19 ديسمبر، 2024 12:56 ص

أفكار لشبكة إعلام عراقية أكثر نضجاً

أفكار لشبكة إعلام عراقية أكثر نضجاً

بحسب ماجاء في المادة 38 من الدستور العراقي فـ( ان الدولة تضمن حرية الصحافة والطباعة والأعلان والأعلام والنشر ) ، ويدرك المشرّع العراقي ، أهمية الأعلام بكونه ممثلاً لإرادة الشعب بمختلف انماطه ، المطبوع والمسموع والمرئي.
وكما هو معلوم، فالأعلام هو وسيلة إيصال الفكرة من المرسل الى المتلقي، وفي العراق وسيلتان مهمتان لإيصال صوت الحضارة الى المجتمع البسيط في المدينة والقرية والريف هما الراديو والتلفزيون. أما الإعلام المقروء عادة فهو المتعارف عليه عند الفئة المثقفة او تلك التي تخلصت من مشكلة الأمية التي تشكل نسبة عالية من المجتمع العراقي والعربي.
وإذا كانت وظائف الاتصال في المجتمعات ذات الحكم الشمولي محدودة التأثير بفعل التدخلات الحكومية وأحادية القرار والتوجيه، فإن هذه الوظائف في المجتمعات الديمقراطية المفتوحة تكتسب حيوية بالغة وأهمية كبيرة وفاعلية وتأثيراً بالغاً دفع بالمفكرين والفقهاء السياسيين الى وصف سلطة الإعلام بـ (السلطة الرابعة) تكاملا مع السلطات التقليدية وهي التشريعية والتنفيذية والقضائية.
فالإعلام الحر، هو أحد المقومات البارزة للمجتمع الديمقراطي، وبدون وجود مثل هذا الإعلام لا يمكن ان تنمو أية تجربة ديمقراطية حقيقية وتتطور وتزدهر، فهو بمثابة صمام الأمان لها يحرسها ويقوّمها ويفتح أمامها آفاقاً واسعة للنضج والتطور، فالإعلام الديمقراطي لا يمكن ان يولد بصورة مثالية ومتكاملة مرة واحدة فهو يمر بمراحل ولادة ومراهقة ثم نضوج بالتفاعل والامتزاج مع المسار التاريخي والموضوعي لسير العملية الديمقراطية في أي بلد وأي مجتمع .
وكلامنا هذا ينسحب على التجربة الفتية لمؤسسة عراقية مهمة هي (شبكة الإعلام العراقي) التي ورثت منذ العام 2003 كل تراكمات وزارة الاعلام المنحلة،من بنى محطمة وأستديوهات عتيقة وأجهزة ومرسلات خربة..لكن الاصعب كان العدد الهائل من كوادر وزارتي (الاعلام والثقافة)وكثير من هؤلاء لايحمل مقومات العمل المهني او لنقل ان حدود امكانياته تأبى التطور ومواكبة حرفية العمل الاعلامي المتقدم.
مادفعنا لكتابة هذه السطور،هو تولي الشاعر والاعلامي الدكتور علي الشلاه لمنصب الرئيس التنفيذي لشبكة الاعلام العراقي وهي بادرة طيبة بوضع الرجل المناسب في المكان المناسب،حيث لم يشغل هذا المنصب سابقاً أي اديب او شاعر او اعلامي بوزن الشلاه..كما اننا لم نلحظ متغيراً ملموسا في اداء الشبكة طيلة السنوات الماضية،حيث شهدت مسيرتها الكثير من الهفوات والإرتجال وسوء الاداء..وانا هنا اتكلم عن الصنعة الاعلامية وليس الصبغة السياسية او التدخلات الحكومية والحزبية..الخ.
ولكي تنتقل هذه المؤسسة صوب الاحترافية والتفوق،لابد لنا أولاً من معرفة التحديات التي تواجهها وبعد ذلك يمكننا وضع الحلول والمعالجات الناجعة لهذه التحديات والعقبات التي تقف بوجه تطورها وتفاعلها مع محيطها ومع جمهورها الواسع، وأبرز التحديات الحقيقية التي تواجه وسائل إعلام الشبكة في مجتمعنا المتحول نحو الحياة الديمقراطية هي :
1-التحدي الفكري والأيديولوجي:وهنا تحتاج شبكة الإعلام الى فترة زمنية كافية حتى تفك ارتباطها بالأيديولوجيات الشمولية لتسبح في فضاءات حرة.
