” يردلي يردلي سمرة قتلتيني ، خافي من رب السما وحدي لا تخليني ، انت على دينكِ وانا على ديني ، صومي خمسينكِ وأصوم ثلاثيني” ، هكذا كنا نترنم ذات حصار عام 2002 أنا وسركيس وجمال المولوي ونحن نستقل قطار – الشرق البطيء – كما يحلو لنا تسميته ، محتفين بالأغنية الفلكلورية الموصلية التي تختزل مشهد التعايش السلمي بأجلى صوره قبل تفتيت نسيجها وفرط عقدها الاجتماعي بخطة محكمة أعدت سلفا ، دعوة روميو المسلم لجولييته المسيحية “سمر” وتشجيعها على صوم 50 يومًا بما يعرف بـ” الصيام الكبير ” فيما يحافظ العاشق الولهان على صيام رمضان “30 يوما ” لم تعكر صفو حبهما العذري او تغضب أحدا على اختلاف أعراقهم وطوائفهم ، بل رسمت بانوراما حب تغنى به أبناء نينوى كابرا عن كابر ، إلتزام كل من العشيقين الموصليين بشعائره لم يفسد للود قضية ، بخلاف ما يجري اليوم وسيجري مستقبلا من تناحر تسيل من جرائه الدماء أنهارا زرعت بذوره أياد خفية بدوافع تأريخية واقتصادية وسياسية وجغرافية معقدة قبيل الكارثة وخلالها ومن يزرع الريح فلن يحصد غير العاصفة !!
المقلق في الأمر ان أحدا لم يعد يسأل عن أسباب سقوط الموصل صيف 2014 وما ترتب على ذلك من مآس ونزوح وتهجير تجاوز 3 ملايين شخص في نينوى والأنبار وديالى وصلاح الدين بانتظار مليون جدد بالتزامن مع بدء معارك الحسم اليوم والحواسم غدا على مستوى الأراضي والأملاك الخاصة والعامة وترسيم المناطق بين الكرد والعرب والتركمان والشبك ، بين المسلمين والمسيحيين والكاكائيين والأيزيديين ، بين السنة والشيعة ،بين العراق وجيرانه ، تمهيدا لتغيير ديمغرافي لا يعلم مدى خطورته وتداعياته الا الله وحده ؟ من الذي مهد لإسقاط الموصل إبتداء للوصول الى ما وصلنا اليه من واقع مرير اصبح حديث العالم بأسره ؟ لماذا تركت القطعات العسكرية والأمنية العراقية بمختلف صنوفها يومئذ معظم أسلحتها ومعداتها وذخائرها هناك من دون أن تقوم بسحبها أو إعطابها كما تفعل سائر الجيوش بما يعرف بسياسة الأرض المحروقة في حال الانسحاب المفاجئ ؟ أين السلاح الثقيل الذي غنمه داعش آنذاك والذي يقدر بأكثر من 4 مليارات دولار ؟ من المنتفع الأول والأخير من هذا السقوط المدوي لنينوى العريقة التي اتخذها الآشوريون عاصمة لهم سنة 1080 ق.م ولخمسة قرون لاحقة ، ومن ثم إعادتها بعد عامين على اجتياحها من قبل تنظيم مسلح ظهر من اللامكان على حين غرة وأين وصلت مجريات التحقيق في ذلك كله ؟
الطريق من المحطة العالمية في بغداد الى الموصل في إحدى فاركونات القطار يستغرق 10 ساعات وكان لابد لنا من قضاء الوقت بقراءة روايتين لهما شأن بنينوى وآثارها العريقة بقلم الروائية البريطانية أجاثا كريستي ، الأولى Murder” in Mesopotamia” او “جريمة في بلاد ما بين النهرين” ، و الثانية ” They Came to Baghdad” ألفتهما خلال مغامراتها هناك للفترة بين ١٩٢٨- ١٩٥٣ بمعية زوجها الآثاري ، ماكس مالوان، اثناء تنقيبهما عن آثار آشور و “النمرود” القريبة من الموصل ، ففي غرفة صغيرة بحي “الاربجية” شرقي المدينة القديمة ألفت الكاتبة البوليسية الأشهر العديد من أعمالها و أبرزها مسرحية (مصيدة الفئران ) التي ظلت تقدم لـ 60 عاما عبر 25 الف عرض مسرحي منذ عام 1952 ومن دون انقطاع .
