22 ديسمبر، 2024 6:58 م

أكذوبة (الخبراء )

أكذوبة (الخبراء )

في عالم الاعلام ومع انتشار القنوات الفضائية ووسائل التواصل الاجتماعي برزت ظاهرة ما يعرف باسم (الخبراء ) وهولاء هم مجموعة من المدعومين من قبل ما يسمى مجموعات الضغط في وسائل الاعلام ويتلخص دورهم بتلفيق الحجج الكاذبة وتدليس المعلومات ولي المعاني بما يخدم توجهات القنوات التي تتيح لهم فرصة الظهور امام الناس فهم اقرب للمرتزقة لانهم لا يؤمنون بما يطرحونه من أفكار ولكنهم يملكون المادة التي يخدعون بها الجمهور من خلال تقديمهم تحت عنوان ( خبير ) فظهر لنا الخبير الأمني والخبير الاقتصادي والخبير القانوني والخبير المالي والخبير العسكري والخ من القاب هدفها احداث تأثير على الجمهور. وهذا التاثير لايقتصر فقط على الإعلام فقط، بل يصل الامر الى توجيه السياسات العامة من خلال احداث تيار شعبوي يؤمن بان هولاء (الخبراء ) وبما يمتلكون من (خبرات ) هم القادرين على تقديم الحلول السحرية لكافة المشاكل التي تواجه المجتمع وخصوصا مع انتشار (الدكاكين ) التي تبيع شهادات الدكتوراه والماجستير لمن يدفع اكثر او لصاحب النفوذ او المنصب والذي لايهمه سوى وضع حرف (الدال) امام اسمه ليضم لقدراته (الخارقة ) سلطة (العلم ) بعد ان ضمن سلطة المال وسلطة المنصب .
تحولت صفة (الخبير ) الى وسيلة مرعبة لقيادة الراي العام الشعبوي من خلال تدليس الواقع بغطاء اكاديمي علمي وثقافي يسهل من خلاله قيادة التوجهات العامة باتجاه معين سواء من خلال ايصال مخطط معين أو الوقوف ضد تيار فكري معين أو تزوير حقائق محددة حول فكرة او شخص او جماعة بعينها. وبغض النظر عن معيار الكفاءة فالامر لايحتاج الا بدلة رسمية وربطة عنق أنيقة، وميكروفون وصوت جهوري مستعد لاطلاق الشتائم عند الحاجة مع القدرة على توزيع الاتهامات عند الضرورة بما يتلائم مع التوجهات السياسية أو الدينية التي تتبناها الجهة المستضيفة والتي يتم املائها على (الخبير) قبل ظهوره على الشاشه .
ان ظهور مثل هذه الفئة من الذين يمكن ان نطلق عليهم اسم (المثقفين الطحالب ) لانهم مثل الطحالب لا جذور لها ولكنها تتسلق للوصول الى غايتها لا يطعن في مصداقية العمل الإعلامي فقط ولكنها أيضا تدفع الى نشر مفاهيم خاطئة بين المجتمع وتضليل الراي العام بدل ارشاده كما انها تطعن بقدرة الطبقة الاكاديمية بصورة عامة لانها تقدم صورة من انعدام المصداقية المهنية والأكاديمية تنعكس سلبا على سمعة تلك الطبقة بصورة عامة . فعلى سبيل المثال عندما يقوم من يسمى (الخبير القانوني ) بتقديم معلومات مغلوطة عن الدستور العراقي مثلا فان ذلك ينعكس على صورة كافة حملة شهادة القانون في البلد لان المتلقي يقول اذا كان هذا هو قول (الخبير ) فما بالك بغير الخبير. وكذلك الامر بالنسبة لبقية (الخبراء ) والذين تزداد خطورتهم مع اندفاعهم لخدمة اهداف الجهة التي تقدمهم للجمهور لعلمهم ان مخالفة تلك التوجهات معناه انقطاع الدعوات للظهور للاعلام مجددا وانقطاع العوائد التي ترافق ذلك الظهور .
