بين فترة وأخرى تظهر هناك بعض الدعوات التي يريد أصحابها تنزيه الفكر الإسلامي أو إضافة ما يستجد من متناقضات طارئة على الأصل الذي فرغ منه وأصبح من المسلمات التي لا تقبل القسمة، وربما يكون أصل تلك الدعوات نابع عن حسن نية ولكن في الوقت نفسه لا يمكن إخراجه عن الجهل الذي مني به بعض الناس، ومن هنا نود القول إن الكمال الإنساني الذي يتصف به الأنبياء لا يأتي من خلال المسيرة الحضارية التي هي من صنع البيئة التي ينشأ فيها النبي، وإنما يكون مرد ذلك الكمال إلى ما يتفرع عن الحكم الإلهي “كما سيمر عليك في هذا المقال” ولهذا نرى أن المغالين في هذا الإتجاه قد تجاذبتهم الكثير من الأوهام مما أدى إلى وقوعهم في أخطاءٍ لا حصر لها، وعند البحث في أسباب هذا الأمر نجده لا يخرج عن تعلقهم بالقياس الباطل الذي تناقلته الأجيال، حتى وصل بهم الظن إلى أن ذلك المحمول لا تمتنع لوازمه عن الترقي في السمو الذي لا يفارق الحياة المادية وما يتفرع عليها من زينة وزخرف، وهذا لا يتأتى إلا عن طريق المعارف الإجمالية وما يتدخل به تأريخ الإنسان، ومدى حصوله على الذكر الذي يخلده في هذه الأرض فضلاً عن الوصول إلى السعادة الأبدية التي أعدها الله تعالى للمخلصين من عباده.
والمتأمل لهذا المعنى يجد أن هؤلاء الناس قد وضعوا الكثير من الإضافات التي ظنوا أنها تخدم المسيرة التأريخية للأنبياء، إضافة إلى ما أسبغوه عليهم من صفات مادية هم في غنى عنها، إذا ما ظهرت لديهم الملامح الإعجازية التي أيدهم بها الحق سبحانه، ولا يخفى عليك مدى القياس بين الوجهتين، علماً أن مقومات الوجهة الثانية لا يمكن أن تستقيم، إلا بعد ظهور علائمها على حقيقتها دون الرجوع إلى الجدال القائم بين العلماء والذي تأثر به الكثير من عامة الناس. من هنا يظهر أن التكليف العام الذي ألقي على عاتق الأنبياء، لا يمكن أن يكون مطابقاً لما كلّف به أقوامهم، ويتفرع على ذلك جميع ما شرعه الله تعالى للأنبياء دون غيرهم، كما في طريقة العيش أو عدد النساء التي أحلت لهم وما إلى ذلك، وقد أشار سبحانه إلى هذا المعنى بقوله: (يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك مما أفاء الله عليك وبنات عمك وبنات عماتك وبنات خالك وبنات خالاتك اللاتي هاجرن معك وامرأة مؤمنة إن وهبت نفسها للنبي إن أراد النبي أن يستنكحها خالصة لك من دون المؤمنين قد علمنا ما فرضنا عليهم في أزواجهم وما ملكت أيمانهم لكيلا يكون عليك حرج وكان الله غفوراً رحيماً) الأحزاب 50.
من هنا نعلم أن ما كلف به الأنبياء لا يمكن أن يفرض على أقوامهم في كل ما أمرهم الله تعالى به “وهذا خارج عن السنة النبوية فالحديث عنها له شأن آخر” ولهذا نرى أن الكثير من المناقب التي وهبها الله تعالى لهم، لا تبتعد عن الأمر التكويني الذي يصاحب الامتياز المستحق والمتعارف عليه لدى الأنبياء دون أن يخرجهم ذلك عن الطبيعة البشرية، وأنت خبير من أن تحريم المراضع على موسى، كان تحريماً تكوينياً، ولهذا فقد امتنع عن التقام أثداء النساء وهو في أمس الحاجة إلى الرضاعة، وهذا المعنى لا يختلف كثيراً عن حفظ يوسف في غيابة الجُب، وكذا يونس في بطن الحوت، أو بتعبير آخر يمكن القول إن لكل نبي خاصية تميزه عن قومه كما أسلفت. من ذلك نفهم أن الحديث المنتشر بين الناس عن أمية النبي محمد “صلى الله عليه وسلم” والتي جعلوا أهم أسبابها يؤول إلى إبعاد من يرتاب من قومه في صدق
دعواه، أو أن هذا القرآن هو من عند النبي باعتباره يجيد القراءة والكتابة حسب ظنهم، فهذا لا يمكن أن يعتمد بوجه. وبالإضافة إلى ذلك فإن هذا التأويل لا تكتب له الاستقامة إذا ما عرض على متفرقات القرآن الكريم، باعتبار أن النبي لا يمكن أن يستمد علومه، إلا عن طريق الوحي، وهذا ما يغنيه عن القراءة والكتابة.
