الإمبريالية تعني أن هناك إرادة إمبراطورية هذه الإرادة هي الحافز الرئيسي إن لم تكن السبب الوحيد في نشأة الإمبراطورية المهيمنة, سواء كان ذلك بدافع سياسي أو اقتصادي. لكن المؤرخ البريطاني جون روبرت سيلاي يرى العكس إذ قال في عام 1883 أن الإمبراطورية البريطانية قد نشأت “داخل نوبة من الشرود الذهني. إذ ان سيلاري كان متخوفا من انهيار الامبراطورية البريطانية انذاك ,و يوزع النفوذ بين القوتين العظميين الجديدتين الولايات المتحدة الأميركية وروسيا القيصرية ، إن بريطانيا العظمى لم توفّق إلى مثل هذه السياسة الواعية وهذه الصياغة تشير إلى أي مدى كانت النظريات الإمبريالية تؤكد على عنصري الغرضية والتعمّد الواعي لأعوان التوسع. إن الاستراتيجية الكبرى لم تكن لتمثل أساسا لتشكل إمبراطورية إلا في حالات نادرة, وأغلب الإمبراطوريات يرجع وجودها إلى الصدفة وقرارات فردية يتخذها في حالات عديدة أشخاص غير مخوّلين سياسيا لمثل هذا المسعى. ومن هذا المنظور فإن كل واحدة منها تقريبا في لحظة الشرود الذهني ظهرت للوجود . ولئن تم تطوير حشد من العروض التاريخية التي تتناول بالدراسة حالات منفردة من الإمبراطوريات إلى جانب دراسات مقارَنة حول الإمبريالية جديرة بالاعتبار إلا أن مسألة ما هي الإمبراطورية وما هي المكوّنات المحددة التي تجعلها تختلف عن نظام الدول الترابية الذي نشأ في أوروبا، فهو ما بقي مهملا بصفة كلية تقريبا. إن ذلك هو ما يفسر أن مصطلح الإمبراطورية قد اتخذ خلال النقاشات الأخيرة حول السياسة الأميركية محتوى مرتجلا ويتحمل التأويل ،
وفي أغلب الأحيان لا يتجاوز مجرد الخطاب الشاجب. ذلك أن العلوم السياسية لم تقم بتحديد ملامحه بصفة تعريفية دقيقة، بل تركت المجال في ذلك إلى عموميات المنشورات اليومية. إنّ الانجاز في عمل غير علمي مدروس ودائم الصلاحية لا يمكنه إلا ان يأتي بنتائج مخيبة. فطالما لم تتضح مسألة ما هي الإمبراطورية ، وما الذي ينبغي عليها أن تنجزه وبأي شيء تتميز عن غيرها من بنية الانظمة السياسية، فإنه يبقى من غير الممكن التوصل من خلال معاينات مقارَنة لتشكيل مختلف الممالك الكونية إلى نتيجة يمكن توظيفها في دراسة النظام العالمي الجديد ودور الولايات المتحدة داخله. إن المنطق الذي يقود سلوكيات الإمبراطوريات لا يمكن تمثُّله إلا إذا ما اتضحت بصفة تقريبية المقاييس التي تحدد هوية الإمبراطورية. تعتبر المقارنة مع الإمبراطورية البريطانية معقولة ومنطقية ، ذلك أن الولايات المتحدة تتواجد في كل الأماكن التي انسحب منها البريطانيون بعد الحرب العالمية الثانية، والتي قدمت للولايات المتحدة الامريكية كخلف لها، مستلمة كل المواقع البريطانية سابقا- من بين هذه المواقع منطقة الشرق الأوسط التي اصبحت في الفترة الأخيرة تشغل جزء أكبر من الاهتمام السياسي للولايات المتحدة ومن قوتها العسكرية. والمقارنة مع الاتحاد السوفيتي لا بد منها وذلك بسبب المنافسة