23 ديسمبر، 2024 10:27 ص

أنسنة الإعلام جدلية التأثير والتغيير

أنسنة الإعلام جدلية التأثير والتغيير

الألفاظ هي الثياب التي ترتديها أفكارنا، هكذا وضع جبران خليل جبران أنساقه المعرفية ليلبسها إنسانيتنا بكل ما يشوبها من ضجيج وصراخ، وليسوق داخل ذاكرتنا هندام اللغة ولحظة التأمل، بعيدا عن الفوضى ورقمنة آدميتنا، ومن هنا أيضا، نفرز كمراقبين وفاحصين وراصدين لأداء المشهد الإعلامي، كيف يواجه الجمهور المتعرض لوسائل الإعلام اليوم تحديات كبرى في كافة أبعاد حياته اليومية المتنوعة، الثقافية والاقتصادية والأمنية والسياسية والاجتماعية وغير ذلك، وعلى قمة تلك التحديات تتربع التحديات الفكرية وتحقيق الذات، وتحيط به منظومة هموم وأزمات متولدة، تعصف بحياته، مما يتطلب منا وقفة جادة، لأنسنة الإعلام العراقي، نتجاوز بها نقاط السلبية التي تعج بخريطة واقعنا الإعلامي، والسعي للخروج نحو منعطف إنساني جاد نستشرف من خلاله المستقبل باستراتيجيات منهجية واعية، وبريشة عدالة واضحة، بعيدة عن تزوير الوعي، وتزييف العقول، إذ أن أنسنة الإعلام التي نريدها، تعني بان يصبح أكثر اهتماماً بالإنسان منه بالسياسات والقضايا العامة، وان فكرة الانسنة، وقيمتها الأخلاقية، تنبع من أنها فكر إنساني يؤمن بفضائل الإنسان التي وهبها الله عز وجل للإنسان، بإضفاء صفة الإنسانية على الأحداث التي تتناولها وسائل الإعلام المختلفة.
 وقد ورد مصطلح (الانسنة) في كتاب (نزعة الانسنة في الفكر العربي) للمفكر العربي محمد أراكون، وأهم ما نبه إليه هو أن العاصمة الإسلامية بغداد كانت من أكثر المدن حداثة لترسخ مفهوم الانسنة، في الوقت الذي انطفأت فيه الأنوار في أوروبا، إذ أراد بمشروع طرحه لهذا المفهوم، فتح آفاق معرفية أتاحها للنقاش المفتوح، لمن أراد أن يدين بالنزعة الإنسانية، ودعا بمصداقية إلى تنمية الجزء الأكثر إنسانية في الإنسان، من أجل حمايته من نفسه، ويقترح حالات أو صيغاً للعقل، ومسارات للمعرفة، واستراتيجيات للتدخل من أجل تحجيم المواقف اللاإنسانية، وحتى استئصالها إذا أمكن ذلك، كما عرف فكر الانسنة في تراثنا العربي من خلال أبي حيان التوحيدي، والجاحظ وغيرهما، وعرفه الكثير من الشعراء والأدباء في أوج الثقافة العربية والإسلامية في القرون المختلفة، ومن خلال نتاجهم الأدبي الذي ورثوه ممن سبقهم، كما استخدمت الانسنة في الأفلام السينمائية وفي المسرح وفي الرسوم المتحركة التي اعتمدت الانسنة لإيصال أفكارها، خاصة تجاه الأطفال في أنسنة الحيوانات المتحدثة، وعن طريق النصوص والشخصيات والمسرحيات المؤنسنة، واُستخدم هذا المصطلح لدى مناهضي العولمة للتعبير عن عولمة أكثر إنسانية، تحمي حقوق الفقراء والعمال والدول الناشئة والنامية، وهو ما دعانا لطرح مفهوم الانسنة  بالإعلام بعد أن ضقنا ذرعا بكل الضجيج الذي تفرضه