23 ديسمبر، 2024 1:26 م

أمير الحلو وروسيا

أمير الحلو وروسيا

اتابع ما يكتبه الاستاذ أمير الحلو في الصحافة والمواقع العراقية لأني من المعجبين بكتاباته الممتعة والرشيقة والذكية , وكنت حريصا على شراء مجلة الف باء في الايام الخوالي وتصفحها رأسا( من اليسار الى اليمين) لمتابعة عدة فقرات فيها , ومنها ( آراء حرة ) التي كان يكتبها امير الحلو عندما كان رئيسا لتحريرها. لقد تعارفنا عام 1972 عندما عملت في وزارة الثقافة والاعلام , وكان الاستاذ أمير الحلو مديري المباشر, واعجبت جدا باخلاقه الراقية وادارته الديمقراطية الهادئة وبساطته وتواضعه وعمق ثقافته وروحه المرحة , ثم انتقلت للعمل عام 1973 من الوزارة الى قسم اللغة الروسية بجامعة بغداد , و هكذا ابتعدنا عن بعض ولكننا احتفظنا -عن بعد – بعلاقات الود والاحترام المتبادل تجاه بعضنا طوال الوقت . تغير الحال بعد عام 2003 بالطبع , واطلعت على مقالات امير الحلو حول روسيا ولينين وستالين وثورة اكتوبر الروسية عام 1917 , واستوقفتني مقالته بعنوان ( علاقة ثورة اكتوبر بجليكانات البانزين ) المنشورة في 6/9/ 2009 . يشير الحلو هناك الى انه – ( قومجي منذ نعومة أظفاره ) , ولكنه – مع ذلك – يدافع عن ثورة اكتوبر البلشفية الروسية وقائدها لينين ,بل ويختتم مقالته تلك بالهتاف بحياة الثورة هذه وقائدها , ويسمي ستالين ب ( الجبار ) ويدعو الى الاعتراف بقوته وشخصيته وجبروته وانجازاته .. وتذكرت – وانا اطالع تلك المقالة – ما حدث اثناء زيارة احد الصحفيين اليوغسلافي الاصل والامريكي الجنسية لبغداد عام 1972 , والذي رافقته طوال فترة زيارته للعراق بحكم عملي في وزارة الاعلام , وكنت اتحدث معه بالروسية . لقد قال لي هذا الصحفي الهارب آنذاك من يوغسلافيا الاشتراكية الى الولايات المتحدة الامريكية ان أمير الحلو شيوعي, فابتسمت

وقلت له ان هذا الاستنتاج غير صحيح , فقال معترضا , انه متأكد ان امير الحلو شيوعي لأنه كان في ضيافته في بيته ورأى تمثالا نصفيا صغيرا للينين في مكتبته , وبالنسبة لذلك الشخص بتلك السيرة الذاتية وعقليته المحدودة وذات السمات الامريكية الساذجة و شبه المغلقة فان هذا دليل دقيق وثابت واكيد ولا يقبل الشك على ان هذا الشخص شيوعي , وحاولت اقناعه بعدم صحة هذا الرأي و تلك النظرة الاحادية للامور , بل وحتى الساذجة , ولكني لم استطع , ولهذا لم ارغب الاستمرار بالنقاش معه , ولم اتحدث مع الحلو بذلك لان ظروف تلك الفترة لم تكن تسمح بهذا طبعا , و باختصار , تذكرت هذه الحادثة القديمة جدا عندما قرأت مقالة أمير الحلو تلك عن ثورة اكتوبر , وهي مقالة جميلة جدا , وتمتعت اثناء القراءة وشعرت بصدق مشاعرها و كلماتها واقتناع كاتبها بكل ما جاء فيها فعلا , ولكني وجدت في ثنايا سطورها ايضا عدم المعرفة العميقة والدقيقة بالتاريخ الروسي وبالشئ الذي يجري ويحدث الان في روسيا المعاصرة, وهي صفة عامة عند مثقفي العراق بالنسبة لروسيا , لأن مصادر المعرفة عن هذا البلد جاءت بالاساس من رافدين اثنين , الرافد الاول مناصر متطرف ومؤيد مطلق للتجربة السوفيتية بغض النظر عن كل سلبياتها والرافد الثاني مضاد متطرف وبشكل مطلق ايضا لتلك التجربة بغض النظر عن كل ايجابياتها , وكلاهما – ومع الاسف – لا يعرفان بشكل صحيح وعميق وموضوعي تاريخ روسيا ومسيرتها الفكرية وواقعها المتشابك , واذكر اننا – الطلبة العراقيين الاوائل في ستينيات القرن العشرين بالاتحاد السوفيتي – كنا نجتمع فيما بيننا بعض الاحيان في القسم الداخلي ونتذكر – بمرح الشباب ومشاكساته – الحكايات التي سمعناها في العراق عن روسيا قبل سفرنا , بين مفاهيم ( الجوع الرهيب والبرد القاتل والتدفئة بالفودكا والخبز الاسود والهلاك في سيبيريا ) وبين ( الحنفيات التي تصب الحليب مباشرة في الشقق السكنية للمواطنين السوفيت السعداء ) , ولا زلت اقهقه لحد الان , وبعد مرور حوالي نصف قرن , عندما اتذكر احد اصدقائي المرحين وقد( اصطاد) ذبابة وركض بها الى احد الرفاق