التي كانت بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي التي امتدت على مدى تجاوز أربعة عقود من الزمن، إلى الانسحاب السوفيتي في عهد غورباتشوف من هذه المنافسة العالمية بسبب ما أصابهم من الإنهاك تحت تأثير التسابق على التسلح، لانهم لم يستطيعوا ان يصمدوا امام الاقتصاد الامريكي الهائل والنفقات التي كانوا ينفقونها من أجل المحافظة على وجودهم . ان انهيار الاتحاد السوفيتي جاء ليوقظ من جديد اهتماما مؤقتا بالموضوع؛ إلى ان أصبح الدور السياسي العالمي الجديد للولايات المتحدة باديا للعيان. وفجأة أصبح الحديث يدور حول الإمبراطورية الأميركية، ومنذ ذلك الحين أصبحت الانتقادات الموجهة إلى السلوكيات الأميركية في مجال السياسة الدولية لا تخلو من حضور ملامح واضحة لموقف مناهض للإمبراطورية. ولئن سبق أن قُذفت الولايات المتحدة في كثير من الأحيان باتهامات إمبريالية – خلال حرب فيتنام مثلا، أو تدخلاتها العسكرية في أميركا اللاتينية أو في منطقة الخليج ، إلا أن مثل هذه الاتهامات كانت موجهة دوما ضد قرارات وممارسات محددة للإدارة الأميركية. بينما يتجه الحكم للطابع الإمبراطوري والدور المتعاظم للولايات المتحدة ومطامحها الغير محدودة للهيمنة على مقدرات الشعوب. لا ينبغي أن يقع الخلط بين هذا الأمر وإعادة إحياء للإمبراطوريات الاستعمارية القديمة.لكن القاعدة التي تنبني عليها هذه المقارنات مع تشكّل الإمبراطوريات المذكورة تبقى مع ذلك ضيّقة ومحدودة بالنسبة لتحليل معمّق لمسألة حظوظ ومخاطر الإمبراطورية الأميركية. فكل من إمبراطورية روسيا القيصرية والإمبراطورية العثمانية وبكل تأكيد جديرة بأن تُستحضر داخل هذه المعاينة القائمة على المقارنة. كما لا ينبغي تناسي الإمبراطورية المغولية في القرن الثالث عشر، والتي يمكن التطرق إليها في عملية بحث و تحقيق في مسألة المنطق الذي يقود السلوكيات الإمبراطورية. صحيح أن هذه الأخيرة قد الت بسرعة إلى الانهيار، لكن توسعها قد جعل منها إحدى كبرى الإمبراطوريات التي عرفها التاريخ، ولم تتجاوزها حجما برقعة نفوذها ، سوى الإمبراطورية البريطانية ، وإن كانت موزعة على خمس قارات، بينما كانت الإمبراطورية المغولية قائمة كوحدة ترابية ملتئمة على معظم التراب الآسيوي الأوروبي. ولم تفلت من دائرة سيطرتها سوى الأطراف الغربية للهند وشرقها، وكذلك غرب ووسط وجنوب أوروبا.
المجتمع الدولي لايحتاج إلى إمبراطورية تتولى قيادته من أجل ضمان أمنه ,ان هذه القوة الإمبراطورية القائدة تمثل عامل خلل واضطراب متعاظم على النظام الدولي، وأنه يستحسن أن لا تكون موجودة. الولايات المتحدة الامريكية ومنذ لحظة تأسيسها قد اتخذت الإمبراطورية الرومانية مرجعا لها ووضعت نفسها ضمن مسار التقليد الروماني . ويتعلق الأمر في هذا المضمار إذن بالتدقيق النقدي في علاقةِ مماثَلةٍ قد اتخذت موقعا مركزيا في وعي وبديهيات النخب السياسية الأميركية على مر العصور.