وبناءً على ما قدمنا يظهر أن هذه الخصوصية التي ألقيت على عاتق النبي لا تخرج عن الأمر التكويني الذي حصل بواسطته على العلم، دون أن يكون للإنسان يد في ذلك، وعلى هذا فالأمية في النبي هي أمية تكوينية، وما يحصل عليه من علم فهو من عند الله تعالى، ولمّا كان الأمر كذلك فهذا لا يقدح في شخصه أو يجعله دون الآخرين، وإنما يجعل له ذكر وشرف لا يتأتى لإنسان غيره. ومن الأمثلة على ذلك، ما بينه تعالى بقوله: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم) الشورى 52. وبهذا يتحصل أن الأمية ملازمة للنبي قبل وبعد الرسالة، أما من يريد تحريف هذا المعنى فإنه لا جرم يصبح ضمن أولئك الذين ارادوا أن ينزهوا الله تعالى فأخرجوه عن سلطانه.
وكما ترى فإن القرآن الكريم يشهد لأمية الرسول في مواضع كثيرة أهمها قوله تعالى: (الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباّ عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم فالذين آمنوا به وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون) الأعراف 157. وكذا قوله: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون) الأعراف 158. وقوله: (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين) الجمعة 2.
فإن قيل: كيف يعلمهم الكتاب والحكمة وهو لا يقرأ ولا يكتب؟ أقول: حصل النبي على هذه المنزلة من تزكية أمته وتعليمهم الكتاب والحكمة، بواسطة العلم التكويني كما أشرنا إلى ذلك في معرض حديثنا والقرآن الكريم يرشدنا إلى فهم هذا المعنى عندما وصف عيسى بهذا الأمر، وذلك في قوله تعالى: (إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً) مريم 30. وهذا نوع من التعليم على الرغم من أنه لا يزال في المهد وهذا الأمر يجري في إيتاء يحيى الكتاب والحكم وهو لا يزال صبياً، كما في قوله تعالى: (يا يحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبياً) مريم 12. ولا يستقيم الجدال في ذلك لأن الحكم لله تعالى، كما في قوله: (إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) الأنعام 57.
فإن قيل: هناك رأي آخر يطلق لقب الأمي على النبي لأنه ينتمي إلى أم القرى؟ أقول: هذا المصطلح مركب من مضاف ومضاف إليه، والنسبة بين هذه الألفاظ لا تصلح أن تكون للمضاف وإنما للمضاف إليه، ولو صح هذا الادّعاء لقيل قروي، وهذا الاستعمال شائع في لسان العرب، كما في بني وآل وأب، فيقال في الشخص الذي ينتمي إلى بني هاشم هاشمي ومن ينتمي إلى بني أمية أموي، أما من ينتمي إلى آل محمد فهو محمدي ومن ينتمي إلى أبي بكر يطلق عليه بكري وهكذا. وبالإضافة إلى هذا يمكن أن يكون هناك
دليل آخر وهو كما قيل إن الذين يجيدون القراءة والكتابة في مكة لم يكونوا أكثر من سبعة عشر شخصاً والجميع يعلم أسماء هؤلاء ولو كان النبي واحداً منهم، لم يخف هذا الأمر، وبناءً على ذلك يتضح أن النبي “صلى الله عليه وسلم” لا يجيد القراءة والكتابة كما قدمنا، ولهذا خاطبه الحق سبحانه وتعالى بقوله: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون) العنكبوت 48.