العراقيين الذي كان يؤكد ( عدم وجود الذباب في موسكو) ليثبت له خطأ( نظريته !!) , والامثلة كثيرة ومتنوعة جدا جدا , ولكني اريد ان اشير هنا الى مسألة مهمة فعلا, ومرتبطة بالطبع بهذه الوضعية العامة والسائدة في بلداننا التي لا زالت في بداية مسيرة تطورها ونضوجها وتنميتها في المجالات كافة, و هذه المسألة – هي عدم استيعابنا وعدم اعتراف مجتمعاتنا لحد الان بمفهوم التخصص الدقيق في الكثير من الفروع العلمية المعروفة , ومنها (علم البلدان ), والذي لا زلنا لا نعترف به اصلا حتى كعلم مستقل , رغم ان اسسه قد وضعها فخر امتنا العظيم احمد بن فضلان في القرن العاشر الميلادي , وعلى هذا الاساس اطرح سؤالي الآتي هذا – من هو العراقي المتخصص , او حتى العربي المتخصص , مثلا , بالشأن الروسي او الامريكي او البريطاني او الفرنسي …الخ , والذي يستطيع ان يقول كلمته الفاصلة والحاسمة في هذا الشأن او ذاك ؟؟؟, والجواب عن هذا السؤال معروف طبعا , واذكر ان الشخصية العراقية العلمية المرموقة المرحوم البروفيسور الدكتور القطيفي – عميد كلية القانون بجامعة بغداد, (( والذي أصدر صدام حسين أمرا باقالته من منصبه الجامعي وتجريده من لقبه العلمي نتيجة رسوب طالب عسكري يعمل في القصر الجمهوري آنذاك في امتحان تحريري بالمادة التي كان يقوم القطيفي بتدريسها وبالتالي بتصليح دفاترها الامتحانية ذات الارقام السرية )) قال لي مرة, اجابة عن سؤالي له حول سبب انتقاله للعمل وكيلا لوزارة الخارجية ايام المرحوم عبد الكريم قاسم , انه التقى بالصدفة وزير الخارجية آنذاك المرحوم هاشم جواد , واقترح عليه الوزير ان يعمل معه في الخارجية باعتباره خبيرا قانونيا في الشأن الايراني , اذ ان اطروحته في فرنسا كانت عن العلاقات العراقية – الايرانية , ولكن القطيفي رفض العرض وقال له انه استاذ في جامعة بغداد ولا يرغب الانتقال منها والعمل في وزارة الخارجية , فاقترح عليه الوزير عندئذ ان يداوم مساء في الوزارة ليس الا , ليطلع على الموضوع وابداء الرأي , فوافق القطيفي , ووجد , كما قال لي ( غرفة كاملة تحتوي على وثائق العلاقات العراقية – الايرانية منذ تأسيس الدولة العراقية ) واطلع

