18 ديسمبر، 2024 10:59 م

أمريكا العراقية وداعاً

أمريكا العراقية وداعاً

درج الراحل صدام حسين على وصف الشعب العراقي، في جميع خطبه وتصريحاته، بالعظيم، ثم سقط وجاء بعده القادة الإسلاميون وملحقاتُهم النباتاتُ الطفيلية السنية والكردية والفئاتُ الانتهازية الأخرى ليُثبتوا أن الشعب العراقي لم يعد عظيماً كما كان.

نعم، إن تاريخ العراقيين يقول إن فيهم أصالةً وثقافةً وعراقة باهرة ونادرة لا ينكرها إلا المغرضون والذين في قلوبهم مرض، ولكن الذي أحدثته أمريكا في العراق قلبَ الموازين، واستخرج من باطن الماء العراقي الآسن كل نبتٍ سيءٍ ولعين.

فبرغم أن الحضيض الذي بلغته الدولة العراقية على أيدي حكومات حزب الدعوة وأخواته وإخوانه في المحاصصة كانت أمريكا هي فاعِلتَه الأولى والأخيرة التي أجادت زراعة الخراب وتعهدته بالعناية الفائقة إلا أن الحقيقة الصادمة هي أن أمريكا العراقية لم تستورد من الكونغو أو الصين أو مجاهل الإسكيمو أحزاباً ومنظماتٍ ومرجعيات ومليشيات وجرائد وإذاعات وفضائيات جاهلة غبية متخلفة يتخرج من خدَمِها رؤساءُ الجمهورية ورؤساء الوزراء والوزراء والنواب والمدراء والسفراء وقادة الشرطة والجيش، بل إن كل شيء كانت تريده وتبحث عنه وجدتْه جاهزا وبجنسيته العراقية الرسمية غير المزورة.

بل إن أكثر العراقيين الذين أجلستهم على كراسي الإمارة لتخريب بلادهم وإفساد مجتمعهم، وتجويع جماهيرهم وسرقة أموال دولتهم هم من اُسَرٍ عراقية عريقة تمتد جذورها إلى أيام ثورة العشرين التي يتغنى الشعب العراقي بأصالتها ووطنيتها وشجاعتها التي فاقت جميع الحدود.

نعم، إن الماكنة الأمريكية، منذ أن قررت إسقاط نظام صدام حسين، تعمّدت أن تلتقط عراقيين تعرف جيدا أنهم ذوو عاهات مستديمة مصابون بأمراض الاختلاس والكذب والتزوير، ثم عملت كل ما وسعها لمنع كل شريفٍ وطني نزيه عاقل من اقتحام المنطقة الخضراء، وسلمت الجمَل بما حمل لمن تأتمنه على سرقة كل شيء، ابتداءً بالماء والهواء والدواء والغذاء، وانتهاءً بالأمن والكرامة.

ومن آخر عجائب شطارتهم في السطو أن أهالي محافظة بابل ناموا ليلتهم وجسرُ المسيَّب العزيزُ على قلوبهم الذي ظلوا عشرات السنين يغنون له (على جسر المسيّب سيّبوني) موجود، ثم أفاقوا في صباح اليوم التالي وقد طار.

ومَن عايش، مثلنا، تاريخ المعارضات العراقية في لندن ودمشق وطهران والرياض وعمان، من أول دخول الأمريكان إليها بصفة ممولين ومروضين وموجهين، يعلم بأن الإدارات الجمهورية والديمقراطية، بالتساوي، كانت على علم كامل وعميق بأن حلفاءها العراقيين الذين تُجهزهم لتسلم السلطة بعد شنق صدام حسين يكرهون كره العمى أيَّ حديث عن دولة محترمة تسود فيها الكفاءة والنزاهة والديمقراطية الحقيقية وسلطة القانون.

