كانت اللمحة التاريخية عن الصراع في منطقة الخليج العربية منذ نهاية السبعينات الى الأن تقريباً أظهرت الدمار الذي لحق بشعوب المنطقة وأكثرهم تضرراً كانت شعوب العراق وايران والكويت. أزمات متوالدة تفتك بشعوب مسالمة افسدت حياتها . ويبدو ان هناك ايدِ خفية تحرك الشخوص والكيانات السياسية والانظمة الحاكمة لصناعة الأزمات المستمرة. النخب السياسية لا تفكر بمصير شعوبها أكثر مما تفكر بصناعة المجد لأنظمتها السياسية ومصالحها وديمومتها في الحكم من هنا فان فكرة المقال تؤسس لصناعة حوار جديد بين شعوب وأنظومة مفروضٌ عليها التجاور ولا خيار أمامها الا العيش بسلام لتأمين سلامة الحياة .
على الرغم من المشتركات الكثيرة التي تربط شعوب المنطقة كالدين واللغة والتقاليد الشرقية الا ان اي من هذه المشتركات لايصمد امام التقاطع بالمصالح وتشويه العلاقات واشعال الحروب والفتن لقتل الابرياء المؤمنين بدين واحد. هذه التقاطعات السياسية تنتقل من مرحلة لاخرى وكلما قاربت شعوب المنطقة من العيش المشترك تظهر للعلن أيديولوجية جديدة تبرر التقاطع والتجاذب والصراع المسلح . ولنكن أكثر صراحة مع أنفسنا لا أعتقد أن هناك مستقبل مشرق ينتظره الخليجيون و العراقيون والايرانيون على حدٍ سواء طالما الأيديولوجية الجديدة الان تقسيم الحكومات والمجتمعات والدول على اسس عرقية وطائفية ودينية . هذا الأنهيار الفلسفي والاخلاقي مع الأسف الشديد اخذت تمارسه دول المنطقة وتبدأ به من داخل مجتمعاتها الى سياساتها الخارجية وعلاقاتها الدولية المظطربة .
في عام 1980 زُج الجيش العراقي لمواجهة اِيران عن طريق دفع رئيسه البدوي المتخلف الذي تصرف بسذاجة شعاراتية كما اسماها حينها بحرب الدفاع عن الامة العربية او حماية البوابة الشرقية . ولعبت العلاقات الشخصية للنخب العربية والخليجية في السلطة والحكم انذاك لأقناع صدام حسين بالذهاب بعيداً بسفن الحرب من جهة واِقناع السياسيين في الغرب لدعم صدام حسين في حربه ضد ايران . إنتهت الحرب بعد ثمان سنوات ولم تلبث أن تضع تلك الحرب أوزارها حتى وفرت لها نفس النخب السياسية أجواء أزمة جديدة لأجتياح الكويت . وتستمر نفس النخب السياسية في الخليج على استدعاء الولايات المتحدة لأزالة دولة العراق من المنطقة ومسح دورها السياسي المؤيد اصلاً للدول العربية.
البحث عن أزمة
الحرب العراقية الايرانية وفرت للغرب سيولة مادية هائلة من واردات بيع الاسلحة وانعشت اقتصادها ، والنخب السياسية في الخليج كانت تغذي تلك الحرب وتنظر لها من خلال نظرية (اِبعد عن الشر وغني له) . وبعد اخراج العراق من الكويت عشقت دول الخليج مشاركتها الرمزية في قصف المدن العراقية مع قوات التحالف الدولي . لكن الصدمة كانت بعد انهيار النظام السياسي في نيسان 2003 في العراق ومجيء نظام اَخر يختلف جذرياً في التعامل مع الخليج وايران وبقية الدول العربية . فهو نظام عراقي صرف بمايحمله من تناقضات الواقع العراقي والانتماءات العرقية والطائفية التي تبحث من خلال احزابها وكياناتها وشخصياتها عن استحقاقات تاريخية وضمان مصالح اتباعها . بناءاً عليه :
– النظام الجديد لايؤمن بالقومية العربية ولايساند الدول العربية الا بقدر ما يضمن التبادل النفعي والمصالح المشتركة ، وذلك لايوفر لدول الخليج اية نفع اوفائدة لاستخدام العراق كسد منيع لحماية الأمن الأقليمي الخليجي اومساندة قضايا العرب التقليدية ، لان النظام الجديد ملزم بتنفيذ القوانين والعهود الدولية التي لايسمح القانون الدولي تجاوزها ، وهذا الأمر مختلف جداً عن نظام صدام حسين الذي ينتقي سياساته من خلال كتب التراث والشعر العربي . – النظام الجديد في العراق قريب جداً من ايران كدولة وشعب وحكومة ومؤسسات وهذا الامر سيكون مقلق جداً لدول الخليج التي تخشى التدخل الايراني القريب من حدودها أكثر من الأول . بناءاً عليه دول الخليج العربية ستكون مهددة من إيران التي لا تخفي أجندتها التوسعية في المنطقة ولربما ستكون هدف للتجاوز على الأمن الأقليمي الخليجي من خلال الحدود العراقية المنفلتة الى حدٍ ما .
– بناءأعلى سموم الأيديولوجية الطائفية الجديدة المنتشرة في أجواء الشرق الأوسط ستكون ديموغرافية المنطقة المحايدة الى دول الخليج معظم سكانها من العرب الشيعة وهذا الوضع يشكل عمقاً للشيعة الخليجيين من جهة ويشكل في نفس الوقت شعوراً بالقلق لدى الأنظمة السياسية الخليجية لمقدرة الأيرانيين من التغلغل في المجتمع الشيعي العربي كما هو حاصل في لبنان واليمن .
