22 ديسمبر، 2024 9:58 م

أفغانستان وبلورة النظام العالمي الجديد المراد تشكيله

أفغانستان وبلورة النظام العالمي الجديد المراد تشكيله

وأنها سيكولوجية الإمبراطورية الغربية الآخذة في التلاشي
شكل سقوط العاصمة الأفغانية كابل في قبضة حركة طالبان يوم الأحد 15 أغسطس 2021 والفوضى التي أعقبت ذلك والتي سادت كذلك في أوساط أصحاب القرار في واشنطن ولندن بشكل خاص في التعامل مع الحدث ضربة قاسية لموقع واشنطن كقوة عالمية تقود تحالفا كبيرا تسعى بواسطته لمواصلة السيطرة على النظام العالمي الذي برز بعد إنهيار الاتحاد السوفيتي خلال العقد الأخير من القرن العشرين.

النكسة الأخرى التي لحقت بالإدارة الأمريكية برزت في تخبط قواتها رغم إمكانياتها الضخمة في مواجهة مشكلة ترحيل مئات الآلاف من مواطني الولايات المتحدة وحلفائها أو هؤلاء الحاملين لجوازاتها أو أذون السفر الخاصة الصادرة من طرف أعضاء حلف الناتو الذين شاركوا بشكل أو بآخر في الحرب الأفغانية التي دامت 20 سنة.

شبه البعض تخبط واشنطن في أفغانستان بما وقع لها سنة 1975 في سايغون نهاية مغامرتها في الحرب الفيتنامية. واللافت هو أنه بعد تسعة أيام من سقوط كابل ويوم الأربعاء 25 أغسطس حلت كامالا هاريس نائبة الرئيس الأمريكي بعاصمة الفيتنام هانوي في زيارة رسمية ذكر البيت الأبيض أنها جزء من محاولات لتعزيز تحالفات أمريكا في مواجهة الصين. البعض قدر أن زيارة هاريس شكلت كذلك رسالة تفيد أن واشنطن ورغم حربها مع الفيتنام لسنوات طوال استطاعت ربط علاقات مفيدة مع عدوها القديم والأمر يمكن أن يتكرر في المستقبل مع أفغانستان تحت حكم حركة طالبان.

مهما قيل من كلام، ومهما أطلقت من أوصاف فإن ما حدث يشي أن أمريكا قد هزمت، وأن كابل لا تختلف كثيرا عن سايغون في فيتنام، ويكفي توصيفا ما قاله الرئيس الأمريكي، جون بايدن في خطابه “ما نراه يثبت أن ما من قوة عسكرية يمكنها تغيير مجرى الأحداث في أفغانستان المعروفة بأنها مقبرة الغزاة”.

ويعترف بايدن بمرارة الخذلان حين يكشف عن إنفاق الولايات المتحدة أكثر من تريليوني دولار في أفغانستان على مدار 20 عاما، والنتيجة سقوط المدن الأفغانية واحدة تلو الثانية، وآخرها كابل بيد حركة طالبان كما تتساقط أحجار الدومينو.

بعيدا عن أفغانستان طرح العديد من المراقبين والسياسيين أسئلة كثيرة عن تأثير نكسة واشنطن في كابل على علاقاتها وتحالفاتها عبر العالم، وذهب البعض إلى وصف الولايات المتحدة برجل العالم المريض بتشبيه بالنعت الذي أطلق على الإمبراطورية العثمانية قبل إنهيارها الكامل في نهاية الحرب العالمية الأولى.

حليف غير موثوق

ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية إن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان أثار موجة دولية من الشك في دورها في العالم، إذ يناقش الحلفاء الأوروبيون حاجتهم إلى لعب دور أكبر في القضايا الأمنية، كما تبحث روسيا والصين سبل تعزيز مصالحهما في أفغانستان في ظل حكم طالبان.

