23 ديسمبر، 2024 3:06 ص

أمريكا، ومحاولات فرض الأنموذج

أمريكا، ومحاولات فرض الأنموذج

منذ منتصف القرن التاسع عشر، بدأت موجات تصدير نتاج الحداثة الغربي تغزو دول العالم أجمع، وبالأخص تلك الدول التي كان الغرب (كمستعمر) يحاول استهلاك خيراتها، وإعادة تمثيل ثقافتها، بعد إقحام ثقافات التغريب في تلك المجتمعات (وبالأخص الإسلامية منها) وبقوة .

في المقابل، كانت هنا الكثير من التحركات الحثيثة من قبل علماء المسلمين ومفكريهم، من أجل صد هذا الغزو المدمر للقيم، والذي يقود إلى تبعية وإذلال أخلاقي وسياسي.

يعتبر الغزو العسكري الأمريكي الأخير للعراق، أوضح تَمَثُّل لتلك الإرادة الغربية الاستحواذية القديمة (الجديدة)، حيث جاءت حركة الاحتلال بثوب تحريري ضد نظام قمعي مجرم (كان لأمريكا دور كبير سابق في تدعيمه وتثبيته)، ظاهره تخليص الشعب من الظلم والعذاب، وباطنه يحوي على مخطط توازنات إقليمية، وصراع على مناطق النفوذ والسيطرة على عالم الشرق الأوسط ومنابع الثروات فيه.

كان للحوزة العلمية الدينية الشريفة في النجف أدوارا عديدة وكثيرة، سارت فيها بوتيرة مختلفة صعودا ونزولا في خطها البياني، في تعاطيها مع الأحداث العدائية التي كانت تلم بالشعب العراقي، سواء التي كانت تصدر من حزب البعث والأحزاب التي عاصرته منذ نشوئه، أو ما ألم بالعراق من أحداث جسام بعد سقوط الطاغية، واستلام قيادة العراق من قبل الأمريكان .

حاول الأمريكان وبسعي حثيث وجهود كبيرة، من أجل زرع بناءات بشرية مؤسسية، توزعت داخل الجسد العراقي، في مؤسساته الحكومية، والقضائية والتشريعية، والأهم والأخطر منها ما تم زرعه داخل مؤسساته ووجوداته المجتمعية، حيث نجحت في تحريك سطوتها وقوتها في مجالات عديدة، من أجل فسح المجال لولادة وتنشئة أكبر عدد من الفئات التي تسير على عمى بحسب المنهج القيمي الأمريكي المرسوم لها بدقة، في محاولة لضرب البنيان القيمي الأخلاقي الاجتماعي العراقي الداخلي، وتحطيم الأدوات الأساسية في المجتمع: الأسرة، المدرسة، وإضعاف محور الالتفاف حول المؤسسة الدينية، من خلال إيجاد مؤسسات تنشئة سياسية بديلة، تقوم بمهمة غسل عقول، أسمتها بمؤسسات المجتمع المدني، والتي كانت ترصد لها دعما ماليا وإعلاميا ولوجستيا غير محدود، استمر على مدى أكثر من 10 سنوات، نجح أصحابه في إنشاء مجموعة كبيرة من الشباب الفارغ من كل ثقافة أو قيم أو أخلاق أو دين، من أجل أن يكون أداة لإعادة هندسة الوعي السياسي للمجتمع العراقي.

أكبر ظهور انفجاري للبرنامج الأمريكي التغيري هذا، تجسد في فعاليات ما سمي بالمظاهرات، حيث برزت من على ساحات تلك المظاهرات، عينة كبيرة وواسعة، غطت بتأثيرها الإعلامي ودعمها اللوجستي والمادي، كل التأثيرات الأخرى، حتى للمتظاهرين المطلبيين الحقيقيين، وقد أطلق اصطلاحا على هذه الفئة الكبيرة تسمية الجوكرية، موائمة مع ما روجت له هذه الفئة من رفع صور شخصية إجرامية سينمائية أمريكية منحرفة، كانت تمثل ثيمة سيميائية، توحدت خلفها تلك الجموع المسلوبة التفكير، معتبرة إياها رمزا للإقتداء.

أولى المهام التي قامت بها هذه المجموعات، هو التصدي علانية وبشكل صريح لتسقيط المرجعية الدينية الشريفة، ومحاولة توهين صورتها الرمزية من خلال إتباع مبدأ التكرار (في شتمها والانتقاص منها).

المهمة الثانية كانت تحاول من خلالها تعبئة وعي بعض الشباب البسطاء بمبادئ ما تسمى بالعلمانية التي تدعو إلى إطلاق فاضح للحريات الشخصية، بحجة فصل الدين عن السياسة أولا، ومن ثم فصل الدين عن المجتمع ثانيا.

المفارقة العجيبة التي حصلت، والتي هدت أركان هذا المشروع التخريبي، هي أن الوجود الديني في العراق (بكل تشكيلاته المؤسسية والاجتماعية والحوزية)، تنادى للوقوف كالبنيان المرصوص مع كل القضايا التي تهم أبناء هذا البلد، سواء على صعيد الاعتداءات العسكرية التي كان يراد لها إنهاء الوجود الشيعي، أما على صعيد الوقفات المشرفة في تحريك عجلة الاقتصاد وتشغيل اليد العاملة، أم على صعيد رسم ملامح اعتدال سياسي وسط صراع وتنافس محموم بين الأطراف السياسية الداخلية والإقليمية، وكذا كانت وقفات التلاحم ضد كل المشاريع التخريبية والتقسيمية التي كانت الإرادة الأمريكية تريد أن تفرضها على العراق بلدا وشعبا.

أزمة كورونا جاءت كذلك تمل أثقالها التي حاولت تلك الفئة الضالة (ربيبة الأمريكان) أن تستغلها من أجل تسقيط الوجود الديني المتمثل بالمرجعية الدينية، وكذلك المتمثل بالجهات الكثيرة التي تجاوبت مع نداء المرجعية الشريفة للوقوف بوجه المد المدمر للنضوب الاقتصادي والمعاشي للعوائل المتعففة، فتنادى أصحاب الغيرة والنخوة العراقية، من الذين كان لمنبر الدين دورا كبيرا في تربيتهم، من أجل يقفوا وقفة مشرفة، بوجه شبح الموت والجوع والخراب والتشرذم، الذي أرادت إرادة الوباء أن تفرضه، وإرادة أعداء العراق أن يستغلوه كمادة للتشنيع والسب والتسقيط ضد شرفاء العراق ومراجعهم.

ولكن، وكالمعتاد، خاب سعيهم، وانقلبت المعادلة، وأصبحت شعوب العالم تحسدنا على ما نحمله من تربية دينية أخلاقية مجتمعية، انصهرت كلها في الإدارة المرجعية الحكيمة، التي جعلها الله كصمام حكمة وأمان للناس، بعد أن رأوا كيف أن تلك النزعة الأخلاقي الدينية لدى الفرد العراقي، تخلق منه دوما نموذجا فاعلا في الأزمات، يمكنه من اجتيازها وعدم الانهيار أمامها.

*كاتب مختص بالشأن الديني والديني السياسي في العراق.