18 ديسمبر، 2024 6:42 م

ألتصوف وألنبوة -2 – إرتداد الوعي 

ألتصوف وألنبوة -2 – إرتداد الوعي 

إنّ التطمينات التي يحصل عليها المتصوف من تجميعه لبعض الأحداث والمصادفات ستجعله على يقين تام من إلوهيته، ما يدفعه تجاه قبول بتعريض هذه الألوهية للإختبارات المباشرة، وهنا تقع الأزمة، فهذه الألوهية ولأنّها وهمية غير قابلة للإختبار وخاصة الإختبارات غير الممكنة، كما هو الحال عندما يسعى الصوفي ( المتألهن ) إلى خرق نواميس الطبيعة فلا يفلح، وهنا تتصدع الإلوهية شيئا فشيئا، ويعود الإنسان لإدراك حقيقة ضعفه ومقدار الوهم الذي وقع فيه وهو يعتقد بأنّه ألله، ما يوقعه بحزن كبير، وقلق عارم.
وحتى لو أنّ الصوفي ( ألمتألهن ) لم يُعرض إلوهيته للإختبار فإنّ حال ( التألهن ) هذا لا يمكن له أن يستمر إلى ما لا نهاية، ولابد من أن ينتهي، لأنّ ضغط الواقع يمنع أي إنسان صحيح الذهن من أن يعيش داخل خياله ومهما كان هذا الخيال جامحا.
فيخرج الصوفي من غيبته في ألله التي لا يرى فيها لا الوجود ولا نفسه، إلى بقائه في ألله حيث يرى كل الأشياء ولكنه يراها في ألله وهو ما يُسمى بوحدة الوجود.
وأغلب الظن أنّ حال وحدة الوجود تحصل للصوفي عندما يبدأ يصحو من غيبته عن العالم، وقبل أن يعود إلى أرض الواقع تماما. وفي هذه الحالة لا يكون الصوفي ( باقيا ) في شهوده ألله وحده، ولا في شهود العالم وحده، بل في شهودهما معا، فيرى ألله في كل شيء، ويرى كل شيء في ألله، ثم ما يلبث أن تتلاشى رؤيته لله تدريجيا بمقدار ما تزيد رؤيته للعالم، حتى يحط على أرض الواقع تماما ويعود إلى حياته اليومية.
بعد التحقق بحال البقاء، يعود الصوفي إلى الإيمان بأهمية فعالياته، ولذلك يتحول الكثير من الصوفية تجاه الإصلاح الإجتماعي، ومحاولة التأثير بالناس مستخدمين المعارف التي حصلوا عليها والتي تكشف لهم مقدارا كثيرا من الأوهام الدينية التي يقع بها الناس بسبب أخطاء الفقهاء بفهم الأديان.
مرحلة العودة إلى الفعاليات الإصلاحية، هي التي دفعت الأنبياء إلى التبشير برسالاتهم، بإعتبار أنّ الرسالات جميعها محاولات لإصلاح ما فسد من الأديان السابقة.
لكن يبقى هنالك سؤال يحتاج إلى إجابة شافية، هذا السؤال يقول :
ما سر إنقلاب النبي على دين التصوف الذي هو دين مقاطعة الناس وإنتقاله إلى دين النبوة الذي هو دين الإتصال بهم؟ ما الذي يجعل الصوفي ينزل من كونه إلهاً إلى كونه نبيا؟ أليس في إدعاء الألوهية نحو من أنحاء الرفعة على النبوة؟ فما الذي يجعل الصوفي إذن ينزل من كونه إلهاً إلى كونه نبياً؟
إرتداد الوعي :
لا يتخيل الصوفي أنّ طريقه الذي هو سائر عليه سيقوده رغما عنه إلى النبوة. وأنّ تلك النبوة ستقتل جميع أسئلته الصاخبة. فالصوفي لا يعرف مغزى النبوة إلا بعد أن يتوحد مع الحقيقة وينطق بإسمها، متدرجا بأحوال التوحيد الثلاثة، توحيد الأفعال، توحيد الصفات، توحيد الذات.
وعندها سيؤمن بأنّ الحقيقة واحدة، وأن ليست هناك مشاهد عدَّة، بل مشهد واحد وفاعل واحد وذات واحدة. هذه المعرفة خطيرة ومتعبة وصادمة بنفس الآن.
لذلك لا يسمع الصوفي ومهما تكاثرت من حوله الأصوات إلا صوت الحقيقة التي سيجد بأنها تكلمه من خلال جميع الموجودات، البشر الحيوانات الجمادات .. كلها تتكلم بكلام واحد، كلام ألله، الكلام المنطلق من ذات تجاوزت الإختلافات لتقع على سر التشابه الذي يؤدي إلى الوحدة الكاملة.
وهكذا تنطلق النبوة أول ما تنطلق.
بعبارة أخرى : للتوحيد مغزى آخر، فعندما يسقط الصوفي بحال التوحيد وتتحد أمامه الموجودات، فهنا سيتعين عليه أن لا يفرق بين موجود وموجود، لا تعود هناك مستويات في الوجود ولا أجزاء، بل كلٌ متحد يظهر بمظاهر مختلفة، فإذا حدث وأن سمع هذا الصوفي وهو مستغرق بأحد مستويات الفناء خطابا ما فإنّه سيعتبره خطابا من ألله، فليس ثمة أمامه غير ألله يقول ويفعل ويريد.
” فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ” … الانفال 17.
هذه أولى عتبات النبوة، فإذا تحقق هذا المستوى سيتبعه ولا شك مستوى آخر وهو مستوى الإنتقال من الخطاب الخارجي إلى الخطاب الداخلي. بعبارة أخرى : إذا آمن الصوفي بأنّ أحاديث الآخرين هي أحاديث ألله، فمن باب أولى أن يؤمن بأنّ أحاديثه هو نفسه تجل لأحاديث ألله.
وهكذا يتدرج بالإنطواء على ذاته والإستماع لصدى تأملاته والتعامل مع هذه التأملات بإعتبارها إلهامات أو إيحاءات ربانية.
“وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى” …. النجم : 3-4.
 
نلتيقكم في مدارات تنويرية أخرى
 
مصادر البحث :
–         هتك الأسرار – تحولات فكرية في العلاقة بالدين والمقدس …….  سعدون محسن ضمد.
–         ألقرآن.