عليها – اثناء دوامه المسائي بالوزارة – بدقة وروح علمية موضوعية وكتب بعد ذلك تقريرا تفصيليا للوزير حول تلك العلاقات مستندا الى الوثائق التي اطلع عليها والى خبرته الطويلة والعميقة بالطبع في الشأن الايراني , وقد اطلع الوزير على ذلك التقرير واعجب به اعجابا شديدا, وقرر ان يرسله للاطلاع الى المرحوم عبد الكريم قاسم باعتباره رئيسا للوزراء , وعندما اطلع قاسم على ذلك التقرير العلمي العميق أصدر أمرا بتعين القطيفي وكيلا لوزارة الخارجية رأسا , وهكذا اضطر القطيفي الى الانتقال من جامعة بغداد للعمل في وزارة الخارجية وبقي في ذلك المنصب الى الانقلاب الاسود و الدموي في 8 شباط 1963.

ان الكتابة عن روسيا وتاريخها وحاضرها يقتضي بلا شك التقصي الدقيق والنظرة المعمقة والاطلاع المتعدد الاوجه والدائمي على مسيرة احداثها المتشابكة والمعقدة , ويجب ان نتذكر ان هذه الاحداث لا زالت متواصلة الى حد هذه اللحظة التي اكتب فيها الان ونحن في عام 2014 , وقد شاهدت قبل ايام ليس الا برنامجا في احدى قنوات التلفزيون الروسي يناقش فيه المشتركون بالبرنامج موضوع امكانية محاكمة غورباتشوف ويلتسين بتهمة المساهمة المتعمدة في عملية انهيار دولة الاتحاد السوفيتي , وقرأت اليوم خبرا يشير الى ان نسبة 61% من المواطنين الروس الذين جرى الاستفسار منهم يؤيد دفن لينين جنب قبر والدته وحسب وصيته التي ابقاها , وان هؤلاء يتحدثون بالطبع عن الجثمان وليس عن الافكار , وقد بيٌنت احداث اوكرانيا الاخيرة موقع لينين وتمثاله واهميته ورمزيته الهائلة في مسيرة تلك الاحداث الكبيرة , اما شخصية ستالين فانها لا تزال تثير النقاشات العاصفة والحادة في مختلف الاوساط الروسية , وقد جاء اسمه في المرتبة الثالثة في برنامج تلفزيوني بثته قناة روسية قبل فترة قصيرة لاختيار شخصية روسية ترمز الى اسم روسيا , وشاهدت صورة كبيرة له معلقة على واجهة جامعة اهلية في داغستان وتحتها جملة – شكرا لك على النصر, وعندما استفسرت حول ذلك أجابوني , انه كان رئيسا لنا وقائدنا عندما انتصرنا على المانيا النازية في الحرب العالمية الثانية , وبالتالي

فنحن نشكره على ذلك , ولكن بعض المحيطين بنا قالوا غير هذا وأخذوا يتكلمون عن افعاله التعسفية الرهيبة ودكتاتوريته المقيتة , اما ذكرى ثورة اكتوبر فان الكثير من المواطنين الروس والقوى السياسية الروسية لا زالت تتحدث عنها بحيوية ولا زالت تثير النقاشات الحادة حولها سلبا او ايجابا , وباختصار, فان تلك المواضيع التي أثارها الاستاذ أمير الحلو في مقالته تلك لا زالت ملتهبة في الحياة الفكرية الروسية , كما هو الحال بالنسبة لبعض المواضيع الكبرى في الحياة الفكرية لكثير من بلدان العالم , بما فيها طبعا العراق , اذ اننا مثلا لا نزال نناقش احداث 14 تموز 1958 وتبعاتها رغم مرور اكثر من خمسين سنة على كل هذه الاحداث , ونناقش احداثا اخرى سبقتها او حدثت بعدها . أليس كذلك يا أخي العزيز أبا خالد؟