2-التحدي السياسي:من الواضح ان الجو السياسي الجديد في ظل الانفتاح الديمقراطي قد يبدو غريبا لأول وهلة على وسائل الإعلام التي اعتادت على نظام سياسي أحادي وشديد المركزية في ميادين السياسة والاقتصاد والثقافة.
3-التحدي الاقتصادي: وهنا المسألة اشد تعقيداً، فبعد أن كانت وسائل الإعلام لاتفكر في موضوع التمويل، وهي مسألة مهمة وحيوية لاستمرار عمل أية وسيلة إعلامية، وجدت هذه الوسائل نفسها أمام معادلة صعبة هي الحصول على تمويل يمكنها من الاستمرارية والتطور مع الحفاظ على الاستقلالية.
4-تحدي العلاقة مع الجمهور المتلقي: لا تبدو العلاقة بين شبكة الاعلام بوسائلها المختلفة وجمهورنا اقل أهمية من التحديات السابقة التي تواجه الإعلام الديمقراطي الناشيء، فالمتلقي قد ترسخت في وجدانه اللاشعوري صورة نمطية عن وسائل الإعلام الناطقة بإسم الحكومة والمعبرة عن خطها. وهذه العلاقة او الصورة النمطية لدى المتلقي عن وسائل الإعلام في المجتمع الشمولي تعرضت الى هزّة عنيفة ومفاجئة، حين يرى المتلقي بان وظائف وسائل الإعلام قد تغيرت تماما، وعليه فان هذا الجمهور المتلقي بحاجة الى تمرين وإعادة تأهيل كي يتفهم ويستوعب الدور الجديد لوسائل الإعلام.
5-التحدي المهني: الإعلاميون في ظل حكم شمولي مغلق كان ينقصهم الكثير من المؤهلات والمهارات وآليات العمل والتدريب المهني والاطلاع على تطور أداء وسائل الإعلام في البلدان الديمقراطية المتقدمة،فضلا عن أنهم كانوا بمعزل عن الاحتكاك بزملاء المهنة في العالم والاطلاع على ما وصلت إليه التقنيات الإعلامية الحديثة من تطور على صعيد التحرير والإخراج وطبيعة الأدوات والآليات المستخدمة في العمل الإعلامي.
6-التحدي القانوني: أي غياب تشريعات وقوانين واضحة تكفل حرية الإعلام وتحدد طبيعة العلاقة بين المؤسسة الإعلامية والمؤسسات التنفيذية والقضائية، لأن نصوص الدستور الضامنة لحرية الإعلام والتعبير وحدها غير كافية ان لم تقترن بتشريعات مفصلة قابلة للتطبيق وحل الإشكالات الناجمة من تفاصيل العمل الإعلامي اليومي.
واذا انتقلنا من التأصيل النظري الى الواقع العملي وأخذنا التجربة الإعلامية العراقية الجديدة كحالة تصلح نموذجا للدراسة فإننا سنجد أنفسنا امام تجربة إعلامية جديدة ومتميزة يمكن وصفها بالفورة الإعلامية التي انفجرت كبركان كان نائما لعقود ثم انطلق بصورة غير متوقعة عكست
مدى تعطش الجمهور العراقي منتجين ومستهلكين للمادة الإعلامية بعد إدمان طويل على إعلام مركزي أحادي دام لعقود طويلة.
وقد تميزت هذه التجربة الوليدة بسمات ايجابية وسلبية يمكن ان نوجزها بالنقاط التالية:
1-صدور عدد لابأس به من المطبوعات الصحفية بشكل منتظم لعل اهمها جريدة الصباح اليومية واسعة الانتشار والتي غدت اليوم صحيفة العراق الاولى،تليها مطبوعات أخرى اوجدتها الشبكة ولاسيما صحف اسبوعية في خمس محافظات ظلت تصدر بإنتظام وبنسق مواز لرسالة شبكة الاعلام واهدافها وتوجهاتها هي (الاخبار في البصرة،السماوة،الديوانية،الفيحاء في بابل وصباح كربلاء) ضلا عن مجلة الشبكة نصف الشهرية التي بدأت بحجز حصتها من فئة الجمهور المستهدف ولاسيما من شريحة الشباب المثقف.