وذكر تقرير الصحيفة المنشور يوم 18 أغسطس أن دفاع الرئيس الأمريكي جو بايدن عن قرار الانسحاب من أفغانستان في الخطاب الذي وجهه إلى الشعب الأمريكي الاثنين 16 أغسطس بعد سيطرة حركة طالبان على العاصمة الأفغانية كابل، أعاد الجدل حول إذا كان انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان مؤشرا يعكس ضعفها، ويحد من قدرتها على قيادة العالم.

وأشارت إلى أن هناك وجهة نظر أخرى ترى أن القرار يعكس إعادة ترتيب سليمة للمصالح الأمريكية، ويمنحها وضعا أفضل للتعامل مع التحديات الجديدة للقرن 21، كما يوضح للحلفاء والخصوم -على حد سواء- أولوياتها التي تحدد إذا كانت ستنفق مواردها هنا أو هناك.

وأبرز التقرير أنه خلال الجلسة الطارئة التي عقدها وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي بشأن تطورات الأحداث في أفغانستان يوم الثلاثاء 17 أغسطس وجهت انتقادات نادرة لواشنطن، لأن ما أقدمت عليه في أفغانستان قد يتسبب في تدفق اللاجئين إلى الدول الأوروبية، كما من شأنه أن يعيد أفغانستان كمنصة للإرهاب في آسيا الوسطى.

ونقلت الصحيفة عن وزير دفاع لاتفيا أرتيس بابريكس القول -خلال مقابلة إذاعية إن “سحب القوات على هذا النحو تسبب في فوضى”، مشيرا إلى أن الانسحاب هدم مشاريع البناء طويلة المدى في أفغانستان، وأن القرار تم فرضه على الأوروبيين. وأضاف “لقد انتهت هذه الحقبة، ولسوء الحظ فإن الغرب -وأوروبا على وجه الخصوص- يظهر بذلك ضعفه للعالم”.

كما وصف السياسي الألماني أرمين لاشيت، المرشح لخلافة المستشارة أنجيلا ميركل، انسحاب القوات الغربية من أفغانستان بأنه “أكبر كارثة شهدها حلف شمال الأطلسي منذ تأسيسه”، حسب الصحيفة.

وأشار تقرير واشنطن بوست إلى أن وزير خارجية الصين، التي ترى في انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان مخاطر وفرصا، أخبر وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في مكالمة هاتفية أن مغادرة القوات الأمريكية على نحو سريع لأفغانستان كانت له تداعيات “شديدة الضرر”.

كما تحدث وزير خارجية الصين عن تداعيات أوسع للانسحاب، مشيرا إلى أنه أظهر عدم قدرة أمريكا على نقل نموذج أجنبي للحكم لتطبيقه في دولة ذات خلفية ثقافية وتاريخية مختلفة.

لعبة القوى العظمى

“إذا لم تستطع الولايات المتحدة تحقيق نصر في تنافسها مع دول صغيرة، فكيف لها أن تبلي بلاء حسنا في لعبة القوى العظمى مع الصين؟”.

بهذا التساؤل من صحيفة غلوبال تايمز، لسان حال الحزب الشيوعي الصيني، استهل الكاتب غوردون جي تشانغ مقاله في مجلة “ذا هيل” الأمريكية.

وقال غوردون تشانغ -مؤلف كتاب “انهيار الصين القادم” إن النظام الصيني ظل يركز هذا العام على مواضيع بهدف ترهيب الآخرين لحملهم على الخضوع له، مضيفا أن بكين زادت هذه الوتيرة في أعقاب الانسحاب الأمريكي من أفغانستان.

وحذر من أن الخطر يكمن في أن بكين ستستغل الظروف المواتية إلى أقصى درجة ممكنة في مواجهة ما تصفه بأمريكا “الضعيفة”.

واقتبس تشانغ من صحيفة غلوبال تايمز عبارة جاء فيها “إن أهم مقصد للرئيس الأمريكي جو بايدن هو التركيز على الصين بحشد أكبر عدد ممكن من قواته العسكرية في منطقة المحيطين الهندي والهادي”.