وسائل إعلامنا، حتى من دون رغبتنا، وهيمنتها وسلطتها وجبروتها، من دون إرادة منظمة تقاومها في المقابل، ولمواجهة تلك التأثيرات المحتملة فان الدعوة لضرورة أنسنة الإعلام هي جزء من مواجهة التأثيرات النفسية والاجتماعية لها، فضلا عن دور تلك الانسنة في تنمية المشتركات الوطنية بين أبناء الشعب الواحد، في محاولة الوصول إلى وضع الصيغ الكفيلة لأنسنة الأحداث، والموضوعات، والمشكلات، وخلق عقد اجتماعي متواز وثابت على مرتكزات بين جميع الأطراف، لخلق طقوس يومية تمنحنا الشعور بالنظام والأمان، لكن ليس المقصود بالأنسنة أن ينبري بعض الصحافيين لنشر بعض قصص الحرمان والفقر، لاستدرار تعاطف الجهات الرسمية، وحل مشكلاتهم، وإن كان ذلك مطلوباً، على ألا يصادر كامل الجانب الإنساني في الإعلام، فالمقصود بأنسنة الإعلام هو تجذير وبناء مساحة عميقة واهتمام وعناية دورية بالشروط الإنسانية العامة في المجتمع، بالرغم من معرفتنا بان الإعلام سياسي بطبيعته، لأنه عرضة للتأثير بالصراعات السياسية داخل الدولة الواحدة، كما ان المؤسسات الإعلامية تشكل نتاجاً طبيعياً للمجتمعات التي تتشكل فيها، وعندما لا تعكس المؤسسات والقوانين والممارسات الإعلامية واقع المجتمعات التي نشأت فيها تبدو كأطفال لا يشبهون أهاليهم، فتظهر الشكوك حول شرعيتهم، كما يقول ذلك د.مأمون فندي في كتابه حروب كلامية، والابتعاد عن التخويف الذي تزرعه وسائل الإعلام في نفوس المتلقين، وثقافة الخوف مرتبطة بالتخويف، كما يقول علماء الاجتماع الإعلامي، أي إن محصلة عملية التخويف الذي تعتمده السلطة وهي سلطة متنوعة، تأتي وسائل الإعلام في وقتنا الراهن على رأسها، في تعميم المخاوف الحقيقية او الوهمية بين الناس، وفي تضخيمها الى الحد الذي لا يرون معه من يحميهم منها غير السلطة ذاتها، وهذه الثقافة لها محطاتها، القديمة والحديثة/الأنظمة والسلطات التي زرعت الرعب، وتلك التي لا تزال تزرعه في فضاء سلطتها، كثيرة، ولها أوصاف مصنفة: استبدادية او تسلطية، شمولية او دكتاتورية…الخ، وهي كلها أوصاف تعني (القدرة على توزيع الخوف، والكفاءة في توزيع العقاب)، والانتقال من التوعية بالمخاطر الى التخويف منها، وبواقع ان الإعلام هو إعلام سياسي في المقام الأول ولا يمكننا فهمه خارج السياق التاريخي والاجتماعي والسياسي الذي تنشط فيه وسائل الإعلام، من خلال تبني التضليل وخاصة ماينقل على لسان السياسيين والبرلمانيين والحزبيين، ولم تفصل وسائل الإعلام بين مصطلحات سياسية يتم تداولها على لسان الساسة وبين مصطلحات إعلامية محايدة أو صحيحة يستخدمها الإعلاميون، حيث ينظر المواطن الى وسائل الإعلام والنظام السياسي كأنهما وحدة واحدة، فإذا فقد الثقة في احدهما، انسحب ذلك على الآخر، وإذا شعر بان أياً منهما يستجيب له امتدت ثقته نحو الآخر، وكأنهما يشكلان جبهة واحدة.