2-انطلاق عدة محطات إذاعية مسموعة ومرئية (أرضية وفضائية) مما وسع من موشور التلقي للجهور العراقي ومنحه خيارات عديدة ومتنوعة،كالعراقية الاخبارية والعراقية العامة والرياضية والوثائقية والتركمانية واذاعة بغداد والقرآن الكريم وغيرها.
3-تمكن المتلقي العراقي (المغترب)من استقبال بث المحطات الفضائية العراقية بحرية تامة بعد طوال حرمان في مختلف بقاع العالم مما جعل محطات الشبكة تعمل كصلة وصل لربط العراقيين مع بعضهم في الداخل والخارج.
4-ولادة علاقة تفاعلية بين المتلقي العراقي ووسائل الإعلام من خلال الاتصالات الهاتفية او المشاركة في البرامج بشكل مباشر والتعبير عن الآراء ووجهات النظر إزاء القضايا العراقية موضع البحث والنقاش.
5-غياب سلطة الرقابة الإعلامية الحكومية مقابل عدم تبلور مفهوم واضح للرقابة الذاتية وأخلاقيات المهنة الإعلامية.
6- تلمس المتلقي العراقي لقيمة السلطة الإعلامية ونفوذها وجرأتها في نقد وملاحقة المؤسسات الحكومية وبعض الظواهر السلبية في المجتمع،بشكل خرج عن النمط الروتيني الممل.
7- تطور شبكة توزيع وتسويق المنتجات الإعلامية الى مستوى يواكب القفزة الإعلامية الجديدة،عبر ايجاد مديرية خاصة للتوزيع والسعي لإبتكار صيغ حديثة عبر ايصال المطبوعات الى المنازل والدوائر بوقت باكر.
8- تقدم كبير في مفهوم الصحافة الالكترونية وتطورها لتكتسب الطابع الجماهيري الواسع،ولعل رصانة المواقع الالكترونية لشبكة الاعلام وجريدة الصباح ومجلة الشبكة ابسط دليل على ذلك.
9- غياب مفهوم إعلام الحكومة وبروز مفهوم إعلام الدولة كبديل عنه .
10-البروز الواضح من حيث الكم والنوع للصحافة الرياضية والاقتصادية وحضورها الطاغي.
11-دخول أعداد كثيرة من غير المهنيين او من الذين لم ينالوا قسطا جيدا من التعليم الأكاديمي الى الميدان الإعلامي مما أثر سلبا على مستوى الأداء الإعلامي.
12-التفاعل الجيد بين الإعلاميين العراقيين القادمين من الخارج بمهنيتهم العالية وأساليب أدائهم المتميزة وإعلاميي الداخل الذين حرموا من فرص تطوير قابلياتهم المهنية.
13-أثمرت سياسة شبكة الاعلام عبر زج اعداد لابأس بها من الإعلاميين العراقيين الى ميدان العمل في عواصم عربية وأجنبية كمراسلين او منتجين وممارسة عملهم بحرية بعد ان كان ذلك يقتصر على عدد محدود وحسب مواصفات معينة.
14-توسع وتطور مفهوم العمل في المؤسسات الإعلامية الأكاديمية الرسمية ومنها معهد التدريب الاعلامي الذي حقق نجاحات طيبة في اعداد كوادر اعلامية رصينة عبر زجهم بدورات تخصصية،وهو نجاح يحسب لشبكة الاعلام العراقي.
15-الافتقار الى مركز يجمع البيانات ويقوم بالإحصائيات الدقيقة عن حركة وسائل الإعلام وما يستهلك منها ويقيس مستويات تعرض الجمهور لها وأرقام التوزيع….الخ.
16-على صعيد المضمون لاحظنا تطورا ملموساً في الفنون الصحفية والجوانب الفنية ولاسيما في جريدة الصباح مع توسعها وزيادة عدد صفحاتها بدخول مطبعتها الجديدة الى العمل.
وإننا إذ نؤشر مثل هذه النقاط فالهدف هو تطوير التجربة الإعلامية العراقية الوليدة وتقويمها لأن وصف المشكلة وتحديدها بدقة هو الخطوة الأولى نحو حلها وتجاوزها، كما ان مثل هذه الإخفاقات والتحديات هي مسألة طبيعية وقد مرت بها العديد من التجارب الإعلامية في الديمقراطيات الحديثة.
