في حديث لا يمتّ الى الصدق بصلة، نُقِل بلا أمانة، عن الزعيم الهندي غاندي، قوله: “لا أحب الانتقام، لأني لن استهلك عمري في مطاردة كلب، عضّني”.
لم يعد التلفيق مقتصرا على الأخبار وفبركة الأحداث، اذ بات ذلك من قبيل الأمر الواقع الذي اضطر البعض الى الرضوخ عنده، لتتوسع الظاهرة الى الاحصائيات، والروايات، وتقويل شخصيات التاريخ والسياسة، والعلماء
والقادة، والعظماء ما لم يقولونه، وضخّه على انه من المسلّمات، يصدّقها الكثير، وتتداولها وسائل التواصل والتراسل، بانبهار، من دون حتى التشكيك بها.
الأنباء المنحازة الأفّاكة سرعان ما تعلن الأطراف ذات العلاقة، عدم مصداقيتها. لكن من ذا الذي يكذّب قولا مُختلقا لهتلر يتداوله الآلاف بل الملايين، ويُنسب له ما لم يقله.
على هذه النحو، تُصنع الأساطير والتصريحات لزعماء تاريخيين وأنبياء وفلاسفة، من دون ان يكذّبها أحد، لسبب بسيط وهو انّ الأطراف ذات العلاقة، باتت ماضيا عميقا، عدا أصحاب الاختصاص والبحث الذي يدركون ويميّزون
الكذب من المصداق.
ينقلون عن هتلر انّ قواته حين حوصرت في لينينغراد، حثّهم على الصمود كما صمد المسلمون في احدى معاركهم.
ويُنقل عن تشرشل قوله: لا تخونوا بلادكم مثل العرب..
ويتداول التواصل الاجتماعي، عن الزعيم الصيني ماوتسي تونغ انه قال ان “الخائن هو من يأكل من خيرات بلده ويتآمر عليه مع الاجنبي”، في محاولة من مختلق الكلام، لدعم وجهة نظره. وكل ذلك بالطبع، أقاويل باطلة.
ثمة احصائيات قاتلة، تفصح عن ادمان واضح للاختلاق، الذي يصدقه كثيرون ويتداولونه باندهاش واعجاب ويسعون الى ملائمته على ظروف حياتهم اليومية، فكأنها نبوءة توقّعت ما سيحل بهم.
من الاحصائيات الغريبة، ان خطيبا دينيا قال ان “لطمة على الصدر اثناء موسم ديني تقتل “كذا مئات” من الكريات البيضاء، ما يزيد من مناعة الجسم”. لقد سالت الأطباء وخبراء الصحة وعلماء فلم اعثر على صحة ما يقوله هذا الخطيب. ولست بصدد الخطيب، فليس لي شأن به، بل صحة ما قاله تحديدا من الناحية العلمية.
ان شركة يابانية قدّرت أثمان أعمدة الكهرباء المعدنية في العراق، بمليارات الدولارات وعرضت على الحكومة، اقتلاعها وتصديرها الى اليابان، باعتبارها بضاعة ثمينة، مقابل امتيازات هائلة منها توفير الكهرباء.
وفي إحصائية أخرى، فان طبيبا عراقيا اكتشف ان رأس الاركيلة يعادل في اضراره نحو خمسين سيكارة، وان شركة اجنبية عرضت عليه شراء البحث. ولا نعرف من هو الطبيب، و من هي الشركة.
وانتجت مصانع التخاريف والكذب، الكثير من التقولات على لسان زعماء التاريخ، حيث لا شاهد حي يردّ، ولا باحث يمتلك الوقت، او يهتم ليصحح.
ابتكر الكذابون والمحتالون على الناس، طرق مبتكرة أخرى في تسويق البضاعة الكاذبة، عبر عبارات طنانة من مثل
“أكد بحث ألماني”، أو “نشرت صحيفة واشنطن بوست”، أو “قال عالم في ناسا” وهلم جرا..
وفي اكذوبة مفضوحة لكنها نالت اعجاب كثيرين، وتفاعلوا معها، وتضامنوا معها، قول هتلر: أعطني جنديًّا مصريًّا وسلاحًا ألمانيًّا لأغزو العالم.
وفي اختلاق انطلى أيضا على مواقع التواصل الاجتماعي ان تشرشل قال: إذا مات العرب ماتت الخيانة.
وفبركوا لهنري كيسنجر، وزير الخارجية الأسبق للإدارة الأمريكية في عهد الرئيس نيكسون، قوله: لقد أبلغنا الجيش الأميركي أننا مضطرون لاحتلال سبع دول في الشرق الأوسط نظرًا لأهميتها الاستراتيجية، وفي طليعتها العراق.
روايات احتيال منحازة، اما عن عفوية من نتاج الجهل، او مقصودة من بروبغاندا سياسية تسعى الى صناعة رأي عام، يوافق توجهاتها، حتى وانْ كان ذلك بخلق الخرافات الكلامية، على حساب الحقيقة.
والخطر ليس في تسويق الخبر الكاذب، بل في البناء عليه، والتحليل انطلاقا منه، والعمل على جعله “حقيقة”، ينبهر بها البعض ويتفاعل معها.
كان المتوقع انْ تتحول هذه الفعاليات في الاعلام والخطاب الجمعي الى “نكتة” و “سخرية سياسية”، لكن غياب الوعي
يجعل منها حقيقة ناصعة، لدى المغفلين، لينتج عن ذلك في النهاية قاعدة بيانات تخدع الرأي العام بامتلاكها أدوات التأثير.
سوف تستمر مصانع إنتاج التخاريف والكذب، في تسويق بضاعتها طالما انحسرت المعرفة وتزاحم الجهل على احتلال العقل.
مرفقان (2)