23 ديسمبر، 2024 11:46 ص

أقدم نص لشعر عربي فصيح مدوّن : قراءة في نقش عين عبدات النبطي

أقدم نص لشعر عربي فصيح مدوّن : قراءة في نقش عين عبدات النبطي

اول من اعلن عن اكتشاف نقش عين عبدات كان إبراهام نقب، استاذ علوم الاثار في الجامعة العبرية في القدس وذلك في عام 1986، حيث نشر مقالا عنه تضمن قراءته الاولى بالعربية الحديثة من قبل ج. نافة و س. شاكد. وحسب مقدمة نقب اكتُشف هذا النقش عام 1979 في عين عبدات قرب مدينة عبدات النبطية التأريخية في وسط صحراء النقب. (6) وهذه المدينة التي شيدت حوالى 300 قبل الميلاد كانت ثاني اهم مدينة نبطية بعد البتراء مابين القرن الاول قبل الميلاد وحتى بدايات القرن السابع الميلادي عندما دمرها زلزال ارضي عنيف. ويُعتقد ان الملك النبطي عبدات الاول (96 – 85 قبل الميلاد) مدفونا فيها. وقد احتوى هذا النقش المكتوب بالحروف النبطية على 6 سطور، كتب السطر الاول والثاني والثالث والسادس منها باللغة الآرامية والسطرين الرابع والخامس باللغة العربية النبطية، حسب المستشرقين. وفي عام 1990 قام بلمي باعادة ترجمة وقراءة السطرين العربيين من النقش. (2) وكانت فقرة الاسطر الثلاث الاولى دعوة من قبل شخص اسمه جرم الهي للصلاة للاله عبدات (ربما الملك النبطي عبدات الاول) ثم تبعها سطرين من الشعر العربي العمودي عن حتمية الموت وسطر أخير يشير الى ان جرم الهي كان قد كتب الابيات او نص النقش بنفسه.
 
صورة لحجر نقش عين عبدات صورته أدا يردني، وتحته رسم المؤلف المعدل في موقعين من رسمها لحروف النقش النبطية. (6)
اما ترجمة نافة الحرفية عن النبطية والتي اعتمدها بلمي كليا فيما عدا استبداله لكلمة “ارد” بكلمة “ادد”، فكانت:
ذكير بطب قرا قدس عبدت الها وذكير
من [………………..]
جرم الهي بر تيم الهي صلم لقبل عبدت الها
فيفعلو لا فدا ولا اثرا فكن هنا يبغنا الموتو لا
ابغه فكن هنا ارد جرحو لا يردنا
جرم الهي كتب يده

لقد كانت قراءتي نافة وبلمي للنقش معتمدة اساسا على تفسيرهما لسطري الشعر العربي الذي ذكر تحديدا كلمة “جرح”. اذ اعتقد كل منهما ان فاعل “ويفعلُ” كان الاله وان جرم إلهي اراد حماية نفسة من الموت او كان قد نجى بعد اصابته بجرح ملوث. وكان كل ذلك سببا في تقديمه صنم للاله عبدات ودعوته للصلاة له اذ اعتقد ان نجاته جاءت بفعله وارادته.
ولان حروف الدال والذال والراء في النبطية متشابهة تماما، فقد قرأ نافة كلمة “ادد” التي سبقت كلمة “جرح” على انها الفعل “أراد” واعتقد ان فاعلها كان الاله. وهذا نص قراءته لسطري الشعر بالعربية الحديثة: (6)
فيفعل لا فدى ولا اثرا.  فكان ان يبغنا الموت لا أبغه.  فكان أن أراد جرح لا يردنا

