18 ديسمبر، 2024 7:05 م

أمراض النفس البشرية،، (3) المفتون

أمراض النفس البشرية،، (3) المفتون

وهذا ليس هو المتعصب و إن بدا لك انهما يتشابهان ، فانما يتشابكان في أمرين مفترقين وانت تظنه شبها او أمرا واحدا ، فصّلنا المتعصب فيما مر من أجزاء هذه السلسلة وعلمنا “مختصرا” آنذاك انه الذي ينحاز لجهة او رأي او عقيدة دون تقبل لإعادة نظر او تعديل او حتى مجرد مراجعة النفس والعقل لعله مخطئ او لعلها غافلة.
صاحبنا المفتون هنا نموذج مختلف وتوجهه وعلته غير ذلك ، فهذا لايتعصب لأحد او لرأي احد بل ينشغف بحب شيء أو متبوع فيزداد عشقه له وغيّه به كلما زدته عذلا عنه ، حتى يترهب فيه ويعادي من يعذله او يلومه او يزجره و إن كان اقرب الناس اليه دون دراية من قرارة نفسه عما دفعه الى ذلك.
ويقع هؤلاء في أهداف او انواع مختلفة من الحب والتشبث النفسي العاطفي ليس شرطا ان تكون تلك المسميات مذمومة لذاتها بل ربما متفق على محبتها من كل الناس او على صلاحها و رشدها في الأصل ، لكنه يغرق فيما يتفرع من ذلك-ويتفرق عن أصله واستقامته-حد الذوبان والهذيان وهو لايعي ماهو عليه ، فيظن ان مايفعله حسن اذ ان الغاية حسنة والنية حسنة والامر المحبوب والمفتون هو به مما حسن بين الناس سيرته ان كان رجلا ، او وصفه ان كان شيئا أو معتقدا.
ويظن المفتون انك المنحرف او المخطئ اذا انتقدت فعله هذا او الامر الذي أحبه وتعلق به ، وتعجب كيف اختلطت عنده المعايير الى الحد الذي لايميز فيه ان أفعاله خاطئة بل ربما شنيعة ولكنه في عالم آخر لايرى ماتراه انت ولا مايراه عموم الناس ولا مايراه محبوه الناصحون الذين صاروا عنده “خصوما حاسدين” او ربما اعداء حاقدين ، ولايخجل هو مما يفعل لظنه انه مصدر فخر فتراه انت وتخجل له وتعجب من هذا الرجل الوجيه او الشاعر او ربما المتدين او أكثر من ذلك و أكبر عقلا وعلما ،
ومع كل هذا يبقى المفتون غير ملتفت لفعله غير مراجع لنفسه غير مستدرك لخطئه غير آبه بما تقوله له حتى وان كنت عنده في غير ذلك من المواضع او قبل ذلك من الثقاة الناصحين المرشدين او حتى المصلحين ، فعقل المفتون يتوقف عند هذا الحد ونفسه تتقوقع حول هذا الرجل او الامر الذي فتن به او ذاب فيه ،فلا مجال للتراجع او المراجعة او اعادة النظر ، ولا قبول لنصح او تذكير او حتى لفت نظر،
ومن هؤلاء من يفتن بالمال وجمعه فيفتدي كل خلق وكل حياء وكل عزيز من اجله ، ولا ترى على وجهه اي شعور بذنب او احساس بعيب، ومنهم من يفتن بجاه او موقع فيكذب من اجل تقلده ولا يشعر حيال ذلك بقصور ، ويهجر كل من يقف بوجهه ولا يخبره ضميره بتقصير ، ويضحي بكرامته التي لايراها ولا يحسها من اجل محبوبه ومفتونه هذا ،فيلبس من أجل فتنته الحق بالباطل ويخلط الصلاح بالخرافة والاستقامة بالضلال ،
ومنهم من يفتن ببدعة ضالة او مذهب مزخرف او كتاب محرف مضل او جماعة منحرفة عن الدين ، او فئة باغية خارجة عن سبيل المؤمنين ، فيأتون بما هو شاذ بيّن الشذوذ ، ومنكر من الاعمال واضح الخطوة معلوم الأثر عند غيرهم ، مجهول لديهم كأنهم لايسمعون ولاينظرون حولهم ولايشعرون ، والمفتون يلحقهم بل ربما يتصدرهم ، وهؤلاء كل منهم مفتون بالاخر و ان كان ادنى منه شأنا او أصغر منه عمرا او اقل منه عقلا،
و قد رأينا ونرى من المفتونين حولنا الكثير ، ولطالما هاجموا غيرهم من الناصحين وهجموا على غيرهم من المعتدلين المرشدين ، وهجروا احبابهم وافترقوا عن انسبائهم واتخذوا من بعضهم مستندا يلجؤون اليه ودليلا يتكئون عليه ومطمئنا للنفس يركنون اليه ، وصارت فتنتهم التي انشغلوا بها وجماعتهم التي اعتضدوا بها رهطا دون رهطهم وقوما دون قومهم ، فاعتزلوا الأصحاء الاسوياء من الناس إلا من مالأهم او تماهى معهم لزلفى او قربى او رعاية صحبة قديمة فظلوا يحبونه ، حتى اذا زجرهم يوما او استغرب فعلهم عادوا ليخاصمونه ويهجرونه ،
ندعو الله ان لانكون منهم ونرجو اننا لسنا منهم ، نتضرع الى الله ان لايفتننا في ديننا وهي أخطر الفتنة و أكبر المحنة ، وان لايعمي ابصارنا عن الحق ولايطمس بصيرتنا عن الهدى ، انما برحمته يهدينا ويجنبنا مصير من افتتن وماهذا الفضل من يد أحد ولا بجهد جسد ولا بقدرة عقل ، انما قلوب بين اصابع الله ، فان شاء قلبها وان شاء ثبتها وان شاء-والعياذ بالله- فتنها.
وندعو بدعائنا لأنفسنا أن يرد الله كل مفتون عن فتنته ، ويرجع كل غاو عن غوايته ، ويعدل كل ضال عن ضلالته ، بمنّه وكرمه وفائض رحمته .