عندما عملت طبيبا لشرطة البادية الجنوبية أثناء خدمتي العسكرية كانت شركة أيراب الفرنسية قد دخلت العراق لتوها تنقب عن النفط , وذات يوم ألتقاني صدفة في عرض الصحراء مدير عام شركة أيراب وقد عرف أني طبيب البادية , فعرض علي العمل طبيبا لشركتهم في زيارة أسبوعية , فأعتذرت لعدم وجود متسع من الوقت لدي , فعرض علي زيارة شهرية , فوافقت , وهكذا زرت مقر الشركة لاول مرة وقد كان على هيئة ” كرفانات ” وفي الكرفان المخصص للمطعم أصطحبني المدير للعشاء أحتفالا بقدومي اليهم , وعندما دخلنا “الكرفان المطعم ” وجدت قناني الويسكي قد وضعت فوق طاولة الطعام وهذا عرف درج عليه عموم ألاوربيين ومنهم الفرنسيين , فماكان مني ألا أن نظرت في رف وقد وضعت عليه قناني عصير ” sanquiq ” فتاولت قنينة من ذلك العصير وقلت للمدير بصوت مسموع ” this is not allowed in my religion ” أي أن شراب الويسكي حرام في ديني ألاسلام , فماكان من المدير العام لشركة أيراب الفرنسية ألا أن قال ” ah im very sorry ” أي : أه أنا متأسف ؟ وطلب من شيف المطبخ أن ينقلوا لغرفتي ماعندهم من قناني عصير ” sanquiq” وهكذا جلسنا للعشاء .
أذكر هذه الحادثة لبيان أهمية الثقافة في حياة البشر , ولاسيما الذين يختلفون في العادات والتقاليد وهو أمر كثير الحدوث في حياة الناس .
وقد أرسل لي أحد ألاصدقاء قصة ماجرى في مطعم الشركة الماليزية التي تعمل على تنقيب النفط في محافظة ذي قار وذلك ليلة ” 28|11|2012 ” وهو المصادف لليوم الثالث عشر من عاشوراء المحرم حيث ذكرى شهادة ألامام الحسين في العاشر من محرم الحرام سنة ” 61 ” هجرية .
ويقول راوي القصة وهو مهندس عراقي يعمل في الشركة الماليزية التي يقع مخيمها بين الغراف والرفاعي وبالقرب منها عشائر بني ركاب العربية المعروفة
أنه في تلك الليلة كان بعض مسؤولي الشركة الماليزية في زيارة للشركة , فقام عمال المطعم وهم من الماليزيين بتعليق بعض النفاخات كزينة وهو عرف درج عليه الماليزيون عندما يستقبلون ضيوفا أو مسؤولين كبار ؟
وهذا العرف الماليزي جعل العمال في المطعم يتصرفون بعفوية ويعلقون تلك ” النفاخات ” التي أصبحت فتنة كما سنرى ؟ علما بأن ألاخوة الماليزيين هم من أتباع المذهب الشافعي , ومعوف عن ألامام الشافعي ” رض ” حبه لآهل البيت عليهم السلام حيث سجل ذلك شعرا عندما قال :-
يا أهل بيت رسول الله حبكم …. فرض من الله في القرأن أنزله
كفاكم من عظيم الشأن أنكم …. من لم يصل عليكم لاصلاة له ؟
وعندما رأى بعض العراقيين الحاضرين تلك النفاخات المعلقة في المطعم سألوا الماليزيين عن سبب تعليق هذه النفاخات ؟ فقالوا عندنا زوار من المسؤولين وهذا أحتفاء بقدومهم , فقال لهم بعض العراقيين من الحاضرين : هذه ألايام هي ذكرى أستشهاد ألامام الحسين , قالوا ومن هو الحسين ؟ قالوا لهم هو سبط رسول الله “ص” ؟ فما كان من المسؤول عن المطعم الماليزي ألا أن أعتذر وأمر بأنزال النفاخات ؟ وأنتهت قصة النفاخات ؟
ولكن البعض من العراقيين الحاضرين ممن أخذ منهم سوء الظن مأخذا ولم يقبلوا أعتذار المسؤول الماليزي , ويبدو أن هؤلاء قاموا بنقل الخبر الى جهات أستخبارية خارج مخيم الشركة , وكان النقل مغايرا لحقيقة ماجرى , حيث صيغ الخبر على أن الماليزيين يحتفلون بمقتل ألامام الحسين وهذه عادة أموية ؟ وأخذوا يألبون من يستطيعوا ألاتصال به من خارج المخيم حتى وصلت الشائعات الى مركز مدينة الناصرية ومركز أستخبارات بابل والى العشائر المحيطة بمخيم الشركة الماليزية
مما أدى ذلك لآنتشار الشائعات كالنار في الهشيم ومفادها : أن الماليزيين يحتفلون بمقتل ألامام الحسين على الطريقة ألاموية , ولآن هناك تقليد أموي يحتفل بأيام عاشوراء ولكنهم يؤولونه بوقائع غير صحيحة مثل : يوم قبول الله توبة أدم عليه السلام , أو فلق البحر لموسى عليه السلام ونجاته من فرعون وجيشه , أو فداء أسماعيل عليه السلام بذبح الكبش أو رسو سفينة نوح على الجبل , وكلها أخبار لها صدى مقبولا في الذاكرة ألاسلامية مما أنطلت تلك ألاخبار الصحيحة ولكن بتواريخها غير الصحيحة على العامة من المسلمين فأصبحت مناسبات للآحتفال دون معرفة مغزاها وهو التغطية على مناسبة شهادة ألامام الحسين ؟