يشترك أولئك (الخبراء الطحالب ) بسمات مشتركة يسهل معها كشفهم وبيان حقيقتهم وابرز تلك السمات نبرة الثقة التي تميز الأصوات التي تخرج من افواههم او كما عبر عنها احد (الخبراء القانونيين ) بقوله ( انا أقول الفقرة القانونية وحتى يتاكد المتلقي من صحتها يكون البرنامج قد انتهى واستلمت المكافأة ) وهذه النبرة الواثقة تجعل من الصعوبة الاعتراض على مايقولون . السمة الثانية والأخطر هي طرح (الوقائع) بطريقة توحي وكأن المتكلم كان مشاركا في صياغة الاحداث لا بل وان (المسؤولين ) كانوا لايقدمون على عمل دون ان يتصلوا بالمتكلم لاخذ الراي والمشورة فيما يقولونه او يفعلونه . ولكن اكثر سمة تفضح أولئك (الخبراء ) هي ان ماينطقون به يكون دوما متناغما مع رأي ذوي القوة والنفوذ مثل ان يظهر (خبير امني ) ليؤكد ان (الانفجار ) لم يسبب سوى خسائر طفيفه رغم ان الصور المعروضة تؤكد ان الخسائر بالمئات ولكنهم يُكثرون من التأكيدات القاطعة ومخالفة الحقائق المهم ان تكون تلك التأكيدات قريبة من رغبة الشارع ومتناسقة مع توجهات ذوي القوة لذلك ليس مستغربا ان ترى نفس (الخبير ) يطرح وجهة نظر في قناة تلفزيونية وبعد اقل من ساعة نراه على قناة تلفزيونية أخرى يتبنى وجهة نظر مغايرة تماما لمجرد ان القناة الأخرى تختلف في توجهاتها السياسية والاجتماعية. فهم قد فهموا طبيعة اللعبة فدخولهم في دائرة النخب وقبولهم يوجب عليه أن يقولوا ما تفكر به الجهة الراعية التي تقوم بعملية التمويل والتلميع والتقديم ولو كانت تلك التوجهات تختلف عن حقيقة ما يعتقدون به تماما ، ومن العبارات التي يكررها المزيفون عن خصومهم أنهم لم يفهموا شيئاً من دروس التاريخ، والعلامة المسجلة في كلام المزيفين هي الصيغ اللاذعة، والأحكام القاطعة.
من السمات المهمة الأخرى التي يتميز بها (الخبراء) هي الحضور في كل الشؤون العامة تقريباً، والسهولة في توجيه الاتهامات للاخرين ونسبة مواقف غير صحيحة لخصومهم وغالبا ما تكون لااساس لها ولكنها تحرج المحاور الاخر او الخصم لفترة من الزمن وتحوله من موقع الهجوم الى موقع الدفاع ، وفي الغالب تغلق الأبواب الإعلامية أمام هؤلاء الخصوم فلا يستطيعون الرد.
وأخيرا فان أولئك (الخبراء) يتسلحون بقائمة طويلة من الألقاب العلمية التي تسبق أسماءهم بهدف منحهم الصبغة العلمية والتي تعتبر الضمانة العلمية لكلامهم، وهم في عملهم يعتمدون على قصر ذاكرة الجمهور المتلقي فعلى سبيل المثال عندما يطلب منهم التسويق لاجراء من الإجراءات الاقتصادية يقومون بتزويق الوعود بالرخاء الذي سيجلبه ذلك الاجراء الاقتصادي وفرص العمل التي سيوفرها معتمدين على ان أي اجراء اقتصادي لتتبين نتائجه سيحتاج الى عدة اشهر تكون الجماهير المتلقية قد نست كلامهم الأول في حالة فشل ذلك الاجراء الاقتصادي مما يمكنهم طرح أفكار مغايرة لما طرحوه سابقا مع قدرتهم على استغلال نفوذهم من أجل إسكات مخالفيهم .
ان الأثر المدمر الذي يتركه هولاء (الخبراء ) يتجلى في زرع أفكار ومعلومات خاطئة يتم تقبلها من طرف المتلقي باعتبارها حقائق قاطعة ما دامت صادرة من اشخاص تصفهم وسائل الاعلام بانهم (خبراء ) ويحملون (شهادات ) عليا وبعضهم من (التكنوقراط ) أي لايتصور رجل الشارع ان أمثال هولاء يمكن ان ضللوه او يخدعوه او يقدموا له معلومات غلط . ولعل ابرز مثال على الدور المدمر لامثال هولاء ( الخبراء ) قد برز اثناء انتفاضة الشارع العراقي خلال الأعوام 2019 – 2020 . فقد تم استخدام هولاء (الخبراء ) لتشتيت زخم الانتفاضة من خلال ضخ معلومات خاطئة حول القانون وحول إمكانيات التدخل الدولي لحماية المتظاهرين او تزوير الاتصالات مع المحكمة الجنائية الدولية وكذلك المعلومات الخاطئة حول الدستور . وكان لتلك المعلومات اثر ملموس في تشتيت جهود المتظاهرين وقيادتهمم بالاتجاه الخاطئ .
ان مكافحة ظاهرة (الخبراء الكذبة ) تقع في الأساس على المثقفين الحقيقيين لمواجهة الأكاذيب والمعلومات المغلوطة التي تؤثر على المتلقي . كذلك هناك الدور الكبير للاتحادات والنقابات والمنظمات المهنية التي يجب عليها كشف حقيقة أولئك الكذابون .