فور وصولنا الى الموصل للمرة الألف والتي سميت بذلك كونها حلقة وصل بين الشام و بلاد فارس ، الى مدينة يونان كما في الإنجيل او النبي يونس كما في القرآن ، الى ” أم الربيعين ” لأن خريفها ربيع ثان ،الى الحدباء نسبة الى احتداب منارتها الملحقة بجامع النوري الكبير ، والتي تشبه برج بيزا المائل في إيطاليا ، كنا ننطلق كل الى غايته ، سركيس الى كنيسة اللاتين المعروفة بـ “كنيسة الساعة” قبل ان يفجرها التنظيم في نيسان / 2016اسوة بكنيسة ” مريم العذراء ” التي نسفها في شباط / 2015، وكنيسة ” كوركيس ” التي دمرها في تشرين ثاني / 2014 فضلا عن اديرة وكنائس أخرى انتهت بإعدام الشيخ المسلم ، عمر الموصلي ، على خلفية إحتجاجه على تلك الجرائم التي طالت مقدسات المسيحيين وممتلكاتهم والمطالبة بدليل شرعي واحد من كتاب أو سنة تؤيد عناصر التنظيم فيما ذهبوا اليه .
جمال الهائم بالمولوية مذ دراسته الجامعية في تركيا كان ييمم وجهه شطر جامع النبي يونس الذي نسفه التنظيم في تموز / 2014، يذهب بعدها ليصلي في جامع النبي شيت الذي دمر في اليوم التالي ، مثلثا بجامع النبي جرجيس الذي فجر بعد سابقيه خلال 48 ساعة وجميعها لعبت دورا فاعلا في الحراك الشعبي الذي سبق سقوط الموصل بعام واحد ، فهل كانت التفجيرات بمثابة عقاب جماعي يحمل بصمات اقليمية ؟ أم أن الأمر وكما يروج له المفجرون لا يعدو ان يكون هدما لمراقد يتبرك بها الناس وكان بإمكانهم درسها أو وضع حاجز يفصلها بدلا من نسف المساجد الآثارية التي تضمها بالكامل واختفاء مقتنياتها النفيسة!
كنت أقضي وقتي في مكتبة الموصل المركزية التي أحرقها التنظيم في شباط / 2015 ما اسفر عن احتراق 10 آلاف كتاب ومخطوطة نادرة نذهب بعدها في جولة سياحية بين غاباتها المعروفة لنعرج على آثار الحضر التي دمرها عناصر التنظيم بالمعاول في نيسان / 2015 والمتحف الذي دمر مقتنياته في شباط / 2015 تماما كما صنع بمعالم النمرود التاريخية التي جرفت بواسطة الشفلات ،اللافت ان كل معلم تم تدميره كان له دور تأريخي في هزيمة الفرس أو الروم يوما ما . هاجر سركيس الى ميتشغان والمولوي الى اسطنبول وبقيت أتابع سير المعارك الشرسة لإستعادة المدينة من اربعة محاور بالتزامن مع معارك حلب السورية ، بمشاركة 65 الفا من البيشمركة الكردية والجيش والشرطة الاتحادية و الحشدين الشعبي ( شيعي ) و العشائري ( سني ) و عناصر من الجيش الأميركي بإسناد جوي دولي تقوده اميركا .
ويبقى السؤال الملح ، هل ستحدث تصفيات عرقية وطائفية واسعة النطاق بعيد السيطرة على الموصل وإكمال مسلسل التدمير والتهجير والتغيير الديمغرافي الذي بدأه داعش ليشرع بعدها بتقسيم العراق ؟ هل يسعى بعضهم الى الثأر لهزيمة نادر شاه في تشرين الأول من عام 1743 على اسوار الموصل ؟ هل التنظيم المتطرف ولد من رحم افكاره وبيئته فحسب أم انه صنيعة الكل ليتسنى لكل منهم اقتطاع جزء من الكعكة ما يفسر الاتهامات المتبادلة اقليميا ودوليا بشأن الداعم والحاضن والمؤسس الحقيقي لهذا التنظيم الخيطي بقياداته الشبحية غير المنظورة ؟ ما هو مصير ضباط وطياري الجيش السابق الذي تضم مدينة الموصل أكثر وأكفأ عناصره ممن كان لهم الدور الأبرز في الحرب العراقية الإيرانية ؟ أسئلة حائرة ستبدي لنا الأيام بعض خفاياها ولكن بعد فوات الاوان .اودعناكم اغاتي