23 ديسمبر، 2024 12:23 ص

أمريكا العراقية تقرر الرحيل

أمريكا العراقية تقرر الرحيل

على عادتها أوقعت أمريكا العراقية أحباءها العراقيين والإيرانيين في حيص بيص.
فمسؤول في وزارة الدفاع يصرح بأن القوات الأمريكية سوف تبدأ بسحب قواتها تدريجيا، وسيبقى بعضها لتدريب الجيش العراقي، رغم أن نائب القائد العام لحرس الثورة الايرانية العميد حسين سلامي يعلن صراحة، بنفس الوقت، أن الجيشين السوري والعراقي يشكلان العمق الاستراتيجي لإيران التي تقول إدارة ترمب إنها إرهابية ويجب ردعها وعقابها.
ومسؤول أمريكي آخر يلطف تصريح زميله فيُطمئن العراقيين قائلا، إن القوات الأمريكية لن تنسحب على الفور.
ومكتب حيدر العيادي يبشرنا بأكثر من ذلك، فيؤكد أن “القوات الأميركية المنتشرة في العراق شرعت بتنفيذ خطة لتقليص وجودها في البلاد.”
ويقول المتحدث باسم حكومة حزب الدعوة “إن الخفض الذي يتم بالتنسيق مع الحكومة العراقية جاء نتيجة لانتهاء العمليات العسكرية ضد تنظيم داعش، وبالتالي فلم يعد هناك أي مبرر لبقاء مستوى القوات الأميركية على حاله”.
وفي الحالين، حالِ بقاء (بعض) القوات الأمريكية في العراق، أو حال رحيلها كلها، تُحرج أمريكا العراقية أصدقاءها العراقيين الذين ظلوا يؤكدون، منذ فوز ترمب بالرئاسة، أن الإدارة الجديدة حزمت أمرها، بجدٍ وتصميم، وقررت التصدي لإيران في العراق، زاعمين بأنَّ لهم علاقاتٍ خاصة مع الدائرة المختصرة المحيطة بالرئيس الأمريكي دونالد ترمب. ولم يكتفوا بالعموميات، بل نشروا، بالتواريخ والأرقام والأسماء، سيناريو الحرب التي ستخوضها أمريكا ترمب مع إيران في العراق ابتداءً بتفليش الحشد الشعبي والمليشيات الإيرانية المتعددة الأخرى، وضبط الحدود العراقية مع دول الجوار، وبالأخص مع إيران، وقطع الجسر الذي أقامه النظام الإيراني بين طهران وشواطيء البحر الأبيض والبحر الأحمر بقوة السلاح.
ويبدو أنهم يعيشون في خيالات العصور الماضية، ويتوهمون بأن الرئيس الأمريكي قادر على أن يفعل ما تريد، متى يريد، وأينما يريد.
والذي يعيش في الولايات المتحدة الأميركية يعلم، أكثر من الذي لا يعيش فيها، بأن الذي يحكم أميركا ليس الرئيس ولا الكونغرس ولا أي وزير أو سفير، رغم أهميتهم، بل يحكمها الدولار وحده لا شريك له.
وللشركات الأمريكية الضخمة التي تُنتج سنويا ضريبة دخل بمئات المليارات من الدولارات وتقدمها للحكومة الفيدرالية لتمول بها نشاطاتها داخل أمريكا وخارجها أهداف ومصالح ومخططات قد لا تتفق مع تخيلات الرئيس ترمب وأمانيه، إن كان صحيحا أن له أهدافا مغايرة لأهداف تلك الشركات.
وليس سرا من الأسرار العصية أن تكون أمريكا الجديدة، كما كانت أمريكا القديمة، ولا تزال، بحاجة لإيران قوية مسلحة عدوانية في المنطقة، على الأقل في المدى المنظور.
هذا مع الإقرار بأنها تكره النظام الإيراني كره العمى، ولكنها لا تحب خصومه وضحايا إرهابه، كذلك.
ولتفسير هذه الأحجية نسارع إلى تذكير الجميع بسر إقدام صدام حسين على طرد الخميني وولده أحمد من النجف، عام 1978، ووضعِه على الحدود العراقية الكويتية، ثم تطوع فرنسا، بمباركة أمريكية بريطانية، لالتقاطه من الحدود، ونقله إلى باريس، ومنحه الحرية المطلقة في العمل السياسي المعارض لأسقاط الشاه، رغم أنه حليف معتمد في المنطقة لأمريكا وأوربا، وقدمت له من التسهيلات والإعانات والحمايات، وسمحت له بأن يستقدم الخبراء والمساعدين الذين يحتاجهم من شتى أرجاء العالم.
