاج إرادة ووعي مسبقين. والمسار الذي يطبعها بطابعه هو الديمقراطية وقد ترشح عنها “ذهن نقدي مطرد التحرر”. وكان بزوغ الفكر الأنسني مترافقاً مع تلك الثورة الفكرية الكبرى التي حاولت أن تنزع السحر عن العالم وتمنح سلطة المعرفة لجهة العقل، مع التأكيد على الحرية بعدِّها قيمة كبرى. فكان لابد من إعادة قراءة التاريخ والفكر الإنسانيين وتفكيكهما عبر رؤية نقدية منهجية صارمة تغيّر من رؤية الإنسان إلى نفسه ووجوده وعالمه. ولم يكن للتطور الذي عرفه التنظير في حقل الدراسات الإنسانية أن يحصل لولا تنمية ما يسمّيه سعيد بحس التنقيب النقدي، وقد وُضع في مواجهة نزعة مضادة يعرِّفها جوليان بندا بتعبئة الأهواء الجمعية. ها هنا ينعتق الإنسان من قيود الامتثالية والقطيعية ساعياً ليكون فرداً حراً في مجتمع حر. وكان هذا هو مقصد الفكر الأنسني منذ بدء الجهر بكينونة الإنسان قيمة عليا. لذا وجب عليه ألا يبقى أسير مفاهيم ومقولات فقدت جاذبيتها يجترها المرة تلو المرة، بل أن يكون فكراً نقدياً يتجدد على الدوام مع واقع متسارع في تحولاته لاسيما في حقبتنا الراهنة. “فالأنسنية هي إلى حد بعيد حركة مقاوِمة للأفكار المسبقة وهي تعارض كل أنواع الكليشيهات واللغات غير الفاكرة”. وليس غير البعد النقدي ما يُخرج الفكر الأنسني من أسر اللاهوت مسلِّماً إياه لفضاء التاريخ.
   إن الممارسة النقدية من منظور الأنسنية هي “ممارسة مستمرة للمساءلة”، كما يراها سعيد، تفضي إلى “مراكمة  المعارف المنفتحة لا المنغلقة على الوقائع التاريخية التي صنعت عالم ما بعد الحرب الباردة، وعلى تكوينها الكولونيالي المبكر، وعلى المرمى الكوني المخيف الذي تستطيع بلوغه الدولة العظمى الوحيدة المتبقية في زماننا الحاضر” ويقصد الولايات المتحدة ألأمريكية. حيث تطرح العولمة اليوم عبر مؤسساتها العابرة للقارات، وآلتها الإعلامية الجبارة، قيماً تقف في الضفة المقابلة لقيم الأنسنية، حتى لتبدو الأخيرة في إطار السوق الرأسمالي، وفوضاه، بالية وعفا عليها الزمن، أو في الأقل قيمَ زمن جميل لا يعيش إلا في أذهان أناس مسنّين لا سبيل ولا جدوى من العودة إليها. ففي عالم العولمة والنيوليبرالية يجري تنكيل مبرمج بقيم الأنسنية بتواطؤ أو بمشاركة قنوات الاتصال الإعلامية التي يسيطر عليها في الغرب حفنة من كبار الأثرياء.
   إن تسخيف قيم المساواة والعدالة والحرية الحقيقية لصالح قيم المنافسة والنجاح المادي والنزعة الاستهلاكية، والنفعية المجردة من لباسها ألأخلاقي،  قد حوّل العالم إلى غابة مرعبة ومجنونة. ففي مقابل مناطق محظوظة فارهة ومتخمة هناك هوامش فقيرة بائسة تغدو تحت وطأة الشعور بالظلم والحرمان مرتعاً للتعصب والعنف والجريمة.. في هذا العالم الذي يعاني فيه الإنسان من الاغتراب والقلق والخوف والعصاب بأنواعه تصبح العودة إلى قيم الأنسنية ضرورة لا محيد عنها.
[email protected]