23 ديسمبر، 2024 4:36 ص

أنا والدكتور إبراهيم الجعفـري والطَطوة

أنا والدكتور إبراهيم الجعفـري والطَطوة

استلم الدكتور إبراهيم الجعفري رئاسة مجلس الحكم، كأول “عراقي” في المجلس حالفه الحظ للأبجدية في اسمه، وقررتُ مقابلته لأنقل له أفكاري وتطلعاتي نحو عراق أفضل وأرقى. كتبتُ أكثر من ورقة عمل، دونتُ فيها عصارة “خبرتي” لمعالجة بعض الإشكالات والتحديات التي تعصف بالبلد وقتها.

اتصلت بالسيد عدنان جواد ( أبو آلاء ) سكرتيره الشخصي وحددتُ موعداً للقاء “رئيس العراق”، وكان الموعد مساء الثلاثاء القادم في بيت الحاج ( ضياء الشكرچي ) في منطقة المنصور ببغداد، قرب مطعم ( زرزور )، وهذا البيت منحه الحاج ضياء للدكتور الجعفري كمحلّ إقامة مؤقت قبل انتقاله على بركة الله إلى أحد قصور صدام في المنطقة الخضراء.

أحد أصدقائي كان في زيارتي قبل يوم من الموعد، وبمجرد أن دخل الدار علينا وقال ( سلامٌ عليكم ) انقطع التيار الكهربائي وسقط ابريق الماء وانكسر، فأشار إلى نفسه الكريمة وقال: السالفة يمّي خويه، مو يمّ الكهرباء والزلازل!

كنتُ مشتاقاً لصديقي هذا رغم كمية الإحباط وعثرة الحظ التي يحملها، فقررت أخذه معي في هذه الزيارة الميمونة لرئيس مجلس الحكم. وحين عرضت الأمر عليه قال لي ..

: يمعود عوفني بحالي، آني أكبر مسؤول شايفة بحياتي ملازم أول، طبّ ابيت جيرانه ! آني گضّيت عمري كلّه افرار والفگر لاحگني.

..

كان الحاج أبو آلاء بانتظارنا عند البوابة أول الزقاق المؤدي إلى البيت، تجاوزنا أول سيطرة، وحين تركنا الحرس دون تفتيش وبّخته على ذلك.

جلسنا في حديقة الدار ننتظر مع جموع المنتظرين من الذين يدخلون ويلتقطون الصور مع جناب السيد، وحين سألني صديقي عن تاريخ معرفتي بالسيد الجعفري أجبته ..

: أعرفه من زمن، كان يتردد على الدنمارك، وكان مرشداً في حملة الحج معنا في حجتي الأولى سنة 1998، ( حملة الهدى لصاحبها الحاج أبو آلاء، سكرتيره الحالي ) وتعرّف الجعفري حينها على والدي ووالدتي القادمين من العراق لإداء مناسك الحج، زرته في بيته بلندن قبل الأحداث، والتقينا في بعض المؤتمرات والندوات، اتصل بي بعد وفاة والدي وأصرّ أن يصلّي صلاة الوحشة له في لندن !

الحاج أبو آلاء، يستعرض أمام الجالسين، مسدسٌ في خاصرته ويتحرك مزهواً ذهاباً وإياباً، وكلما أسئله عن ساعة اللقاء يجيب ..

: دقايق، بس أروح أجيب وزير الصناعة وأجي، السيد رايده .. ماشي .. دقايق، أروح أجيب مدير البنك المركزي وأجي، السيد طالبه .. صار .. لحظات، أجيب مدير الخطوط الجوية السابق ..

حتى أزفت الساعة وطلب مني السيد السكرتير الدخول على جناب السيد. رفض صديقي مرافقتي، كان خائفاً من أن يشع “بطَطويته”على اللقاء.

ها أنا الآن أخطو نحو الشخص الأول في العراق، سأقابل الرجل الذي يترأس سدّة الحُكم، وبيميني مفاتيح الحلّ للعراق الجريح.

أردد مع نفسي ..

” ها أنذا قادمٌ يا عراق، يا شعبي المسكين، أحملُ همومك وآمالك معي، لم يبق الكثير لتُحلّ مشاكلك وتزول هذه الغمّة، أيتها الأمة العراقية، إنّ ابنك البار فاضل عباس في طريقه إلى الصوت الأول في قرار العراق، فلا تبتأس بعد هذا اليوم أبدا “

.. لقاءُ السحاب ..

دخلت الصالة المعتمة وجلست، إذ لم أجد جناب السيد موجوداً، حتى أطلّ عليَّ بعد حين من إحدى الغرف الجانبية، الابتسامة حاضرةٌ على محيّاه، فابتهج كثيراً لوجودي، ومع شدّة ابتسامته انغلقت عيناه وخرج من صدره هديل المحبة، قمت وتقدمت حين تقدم نحوي وأخذني بالأحضان والقبلات، رائحة المسك حاضرةٌ كانت على خدوده، وأثر التربة الحسينية على جبهته، لم تزل تنطق بالصلاة التي أتمّها للتوّ.

جلستُ، ومن أدب الجلوس في حضرة المسؤول أن لا تبدأ الكلام حتى يفيض هو ببركات لطفه وعظيم عباراته، كلّي طموحٌ بأني سأوصل ما عندي من خطط وأفكارٍ إلى عطوفة معاليه.

