23 ديسمبر، 2024 8:52 ص

أفق الشاعر الجمالي : قراءة في ديوان شاكر لعيبي “الأدنى والأقصى”

أفق الشاعر الجمالي : قراءة في ديوان شاكر لعيبي “الأدنى والأقصى”

لكي تكون شاعراً يجب أن تكون عرافاً رائياً
آرثر رامبو
1
يبحث الشاعر العراقي شاكر لعيبي في كتابه الشعري (الأدنى والأقصى) العلاقة الكائنة ما بين أفق الشاعر الجمالي وتفاصيله اليومية، فيجري رصداً دقيقاً للكتابة الشعرية التي نشأت في ظل تلك العلاقة ويقدم الكثير مما أنجزته نظرته الشعرية الجمالية الفاحصة لإنتشال المعاني المتناثرة في دائرة الحياة بأسلوب لغوي يتناول فيه، أيضاً، العلاقة المعرفية ما بين اللغة والمشهد اليومي من خلال الغوص في التفاصيل التي تهدف، في الوقت عينه، إلى تجديد المعاني الجمالية التي يرصدها في الحياة الأمر الذي جعل موضوعاته مفتوحة في المعنى الموازي مع معنى النص الشعري اليومي، وبالتالي فإن مسألة التوازي في المعنى هي منشأ التأويل النقدي الذي يمكن الاعتماد عليه أثناء عملية القراءة التي تستغرقنا في كينونة النص المؤول فاتحة بذلك عالم الشاعر على عالم النص الشعري من دون وساطة التفسير المتمسكة بمنطق العبارة الشعرية وقوة التخيّل .
اللغة الشعرية في حدّ ذاتها لم يكن بالإمكان تطويعها لرصد المشهد إلا عبر التخلص من الزوائد اللفظية وسيميائها حيث لم يعودا مكانين لاستقرار الشكل الجمالي للنص وبنيته اللفظية الصارمة وينبغي تبيان ذلك من خلال المقاربة ما بين لغة الشاعر شاكر لعيبي الشعرية ونظرته الجمالية لمفهوم الكتابة ما يدفع اللغة، ذاتها، إلى حدود إمكانية اقتحام النص والمشهد اليومي معاً أو منح لغة النص طاقة إشارية رمزية لفتح المعنى على الحياة أو الذات التي تتبنى أفعال الشرح والتفسير والفهم . ولدى قراءتنا لنصوصه الشعرية المعنونة (ساحر الأنترنيت/خدعت عصفوراً وصبية/عمارة الخراب/هذه السعادة/أبراج قطنية) يتبين أن المشهد الشعري اليومي لم يعمل إلا على تشيىء كل ما هو معطى للمعنى بدءاً بالبحث عن المفردة الشعرية المختلفة وانتهاء بالنظرة الفاحصة لمشاهد الحياة الأمر الذي جعل المعاني تسير مع النص لا لجماليتها وحسب بل في مقابل إصرار الشاعر على التواصل مع إحساسه اللغوي بالمفردة الشعرية التي تجدد المعنى وتدفع بالنص إلى حدوده الجمالية القصوى .
ينفتح فضاء قراءة نصوص هذا الديوان على العلاقة المعرفية بين قارئ مهيأ للتلقي وذات شاعر تترصد لحظات الحياة بعين فاحصة وقد أسفرت هذه العلاقة عن تحليل دقيق للدلالات التي تقترحها النصوص غير ان تبيان شكل الدلالة يقتضي تفسير البعدين اللغوي والجمالي من خلال البحث عن المعاني التي تسهم في إنتاج النص حيث يتخذ الشاعر من رؤيته الحياتية حقلاً للتنقيب عن الجمال في الشعر أو الشعر في الجمال استناداً إلى تجاربه، في الكتابة الشعرية المتنوعة، التي تتيح مجالاً للبحث عن مشاهد شعرية ناتجة عن تقاطع مصادر لغوية مختلفة في فكره أو أسلوبه ثم محاولته الأساسية في تطويع اللغة اليومية، كما أشتغل الشاعر، أيضاً، على الجزء الباطن للغة الحياة اليومية من خلال تعيين شكل جديد لتحريك أفعال الاستيعاب والقراءة والتفسير وهو الشكل الذي لا يسمح بإغفال الجزيئات الصغيرة التي تتموضع داخل الحدود المتصلة بين الحياة والشعر كما ضمن مجمل نصوصه فلسفة توصلنا للمعنى المغيب في رموز النص حيث يبدو المعنى أهم أثر لفهم الشاعر للنص الشعري أو الحدث الشعري اليومي ويقدم لنا تجربته في المشاهدة وفي نفس الوقت يقدمها لمخالفيه في رؤيته الشعرية، فالأسلوب الشعري لدى شاكر لعيبي يتبع نسقاً معرفياً يتسم بعمق التجربة التي يوظفها شعرياً ويستخرجها من تقاليد الكتابة المستهلكة الأمر الذي جعل لغته الشعرية تتجه نحو تقديس المعنى وتجاوز الآثار التقليدية لفعل إنتاج النص الشعري أو المعنى ذاته .