وهكذا أشتعلت الذاكرة التاريخية بتفسيرات مغلوطة عن الحدث البسيط الذي جرى في مطعم الشركة الماليزية , وكان وراء ذلك ألاشتعال سوء ظن حذرنا منه القرأن الكريم ” أن بعض الظن أثم ” وهكذا تحول الظن السيئ الى أثم عندما أتسعت دائرة الخبر غير الصحيح عبر أشاعة لم يواجهها البعض ممن سمعوا بها بالتريث والتحقق من صحة الحادثة وهل ورائها من يعمل على أذكائها لآحداث فتنة كان من جرائها أن تجمع شباب قرويون ورجال عشائر أعتبروا ألامر أهانة لهم ولمشاعرهم ومقدساتهم , وألامر لم يكن كذلك ولآنهم لم يعملوا بمفهوم ألاية الكريمة :” أذا جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة …”
وقد حدث الذي حدث نتيجة عدم التحقق ومعرفة البينة الصحيحة في ألامر حتى تحول ألامر الى هيجان عام لدى القرويين الذين لم يجدوا من يوضح لهم الحقيقة بل وجدوا من يحرك مشاعرهم بالضغينة وسوء الفهم فثارت ثائرتهم فهجموا على مخيم الشركة حطموا السيارات وكسروا النوافذ وخربوا المطعم ولم يتركوا شيئا سالما وضربوا بالعصي والحجارة من كان موجودا من الماليزيين الذين هربوا من المخيم حتى يقول راوي القصة أنهم قد لايعودوا للعمل بعدما رأوا ضعف موقف الشرطة التي لم تحمهم ؟
والخلاصة من هذه الحادثة المؤسفة يتبين مايلي :-
1- أن بعض المعممين الذين ساهموا في أذكاء الفتنة بطريقة غوغائية يتحملوا المسؤولية الكبيرة فيما حدث , وهؤلاء يحسبون أنفسهم أمام عامة الناس بأنهم ممثلو المرجعية وهم ليسوا كذلك فعلى المرجعية تقع مسؤولية حركة هؤلاء المعممين بين صفوف الناس , لاسيما ونحن مقدمون على تواجد عمالة أجنبية كثيرة نتيجة تراخيص عقود أستخراج النفط الذي يعتبر عماد الميزانية العراقية بالدرجة ألاولى .
2- يجب أختيار مسؤولي ألامن في مثل هذه المواقع من العناصر المؤهلة تأهيلا ثقافيا جامعيا ومن الذين حضروا دورات تأهيل أمنية وأدارية .
3- من الضروري وجود روابط تنسيقية بين رؤساء العشائر والمخاتير ومدراء النواحي وقائم مقامي ألاقضية دورية لاسيما في المناطق التي تتواجد فيها شركات أجنبية .
4- ضرورة وجود برامج تثقيفية عبر الفضائيات التي تملكها الدولة عن طريقة التعامل مع ألاجانب من حيث معرفة العادات والتقاليد , وحث الفضائيات غير الحكومية على نشر هذه الثقافة حتى لانفاجأ بما حدث مع الشركة الماليزية , فهناك بعض الجنسيات العاملة في العراق من غير المسلمين من يأكل الكلاب مثلا ؟
5- وعلى الحكومة أن تبادر الى أنشاء هيئة من أهل الرأي والفكر المتخصص بعقيدة الناس ذات البعد المثيولوجي لوضع حاضنات فكرية للكتلة البشرية التي تتحرك بصيغتها المليونية لآحياء الشعائر , ومن قدرتها على أحتضان تلك الكتلة البشرية المتطوعة في عملها تستطيع تغيير المجتمع والدولة بأتجاه القضاء على الفساد بكل أنواعه الذي أصبح خطرا يهدد الدولة العراقية ؟
6- ومن الضروري أن توجد دائرة للعلاقات العامة مع الشركات ألاجنبية العاملة في العراق تتدارس فيها معهم عادات وتقاليد المجتمع العراقي ولاسيما المناطق الريفية والعشائرية التي تحرص على أظهار ألتزامها بالعادات والتقاليد التي درجت عليها , ومنها على سبيل المثال ” مجالس الفاتحة ” على أرواح الموتى والتي يهتم بها المجتمع العراقي ويحرص على أقامتها يتساوى في ذلك المتدين والعلماني , وكذلك مظاهر المسيرات المليونية التي يمارسها الشعب العراقي في أغلب المدن العراقية بأتجاه المدن المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية وسامراء
7- التركيز على الوعي والثقافة العامة بين المواطنين وهذا واجب المرجعية وخطباء الجمعة والمنابر الحسينية , ووزارة الثقافة التي تشهد غيابا غير مبرر نتيجة عدم وضع ألانسان المناسب في المكان المناسب , وشبكة ألاعلام العراقي التي تعج بكوادر لاتنتمي لهوية ألامة في عاداتها وتقاليدها لذلك تكون مشاركتها بالحدث الوطني الشعبي مجرد عمل وظيفي خال من الرمزية والمثال , ونقابة الصحفيين التي لم ترسم هامشا مناسبا لها في المناسبات الشعبية ذات البعد العقائدي والتاريخي , وجمعية الكتاب وألادباء العراقيين التي لازالت مختطفة من المناسبات الشعبية العقائدية والتاريخية بسبب هوة ثقافية دخيلة حنطت البعض وأخذتهم الى تغريدة خارج السرب الوطني بهمومه التي لاتنفك عن ثقافة ألانتظار بمفهومها الكوني الرافض لجمود المادة ونزعتها الخرساء في حضرة الكون المتدين ؟
وهكذا يبقى ألامام الحسين يرفض الغوغاء مثلما رفض جاهلية يزيد وأموية عمر بن سعد التي عملت على مفهوم ” العراق بستان قريش ” ؟
رئيس مركز الدراسات وألابحاث الوطنية
[email protected]