ونقل الكاتب من مقال الصحيفة الصينية أيضا أن “الإستراتيجية الكبرى بدت خالية من العيوب ومصدر إلهام لواشنطن إلى أن كشفت الهزيمة الماحقة والانسحاب الفوضوي في أفغانستان عن مدى هشاشتها”، وأن أمريكا “لا يمكنها الفوز بأي حرب بعد الآن”.

ونسبت تلك الصحيفة للو تشيانغ من الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية في بكين القول إن “حفنة إضافية من الجنود تنقل من أفغانستان إلى تخوم الصين لن تحدث فرقا كبيرا بالنسبة للصين”.

أين ستضرب الصين؟

يزعم غوردون تشانغ في مقاله بصحيفة “ذا هيل” أن تايوان -الدولة الجزيرة- هي محور اهتمام حملات بكين الدعائية. ومرة أخرى يعود الكاتب لصحيفة غلوبال تايمز ليقول إنها قدمت تحليلا متعمقا في افتتاحيتها يوم الاثنين 16 أغسطس لالتزامات الولايات المتحدة الأمنية للدولة الجزيرة، التي تؤكد بكين ملكيتها.

وينقل عن الافتتاحية النصح الذي تسديه لمسؤولي الحزب التقدمي الديمقراطي الحاكم في الجزيرة، إذ تقول إنه من واقع ما حدث في أفغانستان فإن على سلطات الحزب أن تدرك أنه ما إن تشتعل حرب في مضايق تايوان، “فإن دفاعات الجزيرة ستنهار في غضون ساعات، ولن يهرَع الجيش الأمريكي لنجدتهم”.

وطالما تشدقت بكين مرارا بأن “أمريكا قد انتهت”، وقد تبدى ذلك في عنوان مقال تحت عنوان “الولايات المتحدة لم تعد في مركز القوة بسبب عنجهيتها ووقاحتها”، ونشرته صحيفة الشعب اليومية بتاريخ العاشر من أغسطس 2021.

واقترحت بكين -في مكالمة أجراها وزير خارجيتها وانغ يي مع نظيره الأمريكي أنتوني بلينكن الاثنين 16 أغسطس- صفقة تتعاون فيها الصين بموجبها مع الولايات المتحدة لتحقيق انسحاب آمن من أفغانستان، مقابل انتهاج واشنطن سياسات صديقة مع بكين.

وعلى الطريقة الصينية -يقول تشانغ- ترافق العرض بأفعال تنطوي على تهديدات من قبيل إعلان بكين يوم الثلاثاء إجراء مناورات عسكرية بحرية وجوية في جنوب شرق وجنوب غرب تايوان.

غير أن أفراد الشعب التايواني لم يبد عليهم في الغالب أي توتر جراء تلك “المناورات الاستفزازية”، لأنهم يدركون أن تصرفات بكين هذه تأتي ردا على العلاقات المتنامية بين واشنطن وتايبيه. على أن كل ذلك يعني أن على العالم أن يتوقع متاعب قادمة قريبا، حسب مقال ذا هيل.

وكان المعلق توماس فريدمان قد كتب في عموده الأسبوعي بصحيفة “نيويورك تايمز” قائلا “نحن في بداية واحد من أكبر التحديات الجيوسياسية التي يواجهها العالم الحديث”.

ومع أن فريدمان لم يكن يشير إلى الصين، فإن ما جاء في عموده ينطبق عليها، وطبقا لغوردون تشانغ الذي يزعم أن بكين ستستغل الظروف لصالحها.

وسبق للرؤساء الأمريكيين المتعاقبين أن وجهوا تحذيرات للصين، إلا أنه من النادر أن ينفذوها، بل إنهم في واقع الأمر عودوا الصين على تجاهلها. وفي حقيقة الأمر فإن ذلك أضفى على “أسوأ العناصر” في النظام السياسي الصيني جرأة، إذ أثبتت واشنطن للجميع في بكين أن أي عدوان وأفعال سيئة أخرى لا تنطوي على أي كلفة.

