نعيب دائما على البعض مسارعتَه إلى استخدام نظرية المؤامرة ليفسر الحوادث والكوارث التي تحدث لنا، نحن سكان البلاد الغارقة في الآلام والأحزان، حتى لو كانت أعاصير أو فيضانات، أو فايروسات جائحة من نوع كورونا.
وفي الحالتين العراقية الصدامية والإيرانية الخمينية الخامنئية يصعب جدا علينا عدمُ اللجوء إلى نظرية المؤامرة، ونحن نتصفح تفاصيل أساليب تعامل الغرب الذي تقوده أمريكا مع نظاميْ حكمٍ لا وجه للمقارنة العقلانية الموضوعية بين حقيقة سلوكهما وبين طريقة الرد والردع وحجم العقاب الذي يستحقه كلٌ منهما.
فقد كان سببَ القرار الأمريكي الأوربي لمعاقبة نظام صدام حسين والحكم عليه بالشنق، وعلى أسرته وكبار معاونيه بالقتل أو الحبس أو التشريد، وعلى الدولة العراقية، كاملة، بالدمار، كان هو خطابُه الذي تبجح فيه، أمام كبار ضباط القوات المسلحة، في 2 نيسان/ أبريل 1990، بامتلاكهِ السلاح الكيمياوي المزدوج، مهدداً بحرق نصف إسرائيل “إذا ما تعرض العراق لعدوان من قبلها”.
يقول جميس بيكر وزير خارجية أمريكا، يومها، في كتابه (سياسة الديبلوماسية) “نتيجة لذلك تغيرت حساباتنا الاستراتيجية رأسا على عقب. فللمرة الأولى أكد صدام أن العراق يمتلك أسلحة كيماوية، وأنه إذا ما تعرض للهجوم سيحرق نصف إسرائيل”.
ويَعرف القريب والبعيد حلقاتِ المسلسل الجهنمي الذي أعقب ذلك، وصولا إلى الغزو الأمريكي 2003، وما تبعه من تدمير الوطن العراقي بالكامل، والسماح لعدوّته التاريخية، إيران، باحتلاله ونهبه وتقزيمه وجعله خرابة.
بالمقابل يُصنف نظام الملالي في إيران، عالميا، منذ أول قيامه في 1979 وحتى أيامه الأخيرة ، بأنه الراعي الأول للإرهاب، بالأفعال وليس بالأقوال.
فجرائمه القمعية الدموية لحقوق الإنسان الإيراني، وجرائم الخطف والاغتيال والقتل والتفجير التي يمارسها، مباشرة أو بالواسطة، في دول الجوار والعالم لتحقيق أهداف توسعية ابتزازية، موثقة ومثبتَة ليس فقط من قبل المنظمات الدولية المتخصصة، بل من قبل الإدارات الأمريكية المتعاقبة، نفسِها، والحكومات الأوربيّة قاطبة.
فصدام حسين، مثلا، هدد، فقط، بحرق نصف إسرائيل. أما النظام الإيراني، فمنذ ولادته 1979 وأخذِهِ موظفي السفارة الأمريكية رهائن، فقد اعتمد سياسةً معلنة وثابتة تقوم على مبدأ ضرورة الجهاد “لمحو إسرائيل من الوجود”، وليس لحرق نصفها.
ثم إن امتلاكَه أسلحةَ دمار شامل وقع وحقيقي ولا يحتاج لدليل. ومنجزاته المستمرة، على مدى أربعين عاما، في تأسيس في المنظمات الإرهابية والمليشيات، وغزواتُه لدول ذات سيادة ومعترفٍ بها دوليا، وتصنيعُه الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية، وجهودُه الحثيثة المعلنة والسرية في مجال التجارب النووية، واقترابُه من صنع القنبلة النووية، كلها أخطارُ حقيقية قائمة وملموسة، لا تهدد أمن المنطقة واستقرارها ووجودها وحسب، بل هي ألحقت وتلحق أضرارا خطيرة بأمن البشرية بأجمعها.
