22 ديسمبر، 2024 8:34 م

منذ نعومة اظفارنا وقبل أن نفقه معاني اللغة وبليغ الكلام , كانت أمي تصر أن تعلمنا كل معاني الاخلاق والتسامح وقيم الرجولة واحترام الناس ,كل الناس باختلاف الوانهم ومذاهبهم وتوجهاتهم, وعلمتنا الوفاء والاخلاص وعلمتنا أن الوطن واحد من اقصى الشمال لآقصى الجنوب ولا يقبل القسمة على اثنين , وعلمتينا أن لا ننافق ولا نجامل على حساب الحق ولا نخدع احدا ولا نغش ولا نزور ولا نسخر ولا نكفر بالنعمة وان لا ننكث عهدا ولا نفشي سرا. كانت أمي كادحة , من عملها على ماكنة الخياطة وسهرها حتى الصباح تصرف علينا لنكبر ونتعلم وننجح وتستمر حياتنا , فكانت تلبسنا احسن الملابس, ولم نشعر يوما أن هناك نقصا في البيت فكل شئ متوفر حتى قبل أن نطلبه, ولم تجعلنا نحتاج لأحد في يوم ما في زمن كان الفقر والعوز يضرب الكثير من البيوت والناس, ورغم غياب أبي المستمر عن البيت , ولكونه الرجل الوحيد في عائلته فلم يكن لدينا أعمام, ولكون أخوالي بعيدون عنا, فكانت أمي هي الاب والام والعم والخال والعشيرة والصديق والمعلم, ولم تبخل يوما علينا ولم تقصر ولم تجزع ولم تنزعج ولم تترك البيت يوما ,ولم تصب بالاكتئاب ولم تراجع طبيبا نفسيا وسيما, ولم تحاول الانتحار حينما اكتشفت خيانات أبي ومغامراته التي ضاهت مغامرات سندباد وعلي بابا, حيث كانت هواياته جمع اكبر عدد ممكن من العلاقات النسائية الشرعية طبعا !! ولم تطلب الطلاق رغم جرح كرامتها وتجاوزات ابي المتكررة وخروقاته لعهوده التي تتبخر مع أول أمرأة جميلة يصادفها!!.
كانت أمي مدلله عند اهلها , ولم تتحمل أي مسؤولية في بيت أبيها, فوالدها تاجر معروف ويملك الكثير من الاملاك في مدينة السماوة, وفجأة وجدت نفسها زوجة واما لأكثر من ولد وبنت تنفيذا لرغبة أبي بان تنجب له كل ثلاثة شهور طفلين, ومع كل الأعباء التي عانتها فأنها تحملت وواصلت المشوار حتى النهاية, وتبعت أبي حيثما يكون, وأجتازت بصبرها وكفاحها كل مطبات الحياة, حتى مرض والدي الذي جعله يتنقل من طبيب الى اخر ومن مشفى داخل البلد لآخر خارجه, وهكذا صارت أمي الممرضة التي لا تفارق ابي وأضيفت وظيفة جديدة الى مهامها العديدة, وبدا عليها التعب بمرور الوقت وانحنى ظهرها وتغير شكلها فبعد أن كانت تشبه تحية كاريوكا صارت تشبه نائبة بالبرلمان, ووسط كل مهامها الجسيمة وألامها وأحزانها وعزلتها, غير انها مثلت كل العناوين الجميلة بحياتنا فهي الشمعة التي تضئ لنا الدرب, والقدوة الاخلاقية العظيمة, تعلمنا منها أن لا نأكل طعاما الا ونتقاسمه مع الجيران, ولا ندخر دينارا واحدا وغيرنا يحتاجه, عهدناها تفرح لفرح الناس وتحزن بحزنهم, وما سمعناها يوما تكلمت الا بالحق, وما عرفناها الا تقية وفية مؤمنة صادقة, مثلها الآعلى فاطمة الزهراء, وهكذا صارت مثالا للوفاء والاخلاص يحتذى به امام كل نساء المدينة, حتى قالوا عنها ليس أوفى من الشيعية !!, حيث كانت امي من أنبل الشيعة وأنقاهم وأتقاهم وما كانت تربينا الا على اخلاق علي وتضحيات الحسين وشجاعة عمر, وما علمتنا ان نفرق بين احد منهم, وبسببك صرنا نرفع رؤوسنا عاليا فخورين وسط الناس. كنتي وما زلتي يا أمي منارتي التي لا ألمح غيرها, ولا أتصور حياتي بدونك, وما يؤلمني هو مرضك الذي انتقلت الى كلية الطب بسببه أملا أن يشخص طبيبا علتك فترتاحي. سلام على قلبك المتعب, لعله ينصاع الى توسلاتي ويبقى نابضا عاملا دون توقف, سلامي لشرايينك المسدودة ولمفاصلك المتصلبة وعظامك المنخورة ولعمودك الفقري المنحني, والف قبلة أطبعها على خدك ويدك وقدمك وأنتي تذوبين وتضمحلين أمام ناظري وأنا عاجز, وبالرغم من كل تضحياتك وألآمك وأنتي تفقدين فلذات كبدك واحدا تلو الاخر لكنك بقيتي مؤمنة ومحتسبة ومحبه لهذه الوطن, الوطن الذي ينام على فراش الموت, لكنه يضم في ثراه أغلى من أحببتي : علي والحسين وأبنك الشهيد مهدي!!, اقدم لك كل امتناني وانتي أخترتني دون اخوتي الباقين ان تعيشين معي, أن يعيش احدنا للأخر ,أن نقضي اوقاتنا سوية بكل صدق ورقة, شكرا لكل تضحياتك وخاصة فلوسك التي اهديتها لى دون علم اخوتي, والمؤلم في مقالتي , أنك مع مرضك لن تتمكني من قراءتها, قبلاتي لرأسك الجليل المثقل بالحنين الى مقبرة النجف وتلك وصيتك لي حيث اهلك واحبابك!!.