18 ديسمبر، 2024 10:14 م

الرثاء,احد فروع الأدب العربي,شعره ونثره,حيث يعمد المتحدث إلى ذكر محاسن المتوفّى والتنويه بها في محاولة لجعل الخلف يتمسك بتلك المناقب,ورثنا ذلك كابرا عن كابر,كثرت المراثي في وقتنا الحاضر لأن أعداد الوفيات سواء الطبيعية منها أو المضحى بها,فاق كل تصور,معشر الحاضرين,تنادينا لتنفيذ أوامر ندرك سلفا أنها جرائم بحق الإنسانية,عن سبق إصرار وترصد,سرقنا حياء ذو النورين,اغتصبنا فقه علي وحبر الأمة,غدرنا بالسموأل,عِبْنا على الفاروق عدله فالرعية لا تستحق,لأننا نريد أن نصنع أمجادا مزيفة, ليذكرنا أتباعنا,قد نختلف في تصنيف الميت,محسنا أو مسيء ولكنه يظل عزيزا على ذويه,فتؤلف في حقه المراثي الطوال,والكلمات التي تجعلنا نقف مشدوهين أمام جسد مسجّى,وندعو له بالرحمة والغفران,قد يعتبره بعضنا شهيدا وقيل بأن هناك سبع أنواع للشهادة,وبالتالي ضمن الجنة سلفا.
بين الفينة والأخرى يزف إلينا خبر انتقال البعض إلى الدار الآخرة,نواكب ترحاله إلى مثواه الأخير, موشحين بالسواد,متجهمين,مقطبي الجباه,تسخر كافة وسائل الإعلام المقروءة والمكتوبة والمرئية الرسمية منها والخاصة للحديث عن الذي غادرنا,قد نسمع أشياء لأول مرة,ربما تكون بعض أعماله لم تنشر بعد,فيسارع الخيرين إلى تقديمها إلينا في أحسن حلة.
أخريات أيام إن لم نقل سنوات الكثير من الذين انتقلوا إلى الرفيق الأعلى,تكاد تكون جد مؤلمة لهم,البعض كان يسكن في فندق ونسمع عن أناس غرباء يقومون بالإنفاق عليهم ويسهرون على راحتهم,في حين أن أقربائهم,فلذات أكبادهم لم يحيطوا بهم بل يسعون وراء المادة,وعندما يسمعون بالخبر يذرفون دموع التماسيح,تخلوا عن الروابط الاجتماعية,لم يعد للأبوين معنى,كأننا أفراخ الحضانات,بمجرد خروجنا إلى الحياة نعتمد على أنفسنا,فتبا لهكذا خلف وينطبق عليهم المثل القائل(إمنين حي مشتاق البسرة وين مات علّقوا له عرجون).
أبناء الأمة الخيرون من عسكريين(تجنيد إلزامي أو إراديا لعدم وجود عمل) لا يكرمون في حياتهم, بل بعد مماتهم,تنكس الرايات,زخات من الرصاص قد تصيب بعض الحاضرين,تنتهي مراسم العزاء,تقطع الجراية”المرتب” عن ذويه لأشهر ربما يضطرون إلى التسول لأن المعيل قد رحل, وانعدمت لدى ساستنا قيم الوفاء,فمن مات فات.
انتفاضات الربيع العربي أحدثت تغييرات في الشكل,ذهب ديكتاتور وجاء آخرون,إنهم اشد فظاظة,كانت المطالب الخبز والحرية والكرامة,الثمن كان باهظا,سمح للعامة بان تفتح أفواهها للتعبير,المدة لم تدم, فمن لم تطاوله أيدي الإرهابيين,أصبح جوفه خاويا لم يجد ما يأكله فاضطر إلى السكون,لقد أتيحت لجمهور الحاضرين المقارنة بين الماضي السيئ والحاضر الأسوأ,أما المستقبل فصار كابوسا يعشش في رؤوس الجميع بمن فيهم الأطفال الذين نعتقد أنهم لا يميزون (إنها أيام منها الرضيع يشيب).
هذه هي أحوال الأمة اليوم,تُكّرم من غادر الحياة,ربما فرحا في أنها لم تعد تطيق بقاءهم,لأنهم يسببون مشاكل للآخرين الذين يسعون وراء مصالحهم الشخصية,ولا قيمة للوطن عندهم,ربما أن هؤلاء جاؤوا قبل موعدهم فعاشوا غرباء,فكان الرحيل المبكر اشرف لهم من البقاء في زمن تداس فيه المقدسات وتنتهك الحرمات.الحاضرون أحق بالرثاء,فهم أموات يمشون على الأرض,مغشي عليهم,لا يدركون ما يفعلون,بل يظنون أنهم يعيشون حياة البرزخ.امة لا تُجِدْ سوى الرثاء,أصبحت بيئة لشذاذ الآفاق,فتداعت عليها سائر الأمم.