هذا ما لدينا وللمفسرين في الآية آراء:
الرأي الأول: قال الشوكاني في فتح القدير: (وما كنت تتلو من قبله من كتاب) الضمير في قبله راجع إلى القرآن، لأنه المراد بقوله: (أنزلنا إليك الكتاب) أي ما كنت يا محمد تقرأ قبل القرآن كتاباً ولا تقدر على ذلك لأنك أمي لا تقرأ ولا تكتب (ولا تخطه بيمينك) أي ولا تكتبه، لأنك لا تقدر على الكتابة. قال مجاهد: كان أهل الكتاب يجدون في كتبهم أن محمداً “صلى الله عليه وسلم” لا يخط ولا يقرأ فنزلت هذه الآية. قال النحاس: وذلك دليل على نبوته، لأنه لا يكتب ولا يخالط أهل الكتاب، ولم يكن بمكة أهل كتاب فجاءهم بأخبار الأنبياء والأمم. (إذاً لارتاب المبطلون) أي لو كنت ممن يقدر على التلاوة والخط لقالوا لعله وجد ما يتلوه علينا من كتب الله السابقة أو من الكتب المدونة في أخبار الأمم، فلمّا كنت أمياً لا تقرأ ولا تكتب لم يكن هناك موضع للريبة ولا محل للشك أبداً، بل إنكار من أنكر وكفر من كفر مجرّد عناد وجحود بلا شبهة وسماهم مبطلين لأن ارتيابهم على تقدير أنه “صلى الله عليه وسلم” يقرأ ويكتب ظلم منهم، لظهور نزاهته ووضوح معجزاته.
الرأي الثاني: يقول ابن عجيبة في البحر المديد: (وما كنت تتلو من قبله) من قبل القرآن (من كتاب ولا تخطه بيمينك) بل كنت أمياً، لم تقرأ ولم تكتب، فظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الشريفة والأخبار السالفة، على يد أمي، لم يُعرف بالقراءة والتعلم خرق عادة، قاطعة لبغيته. وذكر اليمين، لأن الكتابة غالباً تكون به، أي: ماكنت قارئاً كتاباً من الكتب، ولا كاتباً (إذاً لارتاب المبطلون) أي: لو كنت ممن يخط ويقرأ لقالوا: تعلمه، والتقطه من كتب الأقدمين، وكتبه بيده، أو يقول أهل الكتاب الذي نجده في كتابنا أمي لا يكتب ولا يقرأ، وليس به، وسماهم مبطلين لإنكارهم النبوة أو لارتيابهم فيها، مع تواتر حججها ودلائلها.
ويضيف ابن عجيبة: هذا وكونه “صلى الله عليه وسلم” أمياً كمال في حقه، مع كونه أمياً أحاط بعلوم الأولين والآخرين، وأخبر بقصص القرون الخالية والأمم الماضية، من غير مدارسة ولا مطالعة، وهو مع ذلك يخبر بما مضى، وبما يأتي إلى قيام الساعة، وسرد علم الأولين والآخرين مما لا يعلم القصة الواحدة منها إلا الفذ من أحبارهم، الذي يقطع عمره في مدارسته وتعلمه، وهذا كله في جاهلية جهلاء بَعُد فيها العهد بالأنبياء، وبدل الناس، وغيروا في كتب الله تعالى بالزيادة والنقصان، ففضحهم “صلى الله عليه وسلم” وقرر الشرائع الماضية، فهذا كله كاف في صحة نبوته، فكانت أميته “صلى الله عليه وسلم” وصف كمال في حقه، ومعجزة دالة على نبوته لأنه “صلى الله عليه وسلم” مع كونه أمياً، أظهر من العلوم اللدنية، والأسرار الربانية ما يعجز عنه العقول، ولا تحيط به النقول، مع إحكامه لسياسة الخلق ومعالجتهم مع تنوعهم، وتدبير أمر الحروب، وإمامته في كل علم وحكمة.
وأضاف في البحر المديد: وأيضاً المقصود من القراءة والكتابة: ما ينتج عنهما من العلم، لأنهما آلة، فإذا حصلت الثمرة استغنى عنهما. والمشهور أنه “صلى الله عليه وسلم” لم يكتب قط. وقال الباجي وغيره:
إنه كتب، لظاهر حديث صلح الحديبية. وقال مجاهد والشعبي: ما مات النبي “صلى الله عليه وسلم” حتى كتب وقرأ وهذا كله ضعيف.
انتهى ما ذهب إليه ابن عجيبة.. ومن أراد المزيد فليراجع المطولات لأن فيها الكثير من تفصيل أسباب أمية النبي “صلى الله عليه وسلم” ومن يذهب إلى خلاف هذا الإجماع فلا يؤخذ برأيه ولا يعتد بحجته.