والسر الأخر الذي يحتاج إلى بلاغ مبين هو سر خداع الشاه وترحيله من إيران، ليهبط الخميني في طهران، بعد ذلك، ويتسلم السلطة المطلقة، في نفس الوقت الذي تسلم فيه صدام السلطة المطلقة في العراق، مع ما بينهما من ثارات وأحقاد شخصية مخزونة لا يمكن أن تغفل أمريكا وحلفاؤها عن استثمارها.
ومثلما احتاجت أمريكا لصدام لإنهاك الخميني فإنها احتاجت أيضا إلى الخميني لإنهاك صدام، واحتاجت لكليهما لإنهاك المنطقة.
ومن عناد كليهما غنمت الكثير من الأموال العربية والإيرانية، وخلَّصت إسرائيل من أكثر من مليون قتيل، ومليون جريح ومفقود، من المقاتلين العراقيين والإيرانيين، وأقلقت دول الخليج الغنية، وابتزت أموالها بذريعة منع إيران من احتلال العراق وتهديد أمنها.
ومع التسليم بأن الحرب المذهبية المشتعلة بين الشيعة والسنة، من أول تسلم خميني السلطة وإلى اليوم، هي نتاجُ تهور العنيديْن الدمويين، صدام والخميني، فليست أمريكا، ومعها حلفاؤها الغربيون، ببعيدة عن قدْح زنادها، أو على الأقل عن صب المزيد من زيوتها على نيران الاقتتال على الخلافة، أهي لعلي أم لأبي بكر وعمر وعثمان ومعاوية، وهل هي للحسين أم ليزيد.
والثابت تاريخيا أن أمريكا الجمهورية، وأمريكا الديمقراطية، من قبل أن تسقط نظام صدام حسين بثلاث عشرة سنة، قررت أن تمنح العراق لإيران، لكي تصبح الفزاعة التي تملأ الفراغ الذي سيتركه غيابه في المنطقة.
ومن يعود إلى تاريخ المعارضة العراقية سيجد أن أمريكا الديمقراطية، ثم أمريكا الجمهورية، وبحماس متطابق تماما، تسللت إلى أحزاب المعارضة ومؤتمراتها، واحتضنتها، وتولت الإنفاق عليها، وهي تعلم أن أحزابها وقادتها زراعة إيرانية خالصة لا تبديل لولائها الفكري والعقائدي والسياسي لولاية الفقيه، مهما حدث، وأيان كان دافعُ تكاليف (جهادها).
كما أنها خبرت قادة تلك المعارضة، وعرفت، بالأدلة والبراهين، أنهم منافقون، ومزورون، وجياع مال وسلطة بجنون، وأدركت أنهم، وهم خارج السلطة، يتقاتل بعضهم مع بعض، ويلفق بعضهم على بعض، ويسرق بعضهم من بعض، وأن العراق، لو حكمه هؤلاء المزورون والكذابون والمختلسون، لابد أن يصبح خرابة ملحقة بعقارات الولي الفقيه.
ومن أول غزوها للعراق وهي تدعم هؤلاء المتخلفين الفاسدين باسم الديمقراطية، وتغمض عينيها عن كل يفعله حزب الدعوة وأشقاؤه وشقيقاته المليشيات بالعراق وأهله من جرائم لم تتوقف الأمم المتحدة وغيرها عن إدانتها واعتبارها جرائم ضد الإنسانية لا يمكن السكوت عليها.
وحين قرر أوباما أن يسحب الجيوش الأمريكية من العراق كان لا يجهل أن حليفته إيران ستحتله كاملا، وتُلحقه بممتلكاتها، وتمحو تاريخه الحضاري العريق.
ثم ألم تلاحظوا أن ترامب الذي اتهم أوباما مرات ومرات بالتقصير والتراخي مع إيران في سوريا والعراق قد تحاشى وما زال يتحاشى أيَّ صِدام حقيقي معها أو مع ميليشياتها، وهو قادر على أن يفعل الكثير.
والظاهر، والله أعلم، أن الحاجة الأمريكية لا تزال ماسةً لوجود إيران قويةٍ وعدوانية ومُوقِدة لحروب من حروب في المنطقة، ولكن بشرط ألا تمس بسوء أيَّ عصب أمريكي في العراق ولبنان وسوريا وغيرها، وألا يُصيبَها الغرور والجنون والعقوق فتصبح خطرا على أمن إسرائيل.
وهنا نسأل، ماذا سيقول المبشرون بحربٍ أمريكية ضد الوجود الإيراني في العراق، هل ما زالوا مصدقين بأن ترمب يريد، أو يستطيع، أن يأمر جيوش أمريكا بغزو العراق، مرة ثانية، من أجل أن يطرد منه إيران، ويحرر أهله من كوابيسها وجواسيسها، لوجه الله تعالى، وحبا بسواد عيون العراقيين؟؟