2
لا يغفل النص الشعري في هذه المجموعة الفضاء اللغوي الجمالي، كما لا يغفل حركة التحولات الدلالية التي تنتج تحولات فنية، فلا منتج النص (الشاعر) ولا مستقبِله (القارئ) يتميزان بالسكون، فالمعايير الفنية تأخذ دلالات جديدة تتوافق مع التحولات اللغوية أو تتوافق مع تحولات المعنى الشعري التي تفرضها الكتابة الشعرية المتأملة فالشاعر هنا لا يأبه بالمعايير الجمالية الكلاسيكية أو التقليدية حين يدفع بالقارئ إلى تلمس الشكل الفني في النص الشعري ليقرأ، في اللحظة ذاتها، علاقة الشكل الفني بالوعي الجمالي النقدي ويمكن القول أيضاً أن نصوص شاكر لعيبي رغم رهافتها وحمولتها اللغوية المبهرة تحمل شيئاً كثيراً من الذاتية المضمرة التي تقرأ الواقع أو المشهد اليومي وفقاً لمعايير الكتابة الشعرية المتأملة اللصيقة بالمعيار الجمالي، فقد تعامل الشاعر مع المعيار الجمالي كما لو كان شاخصاً لأية ممارسة فنية أو مستقلاً عن قديم الإنتاج والاستقبال الفنيين، وبسبب هذا كان المعيار ينوس بين مفهوم التجديد ومفهوم السكون ويتجلى كمعيار معرفي سابق للعمل الشعري أو كتصور شعري خاص بالشاعر يختلف عن التصورات الشعرية المغلقة أو المستعادة، فكأن جوهر النصوص الشعرية هو الجمال وجوهر الجمال وعي شعري يرى الواقع ولا يبدأ منه وبسبب هذه المسافة فإن الجمالي لا يلتقي باللغوي إلا عن طريق جملة من التوسطات الشعرية المعرفية، لنقرأ هذا المقطع من نصه (بعض أصدقائي الشعراء) الذي لا يخلو من إشارة مغايرة: (لأنهم يكرهون الصفة ويفضلون الموصوف/فقد قامت الصفة من القاموس وجلست في حديقة المطلق/بينما ظل الموصوف ينتظر الحافلة لتوصله إلى مكان العمل) ولنتأمل أيضاً هذا المقطع الشعري الذي يحمل عنواناً ملفتاً (وضعت المغنية الكحل) إذ يقول فيه: (وضعت المغنية الكحل على عينيها/وفتحت فمها ببطء/مطلقة صرخة من شرفتها/قبل أن تختفي وسط إعجاب جيرانها الذين ظلوا يحدقون في العتمة خلف الشرفة) وأيضاً في هذا الجزء المعنون (لا تفكر) الذي يحمل مضموناً متماهياً مع عبارة الفرنسي آرثر رامبو أعلاه إذ يقول فيه: (لا تفكر وكن عرافاً يرقص تحت المطر) إضافة إلى نصوصه المعنونة (لنحتفل بحواسنا/الغائب/النحالون/كيف لم تنم/ازددت معرفة/كمْ) .
على الرغم من توغل الشاعر في المشهد اليومي، فإن النص الشعري لديه بقي محكوماً، ولو بشكل مضمر، بديالكتيك الوعي والاغتراب، حيث يصبح غرض النص هو تأكيد الوعي الفني عبر تحقيق الوعي المعرفي أو تحقيق تملّك خاص للمشهد اليومي قادر على الوصول إلى الجوهري، وكأن النص أداة انتقال الوعي من الظاهر إلى الجوهر، ومن الزائف إلى الحقيقي، ومن المتشيّيء إلى الشفاف، فالوعي الجمالي هو الوعي الشعري والذاتي واللغوي وبهذا يصبح الشعر، في حدود هذا التصور، وسيطاً جمالياً لإنتقال المعنى من حالة ذهنية ساكنة إلى ذهنية متوقدة، ومن الواقع المطلق إلى الواقع اليومي المفتوح، ومن عالم القيم الجزئية إلى عالم القيم الكونية إذ يستبطن الشاعر في النص الشعري مصائر ومشاعر مختلفة ومتداخلة تجعله يكسر قيود اليومي والعارض والجزئي مما يجعل القارئ يتملى صورته في مرآة العمل الشعري الكونية ثم يقرأ نفسه في هذه المرآة باحثاً عن الجمال وسابراً غور المعنى أو متأملاً لذاته، الإنسانية والشعرية، وكأنني هنا أمام عبارة المحلل النفسي الفرنسي جاك لاكان إذ يقول: (الذات أكبر من الأنا) لنتمعن في هذا الشطر المعنون (أسرار الملائكة) الذي يقول فيه: (كان الفجر أزرق عندما هبطت الملائكة على الأرض/كانت الحشرات تتهيأ للعمل/عندما كانت تهبط لا مست الندى على سطوح الأغصان المرتعشة من شدة البرد) وكذلك في هذا الشطر الذي يحمل عنوان (حُسْنُ المعرفة) إذ يكتب: (يا لحسن المعرفة في تلمس قشرة التفاحة التي تدلت من الغصن) .