إن الصورة التي نحملها عن الامبريالية محددة بالتصور الذي يرى أن الأطراف تخضع إلى النهب والاستغلال من قبل المراكز الامبريالية ، فتزداد هذه الأطراف فقرا بينما يصبح المركز أكثر ثراء. صحيح أن مثل هذه الإمبراطوريات الناهبة قد وجدت بالفعل، لكنها لم تكن لتعمّر طويلا، إذ بعد فترة محددة من الزمن كان التمرد على المركز يستفحل ويطغى، لتصبح النفقات المبذولة للحفاظ على السيطرة تبعا لذلك أكبر حجما مما تدره السيطرة على الأطراف من أرباح. وبالمقابل عرفت إمبراطوريات أخرى فترة أطول من الاستقرار، وهي تلك التي استثمرت في المناطق الواقعة على أطراف ممالكها، وعملت بذلك على جعل الأطراف تولي اهتماما إلى ازدهار الإمبراطورية بالقدر الذي يوليه المركز لذلك.ففي عام 1949م الولايات المتحدة أشعلت حرباً أهلية في اليونان ذهب ضحيتها 154 الف شخص، واودع حوالي 40 الف انسان في السجون، وآلاف اعدموا بموجب احكام عسكرية. وقد اعترف السفير الامريكي الاسبق في اليونان (ماكويغ) بأن جميع الاعمال التأديبية الكبيرة التي قامت بها الحكومة العسكرية في اليونان في الفترة ما بين عام 1947 ـ 1949م كانت مصدّقة ومهيأة من واشنطن مباشرة. يوليو 1964م: قامت المخابرات المركزية الامريكية بعملية في خليج (تونكين) الفيتنامي ضمن الخطة (34أ) لايجاد مبرر للتدخل في فيتنام، وضمن هذه الخطة شنت الولايات المتحدة 64 غارة جوية على 4 قواعد بحرية لزوارق الطوربيد الفيتنامية ومستودعات للوقود. وعلى أثر ذلك اعطى الكونغرس الامريكي صلاحيات للرئيس الامريكي (جونسون) باستخدام القوة المسلحة في جنوب شرق آسيا إذا اقتضت الضرورة ذلك. وبموجب هذا بدأت الولايات المتحدة حربها الجوية والبحرية والبرية ضد فيتنام. وبالفعل فإن المجتمع الدولي المنظم داخل الأمم المتحدة ظل خلال السنوات الأخيرة متعودا على طرح مسألة مؤهلات القوة الإمبراطورية القائدة. و الولايات المتحدة تطالب بامتيازات خاصة كمقابل عن ذلك ,وهذا لايقبل به أي أحد. الدول يشدها وثاق نظام بعينه قد صاغته بالاشتراك مع دول أخرى ولا يسعها بالتالي التحكم فيه بصفة منفردة. وبالمقابل تعتبر الإمبراطوريات نفسها صانعة نظام ورقيبة على ذلك النظام الذي لا يستقيم في النهاية من دونها وينبغي عليها الدفاع عنه ضد كل اندلاع للفوضى التي تمثل خطرا دائما عليها. إن معاينة متفحصة للتاريخ، لا تاريخ الولايات المتحدة فقط، بل تاريخ إمبراطوريات أخرى أيضا، يبرز لنا المثال الكلاسيكي المستعاد للخوف من اندلاع الفوضى، ولدور المدافع عن النظام ضد الفوضى ، الذي تمنحه إلامبراطورية لنفسها و تستمد شرعيتها من خلاله، يكوّن محتوى الرسالة الإمبراطورية التي تمثل في الآن نفسه المبرر لتأسيس المملكة الكونية, فهي تارة تسعى إلى نشر المدنية،وأخرى حماية حقوق الإنسان ودعم الديمقراطية حسب إدعائها . بينما تتوقف صلاحيات أي دولة عند حدود الدول ألاخرى، وتترك مهمة تسوية أوضاع شؤونها الداخلية الخاصة لها . تتدخل الإمبراطوريات في الشؤون الداخلية للغير من أجل الاضطلاع بمهمات رسالتها. لذلك يكون باستطاعة الإمبراطوريات أن تدفع بانطلاق مسارات تغييرية أقوى، بينما يتسم نظام الدول بطابع المحافظة البنيوية. وإذا ما عاينا المسألة من هذه الزاوية فإننا سنرى أن كل تلك الآراء التي أصبحت من المسلمات البديهية تحت تأثير النظريات الإمبريالية تفقد تماسكها؛ أي تلك الفكرة القائلة بأن نظاما عالميا يجمع دولا متساوية الحقوق ومن دون هيمنة يكون أمرا مستحبا ومرغوبا. لقد تطور نظام الأوضاع السياسية في أوروبا منذ انهيار الإمبراطورية الرومانية بطريقة انتفى معها وجود أية قوة إمبراطورية مقتدرة ومستديمة السيادة، وبالمقابل فإن الدول التي تزعم انها تقوم بهذا الدور، قد انتهت جميعها إلى الفشل مبكرا – بقطع النظر عن كون الأوروبيين قد تمكنوا بالفعل من تأسيس ممالك