ولإغناء وتطوير التجربة الإعلامية الجديدة لشبكة الاعلام العراقي،فلابد من تضافر جهود الدولة ومؤسساتها التنفيذية والتشريعية والقضائية فضلا عن التنظيمات السياسية والاجتماعية والمؤسسات الإعلامية لدعم هذه التجربة الواعدة وتصويبها ورعايتها لتؤدي وظيفتها بفاعلية وفي ظل أجواء صحية وهنا نرى ضرورة القيام بما يلي:
1-قيام السلطة التشريعية بسن قوانين وتشريعات مفصلة تكفل حرية الإعلام والتعبير وتنظم العلاقة بين وسائل الإعلام والسلطتين التنفيذية والقضائية وتضمن حقوق العاملين في الإعلام.
2-تنسيق التعاون بين هيئة الاتصالات والإعلام وهيئة البث والارسال (لتشابه عملهما)لتكون مرجعية عليا لضبط السياسة الإعلامية وتحقيق التوازن وضمان حقوق جميع الأطراف.
3-تشريع قانون جديد للعمل الصحفي وللتنظيمات الصحفية ينسجم مع التوجهات الديمقراطية .
4- تحمل الدولة لنسبة معقولة من نفقات شبكة الاعلام وضمان ميزانية تشغيلية وإستثمارية واعدة وجيدة،تشجيعا لحرية الإعلام وضمانا لاستمرارية عملها وإبعادها عن مخاطر السعي لإيجاد مصادر تمويل قد تكون غير مشروعة.
5-اتفاق جميع وسائل الإعلام على ميثاق شرف مهني وأخلاقيات مهنية يضمن الابتعاد عن كل ما يثير الكراهية والبغضاء بين أفراد المجتمع وشرائحه المختلفة وعدم الترويج للإرهاب أو النعرات العنصرية والطائفية أو التفريط بالوحدة الوطنية للشعب العراقي وثوابته المعروفة.
6- العمل على تطوير مهارات العاملين في مختلف مؤسسات شبكة الإعلام العراقي ورفع مستوى الأداء والانتاجية لديهم.
7- إغلاق الباب أمام المتطفلين على العمل الإعلامي أو المسيئين لسمعة وسائل الإعلام ودورها الوطني والاجتماعي.
8- تعزيز ديمقراطية الإعلام وجماهيريته عبر توسيع مفهوم إعلام الدولة ليشمل جميع الشرائح والمجموعات والأطياف دون تمييز أو محاباة.
9- قيام وسائل إعلام الشبكة،بنشر وتعميق ثقافة الديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان والتصدي للإرهاب بطرق وأساليب مقنعة.
10- دعم الحكومة لمستلزمات العمل الإعلامي من مطابع وآلات وتقنيات حديثة وبيعها بأسعار مدعومة .
11-تشجيع التعامل مع قطاعات انتاج الدراما والاعمال التلفزيونية بشكل إحترافي.
12- تطوير المواقع الالكترونية للصحف(صحف المحافظات لاتمتلك مواقع الكترونية خاصة بها)، ووسائل الإعلام الأخرى.
13-احترام وسائل الإعلام لعقل المتلقي والابتعاد عن كل ما يمس مصداقيتها وشفافيتها.
14- تبني المنافسة الشريفة كطريقة لكسب الجمهور والابتعاد عن أساليب الاتهامات والشتائم والتشكيك بالآخر.
15- الإفادة من البحوث العلمية والدراسات الإعلامية الأكاديمية لتطوير أساليب العمل الإعلامي.
ونعتقد جازمين، ان الدكتور الشلاه بما عرف عنه من سعة أفق وخبرة كبيرة وتمكنه من أدواته،لهو قادر على الارتقاء بعمل شبكة الاعلام العراقي ونقلها نقلة نوعية صوب مصاف الاعلام الهادف المتقدم،وهي دعوة لكل العاملين في هذه المؤسسة للتكاتف والاخلاص في العمل ومساندة الرجل في مهمته بغية تحقيق الاهداف والخطط المنشودة،مادامت غايتها إبتغاء مرضاة الله جل وعلا والمصلحة العامة ومحبة العراق الحبيب،والله الموفق من قبل ومن بعد..