ولعل من الطبيعي أن يعتقد الزعيم الصيني شي جين بينغ الآن أن بمقدوره فعل ما يريد فعله. غير أن الفشل في أفغانستان قد يكون “إشارة خاطئة” للقيادة الصينية، فالفرق بين أفغانستان من جهة والصين وتايوان من جهة أخرى في نهاية المطاف ينصب في إدراك الأمريكيين -أو سرعان ما يدركون قريبا- أن الصراع مع بكين -على خلاف النزاع مع طالبان- سيؤثر عليهم مباشرة وفي الحال.

على أن الخطر الآن هو نتاج تنافر الرؤى بين بكين وواشطن، وأن أي وضع متوتر في منطقة من العالم يمكن أن ينتشر سريعا إلى مناطق أخرى. وقد ينضم شركاء الصين -مثل إيران وكوريا الشمالية وأصدقائها- إلى جانبها، أو يستغلون أي نزاع تتورط فيه الصين وأمريكا للدخول في مواجهات جديدة.

ويتوقع غوردون تشانغ في ختام مقاله بالصحيفة الأمريكية أن العالم قد يشهد في الشهور القادمة أشد الأوقات اضطرابا على الإطلاق.

بداية لنهاية الإمبراطورية الغربية

قال الكاتب الصحفي البريطاني ديفيد هيرست إن الأحداث الأخيرة في أفغانستان تؤكد أن الغرب لم يعد بإمكانه السيطرة على العالم من خلال قصف الأنظمة التي لا يحبها بالقنابل.

ورأى هيرست في مقال له بموقع “ميدل إيست آي” الذي يرأس تحريره أن التحالف الغربي الضخم الذي خسر الحرب في أفغانستان كان يعتقد أن بإمكانه هدم حركة طالبان، وبناء دولة جديدة في أفغانستان على الرغم من جهله بتاريخ البلد ولغاته وشعوبه.

وذكر الكاتب في مقاله بتاريخ 18 أغسطس إن التدخل الغربي في أفغانستان لم ينجح سوى في نشر الوحشية وبؤس الحرب على مدى عقدين من الزمن، كان للشعب الأفغاني نصيب الأسد منهما، وإن حساب تكلفة هذا التدخل، كما يفعل الغرب حتى الآن، من زاوية الخسائر العسكرية لأمريكا وبريطانيا فقط، دليل قاطع على أن الحضارة الغربية تعيش حالة من الانحطاط.

وأشار إلى أنه عندما بدأ الغزو الأمريكي لأفغانستان في السابع من أكتوبر 2001 أعلنت مجلة تايم الأمريكية على غلاف عددها حينئذ أن ذلك إيذان بـ”آخر أيام طالبان”.

وهكذا، والكلام للكاتب، بدأ ما أصبح يعرف بـ”الحرب على الإرهاب”، التي سعى من خلالها المحافظون الجدد في الولايات المتحدة لاستبدال الاتحاد السوفياتي المتفكك بالإسلام المتطرف كتهديد عالمي جديد، وأنشأ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في ديسمبر من العام نفسه قوة دولية للإشراف على العمليات العسكرية وتدريب قوات الأمن الأفغانية.

وأشار هيرست إلى أن الغرب أنفق منذ ذلك الوقت أكثر من تريليوني دولار أمريكي على تلك الحرب، وقتل في أفغانستان وباكستان نحو 241 ألف شخص، كما لقي 2448 جنديا أمريكيا و454 جنديا بريطانيا حتفهم، ولكن بعد مرور 20 عاما على انطلاق تلك الحرب عادت حركة طالبان الآن إلى السيطرة على أفغانستان.

وأضاف هيرست إن العقلية الحالمة التي تخوض بها الليبرالية الغربية عملياتها العسكرية في غرب آسيا والشرق الأوسط تعكس كثيرا من سيكولوجية الإمبراطورية الغربية الآخذة في التلاشي، التي ما زالت تعيش حالة إنكار من ضمنها إنكار دورها في الكارثة التي حلت بأفغانستان.

