18 ديسمبر، 2024 7:41 م

بودي أن أبدأ بسؤال لطرح هذه الجدلية، وهو: ما الأسباب التي تدفع أحدنا لرفض أفكار وآراء غيره؟.
قد يكون الجواب التقليدي لهذا التساؤل هو عدم ملائمة أفكار الغير للثوابت الداخلية للفرد، لهذا ترفض المنظومة الفكرية للفرد كل فكرة أو رأي يخالف قواعدها. لكن هذا جواب مجمل وسطحي ولا نقف من خلاله على الموانع الدقيقة لرفض الأفكار المخالفة.
ان نظرنا بعمق تفصيلي للمسألة فسنجد عدة دوافع لهذا الرفض، والتي من أهمها:
الدافع الأول: حب الذات، والذي يتولد عنه محبة كل ما ينبع من تلك الذات والتمسك به على أنه الحق والصواب وما دونه باطلاً وخطئاً.
الدافع الثاني: محدودية المساحة العقلية المصطنعة، والتي تجعل من التحرك الفكري مقيداً بثوابت عقلية لا يتعداها، فليس بمقدور صاحبه أن يستوعب أفكار وآراء مخالفة أو مختلفة عن تلك الثوابت التي اعتاد على معطياتها واستأنس بها.
الدافع الثالث: وقد يكون هو أهم هذه الدوافع وأبلغها أثراً، هو وهم وحدة الحق او الصواب وعدم تعدده، فيميل الفرد عقلياً وعاطفياً الى أن الصواب في أي أمرٍ كان هو واحد، وغيره من الأفكار والاحتمالات خاطئة وباطلة؛ لذا ترانا إن اعتقدنا بصحة فكرة أو رأي فسوف لن نلتفت لغيره، ظناً منا أن مادام الحق والصواب هو ما لدينا فإن ما لدى غيرنا هو الخطأ والباطل، وبالمقابل سينظر الشخص المخالف لنا بنفس النظرة، على أن ما بين يديه هو الحق، وليس بين ايدنا سوى الباطل، وبالتالي ينشأ التخالف والتعاند، ويؤدي الى الصراع الفكري الذي بمجموعه يولد الصراع الحضاري.
وهذا الوهم يعود الى الضيق العقلي الجمعي.
إن الواقعة الواحدة أو الفكرة الواحدة حينما تُعرَض على عدة افراد؛ فسوف يرى كل فرد –بوجه عام- من تلك الواقعة ما يخالف فيه رؤية الاخر، مخالفة كليةً أو جزئية، وبما أن الواقعة او الفكرة واحدة؛ فإن منشأ هذا الاختلاف يعود لمجوعة أساب محتملة:
السبب الأول: إن قلنا بوحدة الحقيقة، فسيكون السبب هو التفاوت الفكري أو المرتبي عموماً لدى هؤلاء الافراد، فكل فردٍ ينظر بالنظرة التي تمثل مستواه الفكري والثقافي والعاطفي؛ فيرى جزء المعلومة أو جزء الواقعة المناسبة لمرتبته.
السبب الثاني: وهو يعود الى اختلاف زاوية النظر بين الناظرين، فكل فرد ينظر من الزاوية القريبة الى مجموع ميوله، فأحدهم ينظر الى الكتاب مثلاً من زاوية معلومات الكتاب، والأخر ينظر الى أسلوب الكاتب والأخر ينظر الى بلاغة وفصاحة الكلمات، وقد ينشغل الرابع بالنظر الى صور الكتاب، وبالتالي سيكون هنالك اختلاف بين هؤلاء الافراد إن طالبناهم بتقييم ذلك الكتاب.
السبب الثالث: وهو الكائن في الواقعة أو الفكرة وليس بالأفراد الناظرين لها؛ وذلك، فقد يكون للحدث او الفكرة الواحدة عدة مراتب من الحقيقة والصواب فلا تقتصر على حقيقة واحدة أو على مرتبة واحدة من الحقيقة، فأنا أرى من هذه الواقعة أو هذه الفكرة ما يدل أو يشير الى كذا أمر، وانت ترى أنها تشير وتدل على أمرٍ مغايرٍ، وهكذا الثالث والرابع، وهنا يرى كل صاحب فكر أن ما وصل اليه أو استنبطه هو الحق وما سواه باطل، والواقع إن كل فرد نظر الى مرتبة عطائية من تلك الواقعة او الفكرة، فقد يكون كله حق أو مراتب متعددة حوتها حقيقة ذلك الحدث، فليس من المستنكر أن يعطي الحدث الواحد عدة حقائق، كل حقيقة في مرتبة معينة تناسب مستوى أصحاب تلك المرتبة، وحينما يلتفت صاحب المرتبة الاولى التفاتاً معمقاً فقد يبصر المرتبة الثانية ويتخلى عن الأولى التي أوحاها له الحدث أو النص أو غيره، لعدم التناسب.
فاذا نظرنا الى كل الاحداث الفعلية او الفكرية على أن لها مراتب متعددة حينها سنستبعد فكرة أن الصواب واحد وما سواه خطأ، بل سنبصر أن للوقائع عدة مراتب وكل مرتبة تناسب شريحة من الناس، حينها سنجد أن الاختلاف في الفهم أو النظر أو التقييم هو حالة طبيعية ونظامية يُفاض من خلالها العطاء الفكري والعملي لكل فرد على اختلاف مستوياتهم، وإلا فإن كانت للأشياء حقيقة واحدة أو مرتبة واحدة من الحقيقة على الصعيد الفكري أو العملي فسوف يستفيد منها أفرادٌ معدودون ويُحرم الاخرون منها.
نعم ان المرتبة الأولى لتفسير الحدث هي خطأ بالنسبة لصاحب المستوى الثاني وهكذا تصاعداً، لكنه حق لصاحب المستوى الأول، بل الامر أكثر من ذلك، إن المرتبة الأعلى لعطاء الحدث أو الفكرة هي خطأ وباطل بالنسبة لصاحب المستوى الأدنى.
وعليه، إن نظرنا بهذه النظرة فلن يكون هنالك مجال للعناد والإصرار الاعمى على صواب نظرتنا وخطأ نظرة الاخر، حينئذ سيتجاوز الفرد النظرة التقليدية للصواب والخطأ، وتتولد لديه القدرة لاستيعاب الاخر المخالف والنظر لمستوى فهمهِ والذي قد يكون هو الأنسب لي الآن او المستقبل، وإن لم يكن فهو الأنسب له.