3
شاكر لعيبي هو ذاته في الشعر والحياة، حين يرى بعين الشاعر ويكتب بمداده إلى أن يمضي إلى حتفه الشعري بعد أن تتلاشى الحدود بين الشعر والحياة، فقد انطلقت التأملات الشعرية الذاتية للحياة في نصوص هذه المجموعة من نقطتين: الأولى، تمجيده لمعنى الحياة والثانية، تحرره من ظلال الكتابة السائدة فهو يرى جوهر التحرر ملازماً لجوهر الحياة فنصوصه لا ترى الحياة في وحدتها بل في تفكّكها إلى عوالم مستقلة أو شبه مستقلة وكأن الحياة أو ذاتية الشاعر لا تتحقق بآثارها المتبادلة المتقادمة بقدر ما تخضع إلى جوهر مستتر وهكذا يبدو النص الشعري مستوى قائماً بذاته يوازي علاقات الشاعر مع محيطه ولا يلتقي بها بل يقترب منها إن أقتربت من المعنى ويبتعد عنها ان استبدّت بالمعنى وخدشت جوهره، بهذا المعنى يقف نص شاكر لعيبي داخل التوليفات الجمالية المرتبطة به ويظل المعنى رهينا لموضوعة الجوهر التي تتجلى في عملية استدعاء النصوص الأخرى وفقاً لطبيعة الكتابة أو لأشكالها التي تفرض أسئلة شعرية جديدة أو رؤية مغايرة تدعو إلى نص مغاير، لنتأمل هذه المقاطع: (اللحظة الشعرية): قد تهرب هذه اللحظة بجناحي ذبابة . (الورد): لماذا ابتليتني، أيها الورد، بسياج الحديقة؟ (قواميس المترجم العبد): في بغداد أكلت النعجة الكتاب ثم قفزت لترعى بين “أزهار الشر” في باريس . (الشعراء الكبار الواقفون في الطريق): مشيت سعيداً وفي منتصف الطريق رأيت شعراء عصري يقفون على مسافات محسوبة لمنعي من المضي بعيداً . (الكتابة قناع الشيطان أيضاً): منذ حين كان ينفث سحره في السطور لتمحي، كان يرتعش في علامات التعجب، ألم يختبئ في المحبرة لكي تصير قمقماً للجني البلاستيكي المتمطي بين جدرانها؟ ألم يتحرك في سواد المقالة لكي تشع بالأنوار؟ الكتابة أداته في خديعة الحقول والخلائق .
إضافة إلى نصوصه التي أسميتها (يومياته التونسية/السويسرية) وقد جاءت صدى لزمن شعري أو معرفي غير محدد كشف عن آثار الفترة التونسية السويسرية التي ألبسها الشاعر رداء علاقة الشعر بالزمان والمكان أو الذات والآخر وظهر تأريخ العلاقة كما لو كان تأريخ أغتراب الشاعر وتأريخ بحثه عن أفق جديد يتجاوز فيه الاغتراب ويقوم بترميم الذاكرة ويضاعف التجريد الشعري بإعلاء شأن الوعي الجمالي المجرد ومن نصوصه تلك: (بار الباشا/بئر علي/المسرح البلدي/البحيرة السويسرية/77 جادة كارل فوغت/قبالتي جبل الساليف/حانة الخلاسيين/قليل من شراب البوخة/في سوق جارة/في حانة الكون/قال لي ابن خلدون) .
لقد أنجز شاكر لعيبي، في الأدنى والأقصى، وهو الشاعر الدؤوب، نص جمالي يزاوج بين الكتابة الذاتية والقيمة الجمالية للحياة واللغة والمعنى، كما كان يدعو إلى نص لا يكتفي باللغة، كأداة للإشارة والرمز والتوصيل، ولا يلوذ بالمعنى العابر، أنه يأسر حركة النص في معايير فنية هي الشكل الأجمل للكتابة الشعرية المغايرة التي لا تتدثر بالتنميق ولا تماهي السائد، كتابة في زمن هزيل لا تهزه التناقضات الفكرية ولا تؤرقه المعرفة، كتابة (تحلم بتجاوز نفسها ووعي شعري ضدي يريد تأجيل المستقبل) بتعبير الألماني “يورغن هابرماس” ومن هنا يمكن لنا القول أن القراءة النقدية، لهذه المجموعة، تحمل قدراً غير قليل من المغامرة وإن الاقتراب من المعاني الشعرية جاء إستجابة لمظاهر الشكل الفني والجمالي واللغوي .

إشارة:
1ـ شاكر لعيبي/الأدنى والأقصى/الطبعة الأولى 2011/منشورات مؤسسة الدوسري للثقافة والإبداع .
2ـ جاك لاكان/أضواء التحليل النفسي/ترجمة عبدالمقصود عبدالرحيم .
3ـ توم بوتومور/مدرسة فرانكفورت/ترجمة سعد هجرس/الطبعة الثانية/2004/دار أويا