ثم فسر نافة وشاكد المقاطع الشعرية كالاتي:
ويفعل (الاله عبدات) ليس لمكافأة او تفضيل. وعندما يقصدنا الموت لا تدعه يقصدني. وعندما يصيب مرض او جرح، لا تدعه يصيبنا.
اما بلمي والذي يعود له الفضل في تصحيح قراءة مكتشف نقش النمارة، المستشرق الفرنسي دوسو، لعدد من الكلمات الهامة في ذلك النقش، فقد قدم قراءة عربية منسجمة شعريا وواضحة للسطرين العربيين، رغم ان تفسيره لهما كان متفقا مع تفسير نافة. اذ اعتقد بلمي ان كلمة “ادد” كانت “أداد” بمعنى “تلوّثْ” معتمدا في ذلك على قول الزمخشري “أعزم عليك ايها الجرح ان لا تزيد ولا تديد”. (2) ولكن قراءة بلمي للكلمتين “اداد جرحٌ”  كمضاف ومضاف اليه غير صحيحة، فالمضاف اليه كان مضموما وهذا غير جائز في النحو العربي. وانا لا اشاركه الرأي في ان هذا التحريك كان نتيجة لخطأ ارتكبه كاتب الابيات الشعرية،على حد قوله. فرغم احتمالية ان كلمة “تديد” في عبارة الزمخشري كانت تعني فعلا “تتلوث”، الا ان كلمة “أداد” حسب لسان العرب مشتقة عموما من “أدد: الإد والإدة: العجب والأمر الفظيع العظيم”، وهي بهذا المعنى اكثر ملاءمة للنص، اذ يمكن ان تكون مبتدأ لجملة جديدة بما يبرر تحريكها بالواو. (5) ادناه نص قراءة بلمي للسطرين بالعربية الحديثة كثلاثة انصاف من ابيات شعر عربي عمودي: 
فيفعلُ لا فِداً ولا اثرا.  فكان هُنا يَبْغِنا الموتُ لا أبْغاهُ.  فكان هُنا أدادَ جُرحٌ لا يرْدِنا
وقد فسر بلمي المقاطع الشعرية الثلاث كما يلي:
لانه (الاله عبدات) يفعل فعله بدون مكافأة وتفضيل، وهو، عندما حاول الموت ان يأخذنا، لم يدعه يأخذنا، اذ عندما تلوث جرح (لنا)، لم يدعه يفنينا.
والاعتقاد اعلاه في ان كاتب الشعر كان يتحدث عن الاله هو الاعتقاد السائد اليوم عند جميع المختصين في الغرب. فمثلا، واعتمادا على قراءة بلمي، اعطى المستشرق الامريكي هويلاد ترجمة مختلفة قليلا كالاتي: (3)
لانه (الاله عبدات) يفعل بدون مكافأة او تفضيل بالمقابل. رغم ان الموت قصدنا كثيرا الا انه لم يسمح له من الوصول لنا. رغم اصابتي بجروح كثيرة، الا انه منعها من تدميري.
وبرغم براعة قراءة بلمي العربية للمقاطع الشعرية الثلاثة اعلاه وشرحه لمصداقيتها عبر تصنيفه لها كابيات شعرية عربية في الطويل، الا انها لا تبدو لي مقاطع منسجمة مع قواعد الشعر العمودي. وحتى بعد استبدالي كلمة “اداد” بكلمة “ادد” واعادة ترتيبي لكلمات السطرين على شاكلة بيتين من الشعر العمودي أرى انها لا تبدو ابيات شعرية سلسة وموزونة:

فيفعلُ لا فِداً ولا اثرا   فكــان هُنــا يَبْغِنـــا
الموتُ لا أبْغاه فكان هُنا  أدد جُرحٌ لا يرْدِنا
الا انني، وبعد اعادة تتبعي لحروف النقش النبطية في صورة يردني، اكتشفت بضعة اغلاط في تتبعها للحروف وتوصلت الى بصم حرفي جديد يختلف عن بصمها وعن ترجمة نافة بالعربية الحديثة له في أربعة مواقع، اشرت لها ادناه بحجم الخط السميك. اذ انني ارى بوضوح في صورة يردني، بل وحتى في بصمها للنقش، ان حرف الهاء في كلمة “ابغه” لم يكن حرف هاء نهائي وانما هاء وسطية. وحرف الفاء في كلمة “فكن” الثانية في بصم يردني لم يكن حرف الفاء وانما كان حرف الواو وكان متصلا بكلمة “ابغه” السابقة له. اما حرف الكاف في كلمة “فكن” فقد كان حرف الميم. وبعد تفحصي لصورة ثانية مكبرة للكلمات الاولى من السطرين الثالث والرابع في النقش، حصلت عليها لاحقا، تيقنت ان سلسلة كلمات بداية السطر الثاني (السطر الرابع) كانت “ابغهو من هنا ادد”. وفي هذه الصورة يظهر واضحا ان حرف الهاء النبطي كان بشكله الاولي متصلا بحرف واو نبطي تبعه حرف ميم نبطي كلاسيكي بشكله الاولي، ايضا. اما ذرات الرمل في اسفل ذنب حرف الواو المتجه يسارا فهي لم تكن جزءا من ذلك الحرف.
 
صورة مكبرة لحجر نقش عين عبدات تبين الكلمات الاولى من السطرين الثالث والرابع المتضمنين لبيتي الشعر العربي العمودي.