تُضاف إلى ذاك صواريخُه الباليستية ومُسيَّراته التي يُطلقها (وكلاؤه) الحوثيون من اليمن على السعودية، والتي لا يكف أنصاره العراقيون عن إطلاقها، لا على مطارات مدنية ومؤسسات ومنازل عراقية وسورية ولبنانية وخليجية، فقط، بل على سفارات الدولة الأعظم في العالم، أمريكا، وعلى معسكراتها ومصالحها وضباطها وجنودها في عواصم عربية وأجنبية عديدة. وهي، كلها، ترقى، بالمؤكد، إلى جرائم حرب، دون جدال.
ورغم أن النظام الإيراني لم يَعِد الأمريكان والأوربيين المستميتين من أجل جرّه إلى طاولة المفاوضات، لا تصريحا ولا تلميحا، بأنه لن يواصل تجاربَه النووية، وبأنه لن يستمر في تصنيع صواريخهِ البالستية، ولا يكق عن إطلاقها على حلفاء أمريكا وأوربا في المنطقة، فإن أمريكا وأوربا تنحني أمامه وترضخ لشروطه، وتبذل كل ما في وسعها من أجل ترضيته وإقناعه بالعودة إلى التزاماته القديمة، مقابل إعادة أموالهِ المجمدة إليه، ورفع العقوبات عنه، والقبول بعودته، معززا مكرما، إلى المجتمع الدولي، دون حساب ولا عقاب.
ومن شاهد وزير خارجية إيران وهو يتبادل الضحكات، والقفشات، في اجتماع فينا الأخير، مع وزراء خارجية دول أوربا وأمريكا، يدرك، بسهولة، عمق الفرق في التعامل مع النظام الإيراني، ومن قبله مع نظام صدام حسين.
يصف كبير المفاوضين الإيرانيين، عباس عرقجي، محادثات فيينا بأنها “بناءة”.
ويؤكد المتحدث الخارجية الأميركية، نيد برايس، عدمَ الوصول، بعدُ، لمرحلة اتخاذ قرار رفع العقوبات عن إيران، ولكنه أشار إلى أن الفريق الأميركي المفاوض في فيينا يركز على العودة إلى الامتثال للاتفاق النووي، “لكننا نركز في فيينا على الملف النووي“.
ويبرر معلقون أمريكيون موالون لإدارة بايدن سياسةَ الترضية التي تنتهجها مع النظام الإيراني بالرغبة المُبيَّتة لتغيير طبيعة النظام، رويدا رويدا، وتأهيله للعودة إلى سلوك الدول الطبيعية، ربما بعد إسقاط االنخبة المتعصبة المهيمنة على القرار في إيران، من أجل تجنيب المنطقة والعالم تبعات حربٍ عسكرية يدعو البعض إلى شنها عليه لمنعه من امتلاك السلاح النووي، وليس لوقف تدخلاته في الدول الأخرى ولا دعمه للإرهاب.
وهنا يتوجب علينا أن نطرح هذا السؤال،
ألم يكن ممكنا، مثلا، أن تَستدرج أمريكا وأوربا صدام حسين إلى مفاوضات من نوع التي شهدتها فينا، والتي ستشهدها لاحقا، فتجنب العراق والمنطقة كوارث الغزو الأمريكي الأوربي المدمر الذي ثبت، بعد فوات الأوان، أن الاتهامات التي اتُخذت لتبرير الغزو مختلقة، وأن صدام حسين لم يكن ينوي حرق نصف إسرائيل، وأنما كان، فقط، يتظاهر بامتلاك السلاح الكيمياوي المزوج من أجل أن يُرهب عدوته إيران وليس غيرها؟
علما، ووفق ما كشفت عنه الوثائق السرية الأمريكية المُسربة، بأن صدام حسين كان صادقا في رغبته وشوقه إلى التفاوض والتفاهم مع أمريكا، بأي ثمن ومن أي نوع.