– هذه الحقائق نصب أعين القادة الخليجيين والعراقيين والأيرانيين وهي أوراق سياسية تلعب فيها النخب السياسية المرتهنة الى مصالح اقليمية وغربية . من هنا نعود الى مربع بداية الثمانينات في إشعال الحرب العراقية الأيرانية كأستراتيجية مؤقتة لأبعاد شر التدخل الأيراني ، الا ان المرحلة الحالية لاتشبه الثمانينات ولا التسعينات لأشعال أزمات في المنطقة بتأثير القوى الخارجية والأقليمية من أجل حماية أمن الخليج ومن ثم استنزافه وتحطيم الدولة العراقية والأيرانية . لذا لا مجال لصناعة أزمة جديدة او استخدام استراتيجيات قديمة ثبُت فشلها فيما بعد انتهت الى ازالة العراق كحصن منيع لمواجهة التوسع الأيراني وإنتصار ايران على العرب.
مطلوب قيادات وإستراتيجية جديدة
تقسيم العراق واستعداءه وبث الفرقة بين أهله وإستخدام الفتنة الطائفية أمر في غاية الخطورة ليس على العراق فحسب بل على الخليج بالدرجة الأولى ولصالح السياسة الأيرانية والسبب المباشر هي الكيانات الطائفية تتواجد أيضاً في الخليج وأجندات قوى الأارهاب والظلام لا تستثني احداً. النفط لم يعد ورقة قوية لدى دول الخليج لأستغلالها في فرض خطط معينة على الدول الغربية ، والأخطر من ذلك إن الدول الغربية وإيران على ابواب فتح مرحلة جديدة من التعاون والأنفتاح السياسي والأقتصادي لا تصمد امامها أهمية دول الخليج ، وكنتيجة لذلك فالقواعد العسكرية على اراضي الدول الخليجية ومياهها الأقليمية ستفقد أهميتها هي الأخرى بعد التعاون الامريكي الأوربي الايراني . في غضون ذلك ، العقليات والاستراتيجيات القديمة لاينفع إستخدامها ، ومن الأخطاء التي تمارسها بعض الدوائر السياسية في المنطقة دعم الأرهاب وشراء الذمم ودفع الرشاوى لعرقلة النمو الاقتصادي والأمني لأفشال الدولة الديموقراطية الفتية في العراق بإعتبارها دولة شيعية ومشروع شيعي إيراني جديد في المنطقة .
من الأفضل لدول الخليج إستخدام المؤسسة السياسية في العراق بجميع انتماءاتها العرقية -الشيعية السنية والكردية – للتأثير على إيران وصياغة مرحلة جديدة من التفاهم والعلاقات الدولية في المنطقة . العملية الديمقراطية في العراق لو تمكن العرب عموماً ودول الخليج خصوصاً من دعمها لتمكنوا من إعادة صياغة دولة عربية وشعب عريق على الرغم من معاناته بسبب الحروب والدكتاتورية فنخبه السياسية والثقافية لا تسمح بالتجاوز الأيراني على الامن الخليجي من خلال دعم تلك النخب واحترام مشروعها والاستفادة من علاقاتها القديمة والاستراتيجية مع الدولة الحكومة الايرانية والشعب الايراني ، فمن حق الجميع العيش بسلام في المنطقة ومن حق الأنظمة السياسية ايضاً بناء علاقات دولية بناءة لصالح شعوبها .
هذا المبدأ يصلح لأن يكون إستراتيجية جديدة لدول المنظقة بدلاً عن الحروب وصناعة الأزمات ودعم الأرهاب على أن تقوم دول الخليج بدعم الحكومة العراقية الجديدة بعد الأنتخابات بغض النظر عن الأنتماءات العرقية للنخبة السياسية أو التدخل في شؤونهم الداخلية وصياغة لجان اختصاصية تتبنى على عاتقها وضع اسس الحوار وأهداف الاستراتيجية الجديدة واشراك الطرف الأيراني من أجل إعطاء فرصة للسلام والحوار في المنطقة . ولكي ينجح الحوار لابد أن تعي دول الخليج وشعوبها ونخبها السياسية بأن الغرب لايعير إهتماماً لها مثل السابق وهذا يعطيها فرصة للتحرر من سطوة القرارات الغربية على قراراتها وعليها أن تعي أيضاً إن شعوبها غير بعيدة عن تأثير موجات التغيير في العالم العربي وبسعيها هذا سوف تظهر امام شعوبها بمظهر المسؤولية لحماية الأمن الوطني لكل دولة .
هذه الفكرة هي الخيار الوحيد لشعوب المنطقة وأنظمتها السياسية . هذه الدول قد جربت إستراتيجية الحرب والمواجهات ووصلت الى ماهي عليه من استنزاف ومديونيات وإرتهان لقرارات أجنبية ، بالاضافة الى تحطيم دولة مهمة في المنطقة كان لها دور في التوازن الأقليمي ، يضاف الى ذلك إيران خرجت من تلك الأزمات المستفيد الوحيد الذي اسست بنيتها الاقتصادية والسياسية والدفاعية على أسس ذاتية على النقيض من العراق والخليج وجميع الدول العربية التي اربكتها الازمات ولم تعد تحسد على شيء وتجهل مستقبلها القادم .
[email protected]