وهذه ترجمتي الحرفية الجديدة للنقش من النبطية:
ذكير لمنقرا قدس عبدت الها وذكير
[]من [………………..]
جرم الهي بر تيم الهي صلم لقبل عبدت الها
فيفعلو لا فدا ولا اثرا فكن هنا يبغنا الموتو لا
ابغهو من هنا ادد جرحو لا يردنا
جرم الهي كتب يده
وبذلك، وحسب بصمي وترجمتي الجديدة للنقش، وقراءتي لكلمة “أدد” بمعنى “امر عَجَب”، يمكنني تعديل قراءة بلمي للسطرين وترتيبهما كبيتي شعر عمودي كالاتي:
فيفعـــلُ لا فِدا ولا أثرا فكــان هُنــا يَبْغِنـــا
الموتُ لا أبْغَهُ من هُنا   أدَدُ جُرحٌ لا يُرْدِنا
وبرغم ان قراءتي الجديدة هذه قراءة منسجمة شعريا ونحويا، الا ان هناك احتمالات اخرى لقراءة البيت الثاني. اذ ربما كانت كلمة “أدد” في الواقع كلمة “أذذ” او “أذّ” وكلاهما متعلق بالألم والأذية. فقد كتب ابن منظور في لسان العرب مايلي: (5)
أذذ: أذ يؤذ. قطع مثل هذ، وزعم ابن دريد أن همزة أذ بدل من هاء هذ ، قال:
يؤذ بالشفرة أي أذ      من قمع ومأنة وفلذ
او ربما كانت هذه الكلمة في الواقع كلمتين هما “إذ” و “ذا” وقد كتبتا “إذ ذَ”. فقد استخدمت العرب قديما حرف الذال لوحده كاسم اشارة وحركوه بالفتحة للمذكر وبالكسرة للمؤنث، كما سنتناول ذلك في فصل قادم.
وبذلك، وحسب الاحتمالات الثلاثة اعلاه في قراءة كلمة “أذذ”، يمكننا قراءة بيتي الشعر بالعربية الحديثة كالآتي:

فَـيَفعَــلُ لا فِدا ولا أثَرا  فكـانَ هُنـــا يَبْغِنـــــا
الموتُ لا أبْغَهُ من هُنا  أذَذُ جرحٌ لا يُرْدِنـــا
أو:
فَـيَفعَــلُ لا فِدا ولا أثَرا  فكـانَ هُنـــا يَبْغِنــــا
الموتُ لا أبْغَهُ من هُنا  أذُّ جرحٌ لا يُرْدِنــــا
أو:
فَـيَفعَــلُ لا فِدا ولا أثَرا  فكـانَ هُنـــا يَبْغِنــــا
الموتُ لا أبْغَهُ من هُنا  إذ ذا جرحٌ لا يُرْدِنا
وتفسيري للبيتين حسب قراءاتي الاربعة اعلاه ، بل وحتى حسب قراءة بلمي، كالآتي:
الموت فعلٌ حتمي لا يمكن منعه بأستئثار او بفدية، فهو يبتغينا ويبلغنا جميعا في حياتنا، الا انني لا اريده او أبتغيه من هذه الحياة فهو فعل عجيب، جرحٌ لا يُميتنا او يُفنينا حقا. او، فهو أيذاءٌ لاغير، جرح لا يُميتنا او يُفنينا حقا.  او، اذ هو ليس الا جرحٌ لا يُميتنا او يُفنينا حقا.
ولانني لست من المختصين في الشعر العربي وقواعده وموازينه أحلت قراءاتي العربية الجديدة لاحد ابرز الشعراء المعاصرين العرب، سعدي يوسف، والذي قام بمراجعة وتصحيح حركات بضعة كلمات فيها، واقترح القراءة الاخيرة اعلاه، ثم اشار الى ان البيتين كانا “أقرب الى البسيط: مستفعلن فاعل”، وليس الطويل، كما جاء في قراءة بلمي. بينما اعتقد الشاعر العراقي المعروف عبد الرزاق عبد الواحد ان هذه الابيات لم تكن موزونة شعريا. اما الشاعر العراقي المبدع صلاح عواد والذي رجح القراءة الاخيرة ايضا، فهو يعتقد انه وبرغم وجود “احتمالات تقترب من بحر الطويل” الا انه يميل الى ان ابيات الشعر كانت في “بحر الرجز لان وحدته مستفعلن مستفعلن مستفعلن والشاعر استخدم مجزوء الرجز وهذا شائع في الشعر العربي”. ولاهمية هذين البيتين الشعريين التأريخية، ادعو الباحثين واللغويين العرب الى دراستهما بشكل مفصل معنى واعرابا.

قائمة مختارة لمصادر البحث العربية والاجنبية
1. Abulhab, Saad D. DeArabizing Arabia: Tracing Western Scholarship on the History of the Arabs and Arabic Language and Script. New York: Blautopf Publishing, 2011.
2. Bellamy, J. A. “Arabic Verses From The First/Second Century: The Inscription Of ʿEn ʿAvdat”,  Journal of Semitic Studies, 35: (1990(, 73-79.
3. Hoyland, Robert G. Arabia and the Arabs: From the Bronze Age to the Coming of Islam. London: Routledge. 2001.
4. Ibn Manẓūr, Abū al-Faḍl Jamāl al-Dīn Muḥammad bin Mukar¬ram. Lisān al-ʿArab. http://www.islamweb.net/newlibrary/
ابن منظور، ابو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم. لسان العرب   
5. al-Nadīm, Ibn. The Fihrest of al-Nadim. Translated and Edited by Bayard Dodge. New York: Columbia University Press, 1970.
6. Negev, A. “Obodas The God”, Israel Exploration Journal, 36, 1/2 (1986): 56-60