وقد قال عبد الرحمن الراشد مدير قناة العربية في لقاء منشور عبارة دالة وهو يتحدث عن قناته:(اجلس على مفاعل نووي، يمكن أن ينتج الكهرباء ويضئ مدينة، او يمكن ان يسبب الدمار، الأمر يتوقف على الشخص الذي يجلس فوق الكرسي حيث اجلس ليقرر أي الطريقين يسلك) التشبيه بالغ الدلالة والعمق، فالإعلام مثل القوة النووية، يمكن ان يكون نعمة او نقمة، ويمكن له ان يضئ او يدمر، الأمر كله مردود إلى من يملك سلطة اتخاذ القرار:هل ينحاز إلى الخراب والدمار وتغييب الوعي، أم يراود الإضاءة والتنوير والانتصار للعقل، أي تكريس العداء للعقل والتفكير العقلاني، وعلى الرغم من كل الأجراس التي تقرع بشأن مخاطر الاستبداد المتبادل، سواء كان عبر السيطرة على الإعلام وتكميمه، أو عبر انفلات رسالة الإعلام وتجاوزها أهدافها الموضوعية، فان كل المواثيق والاتفاقات توضع جانبا، ويترك الإعلام يشبع غرائزه في مواصلة السيطرة والتحكم، وليتحول أداة لتكريس مفهوم القوة الغاشمة والسالبة لحرية المتلقين، وعبر ذلك دخل عنصر المال الفاسد في صفقات مشبوهة وتحالفات غير نزيهة المقاصد، ليستخدم الإعلام كوسيلة بالغة التأثير في الحياة العامة، وبشكل خاص في الحملات الانتخابية ودورات المشاركة في الحياة السياسية، وخاصة في ظل أزماتنا المتتالية التي لا تتوقف، وتجعل المتلقي يعيش حالة من العوق الذهني في تراتبيتها، وحجم تأثيرها، مما يؤدي الى عوق تام لكل جوانب حياته، وتشعره بأنه غريب في وطنه، يفتقد لأبسط درجات العدالة الاجتماعية، التي تعجز الإدارة الحكومية عن موازنتها، مما يرسخ شعور المواطن بأنه اقل أماناً واقل أحساساً بالاستقرار في مجتمعه، لصنع مايسمى بـ(مجتمع المخاطر) ثم (مجتمع الخوف) في النهاية، والحال فأن الواقع يحتاج الى إعلام جديد حسن السلوك، أي انه إعلام شجاع بلا وقاحة، جماهيري بلا مغازلة رخيصة للعواطف، منتصر للعقل والتفكير المنطقي، منحاز الى المستقبل الذي يخلو من الإرهاب والتطرف والعنف والولاء، لكن الطريقة التي تغطى بها الأزمات إعلامياً، تثير جدلاً أخلاقياً ومهنياً، فمعرفة الحقائق والوقوف على مصداقية تفاصيل الأزمات أضحت تشكل عامل تهديد مباشر لحياة الناس وتشكيل الإحساس بالخطر الجمعي، وتلقي بظلالها على مستقبلهم، حينما تخلق التصريحات المتنافرة بين أطراف الأزمة جواً متوتراً يؤثر مباشرة على نفسية المتلقي بمختلف الأعمار والفئات، لشعوره وقلقه انه يعيش في بيئة مضطربة تمثل تحدياً لوجوده وحياته وصحته، ومستقبله، وكشف الباحثون ان وسائل إعلامنا ترسف تحت قيود مالكها وممولها مع غياب دورها في إدارة الأزمات بحيادية، فضلا عن غياب الرؤية الموضوعية والدراسة، وعدم وجود معايير واضحة للإعلاميين، مما يوقعهم في شرك ان يصبحوا إما مع او ضد، ومن هنا فأنه من الضروري أنسنة هذه المضامين للقضاء على آثارها ونتائجها السلبية على المجتمع العراقي الذي شكل العنف اليومي فيه مادة أساسية للوسائل الإعلامية.
ويمكن استبدال تصريح ماكلوهان الشهير(الوسيلة هي الرسالة) بـ(الوسيلة هي الأحزاب) ويعزى السبب الى فشلها في نيل ثقة جمهورها، فضلا عن ذلك تتجلى مشكلات على مستوى التواصل ناشئة عن انعدام التناغم بين لغة الإعلام ولغة المجتمع العام، وأن إشكالية الرسائل الإعلامية والبرامج الحوارية افتقرت إلى تأصيل ثقافة الحوار في وسائل الإعلام، وأصبحت تلك البرامج والأخبار سلعة سياسية، وانحصرت مع مؤيدي خطها وسياستها، ووقعت في إشكالية خلط الخبر بالرأي، والغوص في تفاصيل دقيقة دون تفسير عميق لما يحدث، وتهميش الاستعانة بمحللين من الطرف الآخر المخالف لرأي الوسيلة والجهة التي تقف وراءها، سواء في التعليق على الأحداث أو الانتقائية في اختيار الأحداث والصور والتحشيد باتجاه المبالغة لإغراض سياسية تهم الجهة صاحبة الوسيلة، فوسائل الإعلام تعكس الخلافات السياسية أكثر مما تصوغ انسنوية لما يحدث، وأضحت، سلطة تجلد، وقوة تقمع، وأداة للتحريف والتشويه، وسوقت لنا السياسيين على طريقة تسويق منظفات الغسيل، الأمر الذي يستدعي العمل الجماعي لتعزيز المسؤولية الجماعية لأنسنة الإعلام وضبط دوره في الحياة البشرية، وان يعود بهويته وانتمائه إلى أسرة البناء الحضاري، وبتنمية الحس الانسنوي نتخلص من تسويق الرعب والفزع الذي يخفي وراءه التهويل والمبالغة والتزييف، والتلاعن والتلاسن، وتكريس طابع طائفي لأحداث غير طائفية، وإنما لها أبعاد اقتصادية أو اجتماعية، والتركيز على الآراء والرؤى والتحليلات التي تحمل قدراً من الإثارة والتهييج، وخلق التوتر بين المواطنين، والخروج عن حدود لياقة وأدب الحوار، وتحول النقد وحرية الرأي والتعبير إلى سب وقذف وإهانة، واتجهت بعض وسائل الإعلام إلى الهجوم على عقائد الآخر، وانتشار ظاهرة السجال الديني والسجال العقائدي وما شابه.