عظمى على أرض قارات أخرى-، بينما كان الأمر على خلاف ذلك في غيرها من أصقاع الدنيا. ففي آسيا استقر نظام سياسي ثابت بإمبراطوريات أحاطت نفسها بحزام من الدول الموالية. بقيت الولايات المتحدة الأميركية منذ نهاية القرن التاسع عشر تتدخل بصفة مستمرة في الشؤون السياسية للدول الأخرى في امريكا اللاتينية والكاريبي على المستوى الاقتصادي والسياسي، ناهيك عن المستوى العسكري. إن هذه العلاقة القائمة على عدم التناظر هي التي تحدد في المقام الأول الفرق بين الحدود الإمبراطورية وحدود الدولة. الإمبراطوريات ليس لها من جيران تعترف بهم كنظراء، أو بصفة أوضح متساوون في الحقوق معها؛ وبالمقابل فإن هذا الاعتراف بالمساواة هو القاعدة في العلاقات بين الدول. وبعبارة أخرى إن الدول توجد على الدوام في صيغة التعدد، أما الإمبراطوريات ففي صيغة المفرد غالبا. هذا التميّز الفعلي أو المزعوم للإمبراطوريات لا يكون دون تأثير على نوعية عمل الإدماج الذي يحدث داخل حدودها. فبينما تعمل الدول، مدفوعة أساسا بمفعول المنافسة مع الدول المجاورة، على تحقيق اندماج قائم على المساواة لمواطنيها-وذلك يعني أولا وقبل كل شيء, منح الجميع حقوقا متساوية سواء كانوا ممن يقطنون مناطق النواة المركزية للبلاد أو على أطرافها-، فإن الأمر على غير هذا النحو لدى الإمبراطوريات. فهنا يوجد بصفة عامّة نسق إندماجي بحسب منحدر تنازلي من المركز باتجاه الأطراف، يقابله غالبا تقلص متدرج في الالتزامات الحقوقية وإمكانيات متناقصة للمشاركة في تحديد الخيارات السياسية للمركز. ويبرز هذا جليا بالنسبة لمثال الولايات المتحدة في كل تلك المناطق الخاضعة للنفوذ الأميركي دون أن يكون لها حظ في أن ترى نفسها تدمج كولاية ضمن كيان الولايات المتحدة الأميركية، ومنطقة الكاريبي تعطينا بعض الأمثلة على ذلك. أما الحدود الإمبراطورية فبإمكانها أن تصبح بديلا عن حدود الدول. فالإمبراطوريات الاستعمارية الأوروبية كانت تفصلها عن بعضها حدود ترابية داخل القارة الأوروبية، بينما كانت تضمن لنفسها في كل من إفريقيا وآسيا حدودا إمبراطورية تفصلها عن جيرانها، وهم عادة مجرد تكتلات سلطوية غير متينة. هذان النوعان من الحدود كانا يختلفان الواحد عن الآخر بصفة واضحة وكان من الممكن التعرف من خلال كل صنف من الحدود على نوعية ما يوجد وراءها, دولة أم إمبراطورية. إلا أن الحدود الإمبراطورية بإمكانها أيضا أن تغطي على حدود دولة ما، وبذلك تمتّنها أكثر. ومنذ أن انتظمت كل المناطق الآهلة بالسكان من الكرة الأرضية سياسيا في شكل دول لم تعد هناك سوى علاقة تكاملية بين هذين النوعين من الحدود، وكفّتا عن كون إحداها بديلا عن الأخرى: إن البنية الإمبراطورية تغطي على نظام الدول، لكنها لم تعد تحل محلها، وذلك هو ما يجعل من الصعب أحيانا التعرف على ملامح وهوية الإمبراطوريات. وإن من يرى إلى الكيان الإمبراطوري بكل بساطة كبديل عن كيان الدولة سينتهي إلى نتيجة أنه لم يعد هناك من إمبراطوريات في وقتنا الحاضر. لكن من سينظر بالمقابل من منطلق تغطية البنية للإمبراطوريات على الدول فإنه سيلتقي بنسيج متشابك لتركيبة سلطوية وبنية نفوذ لا تتطابق مع النظام الذي يسود الدول. وإذا ما كانت البنى الإمبراطورية تتحدد ضمن المجال غير الشكلي فذلك أيضا من نتائج الوضع الحدودي الخاص بالإمبراطوريات. إن الحدود الترابية للدول غالبا ما تتجسد في شكل وحدة مترابطة من الحدود السياسية والاقتصادية واللغوية والثقافية. وذلك هو ما يضفي عليها طابع قوتها ويجعلها في الآن نفسه متينة وغير مرنة. بينما تمنح الحدود الإمبراطورية نفسها كنسيج تكون الحدود السياسية والاقتصادية منفصلة عن بعضها داخله والاختلافات الثقافية متراتبة والفوارق اللغوية غير ذات أهمية في كل الأحوال، وذلك هو ما يحدّ من الطابع الشكلي للحدود الإمبراطورية ويجعلها أكثر مرونة.
