فوجئتُ وأنا أطالع العدد الأخير من مجلة (ألف باء) ، بعنوان على صفحتها الأخيرة (وداعا ألف باء بعد 27 عددا) ، بقلم رئيس التحرير الأستاذ (شامل عبد القادر) ، وهذه نتيجة للإنتكاسة الثقافية المدوّية والعزوف عن القراءة ، إنه ثمن الحيادية والبُعد عن التملّق في زمن صار كل شيء يُشترى بالمال ، فأزداد عدد الجرائد والمطبوعات دراماتيكيا ، مقابل شحّة دراماتيكية أيضا في القرّاء ، فحسب تقرير مؤسسة (الفكر العربي) المصرية ، أن معدل قراءة المواطن العربي يبلغ 6 دقائق سنويا أزاء المواطن الأوربي في موطن العولمة والثورة المعلوماتية ، الذي يبلغ معدّل قرائته 300 ساعة سنويا !. والكثير من شباب الجيل الجديد ، ربما لم يسمع أن ثمة مجلة عراقية ذات تاريخ عريق إسمها (ألف باء).
ألف باء ، مجلّة عراقية حتى النخاع ، ومنبر إعلامي مرموق يحاكي الهوية العراقية ، كنا ننتظر يوم صدورها الأسبوعي ، ليقتني ذوونا هذه المجلة ذات الشعبية العريضة التي كانت تحاكي إهتمامات الكبير والصغير ، وتلائم كل الأذواق والتوجّهات الفكرية والعلمية والسياسية ، وبعد (ختمها) قراءةً (من الجلد للجلد) ، كنا نحتفظ بها كأرشيف منزلي نعتز به ، ولم يكن يخلو أي منزل عراقي من أعدادها ، فلم يكن هنالك من بائع للصحف ، أوكشك أو مكتبة تخلو من هذه المجلة ، خصوصا في السبعينيات التي ننظر إليها على أنها أيام خير ، صرت أبحث عنها هذه الأيام ، أيام المجاعة والعُسرة والقحط الثقافي ، في معظم المكتبات ، ولا أجدها إلا في منافذ قليلة محددة ! .
صدر العدد الأخير من هذه المجلة في 9 نيسان 2003 ، لكنها لم تُوزع بسبب دخول المحتل ، وأحتجبت عن الصدور حتى عام 2014 ، وبعد أن كان كادر هذه المجلة يزيد على المائة شخص ، ما بين محرر وكاتب وصحفي وفني وإداري ، إنتهى المطاف بالمجلة وهي تُدار من قبل شخصين فقط ، هما الأستاذ (شامل عبد القادر) رئيس تحريرها ، ونجله أحمد (وبس) ! ، وعانت هذه المجلة ما عانت من الإهمال وغياب الدعم من قبل الجهات الإعلامية كوزارة الثقافة ونقابة الصحفيين ، واستأثرت قنوات إعلامية متنفذة بالإعلانات ، فأنعدم التمويل ، وترافق ذلك مع قلة المردود المادي الذي لا يزيد على 75 ألف دينار مقابل كل تلك الجهود المضنية والعتب والمتاعب التي تثيرها جرأة مواضيعها ! ، هذه المجلة ذات الخصوصية الفريدة ، والتي تختلف عن سياق المطبوعات الإعلامية التقليدية الأخرى ، بعد أن كانت تُطبع منها مئات الآلاف من النسخ أسبوعيا وتوزع على كافة المحافظات ، تقلّص عددها إلى 700 نسخة شهرية بدل الأسبوعية ! ، ويقوم كتّاب متبرعون بنشر مقالاتهم بها أمثال كاتب هذه السطور ، فقرر رئيس تحريرها إيقاف إصدارها أزاء كل هذا الضغط .
عانت المجلة من عدة عثرات وكبوات طيلة مسيرتها ، حاول الأستاذ (شامل عبد القادر) رئيس تحريرها الحالي ، الحفاظ على هوية وتراث هذه المجلة ببذله مجهودا كبيرا لإنعاشها وإعادة أنفاسها العراقية وجعلها بعيدة عن الرتابة بمواضيعها المتنوعة والممتعة ، والإبقاء على بُعدها عن التملق أو الترويج لأية جهة سياسية أو فئة حزبية ، فقد كان من الممكن إنعاش هذه المجلة ، لو ساومت على خطوطها العريضة المبدئية ، لو تملقت أو روّجت لشخصيات أو جهات سياسية أو حزبية أو فئوية ، ونخاف أن يأتي يوما ، لتسرق أسمها إحدى تلك الجهات ، فتفقد حياديتها ، وتتحول إلى إحدى منابر الترويج والتهريج .