وبمتابعة بسيطة للشريط الإخباري وقراءة عناوين الأخبار سيجد المتلقي ان البلد يتجه الى الدمار وهو أمر فيه من المبالغة والترويع للمتلقي، وأيضا بقراءة مثلها للصحف المقروءة سنجد نفس التوجه ونفس القلق، ومثلهما حين تتابع الإذاعات المسموعة لتستمع الى نشرة إخبارية او برامج حوارية تفتقر الى الدقة والموضوعية والحياد، وتنحدر الى مهاوي تجعل المستمع متوترا وخائفا وقلقا، وما ان يتحول الفرد منا الى الشبكة العنكبوتية يجد نفسه منقادا بحكم الفضول الى قراءة ومتابعة صفحات ملغومة بالكثير من الأخبار والتصريحات التي تصفها المواقع الالكترونية بتوصيفات تتلاءم مع ولاءات القائمين عليها، بإهدار القيم المهنية بما يتمخض عنه حشد المزيد من مشاهد الرعب، ومن تشويه وتلوين وحذف وإضافة، وإثارة الفزع بين الناس، او إلحاق الضرر بالمصلحة العامة، فالجمل الإخبارية أصبحت توحي أكثر مما تبرهن، اما البرامج الحوارية فإنها على العموم غير حيادية، وتقوم على تنافر الأضداد وعلى التمترس، على أطراف الثنائيات مما يؤدي إلى تكريس الانقسامات الحادة القائمة على الصراعات السياسية والاجتماعية، فالعناصر اللفظية والمرئية، والخطية، والسمعية تشكل الخطاب الإعلامي وفق الصورة التي تتخيل فيها وسائل الإعلام جمهورها، وحسب مراكز اهتمامها، ووفق ظروف تأويلها لها، كما ان وسائل الإعلام تعملق ولا تعمق، فقد أصابنا تضخيم كلامي ولم تعد للكلمة قيمة في عملية الاتصال، إذ فقدت الكلمات قدرتها على الإبلاغ والتوصيل، وأصبح الكلام مضاربة تجارية للواقع، تجمل وجهها القبيح بالتحايل على اللغة، وأضحى تعبير مثل شيطنة أو تبشيع او أبلسة الخصم سائدا ومنتشرا في الحملات الإعلامية ضد الخصوم المحتملين، ان مشكلة الإعلام العراقي، تكمن في كونه وقع تحت تأثير الاستعمال السياسي وسجالاته وقصصه التي استنزفته وأبعدته عن هموم المتلقي العادي، إننا نحتاج إعلاماً هادفاً مؤنسناً، غايته وهدفه الإنسان ومغازلة آدميته، ويسعى بالدرجة الأولى إلى تحقيق أهداف وغايات اجتماعية مستوحاة من حاجات المجتمع الأساسية ومصالحه الجوهرية، عن طريق أنسنة الموضوعات, لتجذير وترسيخ القضايا الإنسانية, وكيفية المساهمة في إعطاء المساحة الكافية لها، هنالك ضرورة ماسة إلى إعادة النظر في الأولويات والتغطيات الإعلامية وحجم الجانب الإنساني فيها.
(*) يمثل هذا المقال خلاصة الكتاب الذي سيصدر قريبا للكاتبة تحت العنوان نفسه.
[email protected]