تحركت شفتا السيد وبدأت نغمة الحروف تخرج رويداً رويدا، فيا لله والمجد الذي امتلكني وأنا انتظر خروج هذه الكلمات من فمه الشريف ..

: صَلّيت لو بعد ؟

توقف الزمن عندي، جمدت حواسيّ، الظاهرة منها والباطنة، فكّي السفلي بدأ يرتعش لعلّةٍ ما، إفرازاتٌ وهرموناتٌ بدأت تخرج من كل غددي الدرقية والبرقية وجميعها تعطي إجابة واحد لجناب السيد ..

( صُدگ تحچي ؟ )

خيّل لي في لحظات، أنني نصراني أو بهائي وتاه في الصحراء، نسيت ديني ودين آبائي من هول عبارته وأجبته بارتباك.

: يا صلا سيدنا ؟

فكان عطفه أعظم من شرودي، وحلمه أكبر جزعي، وحنانه أنقى وأرقى من قسوتي إذ أجابني.

: المغرب والعشه.

شلّني السيد بهذه الكلمات البسيطة، ولعل هذه واحدةٌ من أسراره العجيبة وفيوضاته التي نعجز عن فهمها نحن العوام المحض. حرت كيف أصنع، هل أقوم لأتوضأ ؟ أنا لا أعرف المكان. هل أصلي في حضرته ؟ هل أصلي من جلوس ؟ أنا حتى نسيت كيف أصلي يا سيادة رئيس مجلس الحكم !

وانجلت الغبرة، إذ كانت ابتسامته كفيلةٌ بأن تنزل غمام السكينة على عبدٍ فقير مثلي، وهنا تشجعت وعدت إلى امتلاك إرادتي الحقيقية القادمة من أجل عراقٍ أجمل وأحسن، فمددتُ يدي إلى أوراقي التي تركتها على الطاولة جنبي، لكن نبرة السيد في النطق أوقفت حركتي هذه، إذ خرجت غنّته الجميلة مع الحروف التي يتلذذ جنابه حين يخرجها من بين شفتيه.

التفتُ إليه تاركاً أوراقي، التفتُ إلى الرجل الأول في العراق لأسمع منه، التفتُ إلى المسؤول عن مصير شعب وثروات أمّة. بكل ما عندي من قوّة أحاول التركيز على كل حرفٍ سيلتحق بحرف في فضاء جمجمتي ليصيغ كلمات الحق لجملة العباقرة.

كان حرف ( الألف) هو أول حرف خرج، والألف دوماً فيه فحوى الخير والجمال، ففيه بداية الحلول، وبداية الشروع بالنهوض، وبداية كل منجزات البشرية، إنه الحرف الأول من لفظ الجلالة المقدس .. ثم تلاه حرف ( الميم )، فما أعظم ما سيقوله السيد، ألفٌ وميم، فلعلّها كلمة أمل العراق الذي سيحققه أو أمنيات الشعب التي سيعمل ساهراً عليها ليل نهار ليجعلها حقيقة واقعة، فالله الله فيما سيشدو به وكلّي ترقب يا أيها المعلم..

قال لي : أُمّــك اشلونها ؟

( يا قارئ كتابي .. ابكي على شبابي .. بالأمس كنتُ حيّاً .. واليوم “مبعورٌ” بحالي )

احمرّت وجناتي، لم أستطع أن أركز على الذي أصابني لحظتها، هل هو غَضبٌ أو تقزمٌ أم حالة تشظي وانبعاج حضاري، لكني، والحق الحق أقول، أحسست أن ذيلاً بدأ ينمو في مؤخرتي وينسلّ فوق إليتي ويطول ويطول.

التفتُ صوب الحديقة إذ يجلس صديقي الطَطوة ولسان حالي يخاطبه.

” تعال اگعد ورة الباب .. تعال اسمع وشيحچون “

إنها لحظة الحقيقة التي لم أنتظرها أبداً، فما لهذا الرجل وهذا المنطق ؟ هل هموم العراق ومشاكله الخرافية وكل هذا الخراب اختزل في الصلاة أو حالة أمي الأرملة الطيبة ؟

: سيدنه من رخصتك أروح آني، اشكر لطف وقتك الذي منحتني، والكلمات الرائعة التي سمعتُها .. “في أمان الله يا عراق “.

تحركتُ وتعثرت بخطواتي حتى وقفت على الباب المطلة على الحديقة وصديقي يلوّح لي بكفه المبارك وإبهامه السائل عن نتيجة اللقاء.

قلتُ له وقد شرعت بعلس الأوراق التي معي : بركاتك وصلت!

: خير خوما صار شي ؟

: سلامتك، بس أريد ألحگ على صلاة المغرب والعشه، واشوف أمّي اشلونها.

..

بعد أشهر من هذا اللقاء، صار اتصال بيني وبين السكرتير الآخر للسيد الجعفري، أبلغني الحاج أبو حوراء ( أياد بنيان ) بأن السيد مشتاق لرؤيتي ويرغب بلقائي فأجبته بالنص.

: قل لجناب السيد أني غير مشتاق له، وعندي موعدٌ مع صاحب بسطية وسأذهب له. و” لن ” أقابل جناب الدكتور مرّة أخرى.

..

تصبحون على وطن

 [email protected]