كانت الخلافات التي نشأت قبيل اندلاع حرب العراق مواجهة كلامية حادة حول مسألة من يمكن أن يستعمل من كأداة الولايات المتحدة هي التي تستعمل الأمم المتحدة، أم الأمم المتحدة هي التي تستعمل الولايات المتحدة, وتحول حلف شمال الأطلسي خلال التسعينات من تحالف قائم على أسس التشاور إلى أداة أميركية للسيطرة على أوروبا. ومقارنة بفترة الحرب الباردة فإن تبعية الأوروبيين الفعلية للولايات المتحدة قد ازدادت بدل أن تتقلص؛ كل من لا ينخرط في سياق الأغراض الأميركية سيكون محلاّ للضغوطات السياسية والاقتصادية. فمن اختار الالتزام بالانحياز إلى الجانب الأميركي فالباب مفتوح أمامه دوما- لكن وفقا للشروط الأميركية ودون أن يكون له أن يمارس أي تأثير في الخيارات الأساسية، مثلما كان على بريطانيا، الحليف الأول للولايات المتحدة، أن تخبر ذلك بين الحين والاخر. كما لم تسفر المشاكل التي وجدت الولايات المتحدة نفسها متورطة فيها في العراق على حدوث أي تغيير على هذا الأمر. لقد ولى زمن الالتزام بالتشاور المتبادل بين الأعضاء داخل صفوف الحلف الأطلسي، وقد اتضح في ما بعد أن توسيع الحلف الأطلسي باتجاه الشرق الأوروبي كان بمثابة الخطوة التي نتج عنها تقلص تأثير حلفاء فترة النزاع بين الشرق والغرب. داخل هذا الوضع بدأت تتكرر النداءات الموجهة إلى أميركا لدعوتها إلى ضرورة الاكتفاء بمنزلة المسيطر الليّن التي ظلت تحتلها إلى حد الآن، عوضا عن الانسياق وراء الطموحات الإمبريالية. وبغية إعطاء وزن أكبر لهذه التحذيرات ما زال المحذرون يعمدون إلى التذكير بالمخاطر التي تستعصي على التحكم، التي تنجم عن السيطرة الإمبراطورية، وإلى الخطر الذي ينطوي عليه توسعها، وأخيرا بالانهيار الحتمي الذي عرفته كل الإمبراطوريات إلى حد الآن. “بينما كانت السلطة الأميركية مهيمنة في ما مضى، أي أنها كانت مقبولة في الخارج على العموم وغالبا ما ينظر إليها كشيء مبرر، فإنها اليوم قد أصبحت مستهدفة بحد السلاح، إن كل من يحاول أن يستعيض عن وضع المسيطر بمنزلة الإمبراطورية سيكون مهددا لا بخطر الفشل في مشروعه هذا فقط، بل بخطر فقدان منزلة المهيمن أيضا. وكثيرا ظهرت اراء للمقارنة ما بين ظاهرتي الهيمنة والسيادة الإمبراطورية وذلك ضمن صيغ وتنويعات متعددة، مقترنة دوما بالإشارة المتكررة إلى كونه من الأفضل أن يظل الكيان المعني متمسكا بمكانته المهيمنة من أن ينساق إلى تغذية مطامح سيادة إمبراطورية.
وقد جاءت حرب الخليج الثالثة في ربيع سنة 2003 لتثبت أن ذلك الإعلان لم يكن مجرد تهديد كلامي فارغ. كان هناك أمام المحللين تأويلان ممكنان لهذا السلوك الجديد للولايات المتحدة تجاه مجلس الأمن الدولي, إما أن الولايات المتحدة كانت تسعى لاستعماله كأداة تشريعية تابعة تستمد منها أميريكا شرعية لتصرفاتها، أو أنها قد شرعت بهذا السلوك في التنصل من دورها التقليدي المعتاد الذي ظلت تضطلع به كيدٍ عسكرية للمنظمة الدولية. وبذلك فإنها لن تستمر في وضع آلتها الحربية المتطورة وباهضة الثمن في خدمة المجتمع الدولي، بل وفقا لما تتطلبه مصالحها الخاصة.