ولعل أخطر ما فعلته إدارة أمريكا العراقية للإجهاز على دولة العراق هو أنها ألغت وزارة الدفاع والجيش والمخابرات، بجرة قلم ومن أول أيامها في العراق، وطردت مئات الآلاف من العسكريين العاملين في أجهزتها ومؤسساتها، دون تمييز، ودون تعويضات، ثم لم تدفع الرواتب والمستحقات المتأخرة للآلاف من الموظفين المدنيين الآخرين وهي تعرف أن ذلك لابد أن يُجبر العاطلين عن العمل على الالتجاء إلى المليشيات وحمل سلاحها والقتل على الهوية لحسابها والقبول بالعمالة والخيانة اضطرارا، أو احتراف التزوير والاختلاس والمتاجرة بالمخدرات وترويج المحرمات، ثم الانغماس، أخيرا، في الخراب والاعتياد عليه.

ثم، وبالتزامن مع ذلك، وفي الأيام الأولى للغزو، فتحت حدود العراق على مصاريعها، وأغمضت عيونها عن مجاميع المسلحين القادمين من إيران وسوريا بحجة أنهم مهجَّرون عراقيون عائدون إلى الوطن، وهي تعلم علم اليقين بأن هؤلاء مجندون لخدمة المخابرات الإيرانية والسورية، ومعروفةٌ هوياتُهم وعقائدهم وشعاراتهم لدى القاصي والداني، ومن عشرات السنين.

وفي فترات قصيرة نادرة توفرت للإدارة الأمريكية العراقية، خصوصا في عهد بوش الإبن، ومن بعده باراك أوباما ونائبه جو بايدن، فرصٌ ذهبية مواتية لتغيير قانون الانتخاب المغشوش، وتعديل الدستور الذي كتب في عجالة وبوصاية مباشرة من المرجعية وسفارة إيران، ولكنها كانت تتجاهل كل شيء، وتزداد تمسكا بالفساد والمفسدين وتصف ما يجري من فوضى وانحطاط بأنه ديمقراطية من أحسن ما يكون.

وهنا يجب علينا أن نسأل، أليسوا عراقييين أؤلئك القادة والمجندون في عصائب أهل الحق، وسرايا طليعة الخراساني، وكتائب سيد الشهداء، وحركة حزب الله، النجباء، وكتائب حزب الله، وسرايا السلام، وفيلق الوعد الصادق، ومنظمة بدر – الجناح العسكري، ولواء عمار بن ياسر، ولواء أسد الله الغالب، ولواء اليوم الموعود، وسرايا الزهراء، ولواء ذو الفقار، ولواء كفيل زينب، وسرايا أنصار العقيدة، ولواء المنتظر، وبدر المجاميع الخاصة، ولواء أبي الفضل العباس، وحركة الجهاد والبناء، وسرايا الدفاع الشعبي، وكتائب درع الشيعة، وحزب الله الثائرون، وكتائب التيار الرسالي، وسرايا عاشوراء، وكتائب مالك الاشتر، وحركة الإبدال، وحركة العراق الإسلامية – كتائب الامام علي، وجيش المختار؟

ثم أليس نوابُ السنة ووزراؤهم ورؤساء أحزابهم المملوكون من قبل نوري المالكي وسفير الولي الفقيه في بغداد عراقيون؟

ورغم أن مسرور البارزاني مؤمن بأن الأكراد ليسوا عراقيين إلا أنهم ما زالوا عراقيين بحكم الدستور الذي يتباكون عليه اليوم ويطالبون باحترامه، خصوصا في أعقاب العاصفة التي حدثت في البرلمان أخيرا والتي اعتبرها مسعود البارزاني طعنةً في ظهر الشعب الكردي من أشقائه العراقيين الآخرين.

أما مناسبة هذا الكلام الذي يملأ القلب هماً وغمّاً فهو قرار وزارة الدفاع الأمريكية القاضي بتخفيض عديد القوات الاميركية في العراق بحيث لا يتبقى سوى 2500 عسكري من غير القتاليين.

إذن فهو إعلانٌ عن موت حلم العراقيين بصحوةِ ضميرٍ أمريكية، ولو متأخرة، تخلصهم من الأفاعي الإيرانية، أو، بأقل تقدير، تُخفف عليهم سمومها.

فالظاهر أن أمريكا العراقية أصبحت مقتنعة بأن مسلسلها لتفسيخ الدولة العراقية وبعثرة أحشائها قد اكتملت حلقاته،