ومضى بالقول إن ديفيد بتريوس القائد الأعلى للقوات الأمريكية في أفغانستان، والجنرال السير نيك كارتر رئيس أركان الدفاع في المملكة المتحدة، وغيرهم من جنرالات الولايات المتحدة وبريطانيا الذين خدموا في أفغانستان يتحملون جميعا المسؤولية عن الحرب التي لم يكن الشعب الأفغاني يريدها ولم يستطع تحمل تبعاتها.

وأوضح أنه من المأساوي أن الولايات المتحدة لن تتعلم الحقيقة القاسية من هزيمتها في أفغانستان، التي مفادها أن استخدام القوة غير مجد، كما لن تتعلم أنها قد أصبحت قوة متراجعة.

وخلص الكاتب إلى أن الولايات المتحدة لو أنها تعلمت الدرس من هزائمها العسكرية، فستبدأ التصرف على النحو الصحيح في عالم يواجه بالفعل تهديدا وجوديا مشتركا، ليس مصدره الشيوعية ولا الإسلام المتطرف.

نهاية الحرب التي لا نهاية لها

كتب دانيال فارنر وهو خبير أمريكي سويسري في العلوم السياسية، وسبق أن شغل منصب نائب مدير المعهد العالي للدراسات الدولية والتنمية في جنيف تقريرا جاء فيه:

يذكرنا التقدم السريع والنجاحات العسكرية غير المتوقعة لحركة طالبان في أفغانستان بسقوط سايغون عام 1975، ويمثل ذلك هزيمة ساحقة للسياسة الخارجية الأمريكية.

كان لدى الجيش الأفغاني أكثر من 300000 جندي تم تجهيزهم وتدريبهم من قبل الولايات المتحدة مقابل ما يقرب من 75000 مقاتل لدى طالبان.

لكن الحكومة الأفغانية لم تستحوذ قط على “قلوب وعقول” الشعب الأفغاني. ويتجلى ذلك بشكل صارخ في التقدم العسكري السريع لطالبان في جميع أنحاء الأرياف والمدن. ولم يقدر الجيش الأمريكي ومجتمعات السياسة الخارجية تداعيات مستوى الفساد وعدم الكفاءة في الحكومة حق قدرها. وفي حين أن انسحاب القوات الأجنبية كان حتميا ومعلنا، فإن عزوف الجيش الأفغاني وعدم قدرته على الدفاع عن الدولة كان بمثابة ضربة قاصمة لكيان الدولة. لقد توقع معظم المراقبين للأوضاع اندلاع حرب أهلية قد تستمر لمدة عام أو 18 شهرا بين الجيش الأفغاني وطالبان، لكن الجيش تدحرج وتقهقر في غضون عشرة أيام.

وفي تغيير لسياسة الإدارة الأمريكية السابقة، والذي لاقى إلى حد كبير، ترحيبا من قِبَل الحكومات الغربية والمنظمات الدولية في جنيف، صرح الرئيس بايدن أن “أمريكا عادت” بسياسة خارجية دولية ومتعددة الأطراف بدلاً من اعتمادها سياسة “أمريكا أولا” التي كان قد تبناها نظيره السابق دونالد ترمب. فهل سيؤدي سقوط أفغانستان في أيدي طالبان إلى تغيير هذه النوايا الحسنة الجديدة للولايات المتحدة ؟ وكيف ستؤثر هذه الأحداث على هيبة أمريكا في العالم؟ شخصيا، أتوقع الشعور بعدم الارتياح في صفوف حلفاء مثل تايوان الذين لابد وأن يتساءلوا عن فعالية وعود الولايات المتحدة بالدفاع عنهم.

الدروس المستفادة

من جهة أخرى، تبقى إمكانات الدبلوماسية والمساعدات الإنسانية لتدارك هذا الوضع أيضا مثارا للجدل، فلم يكن لاتفاقية السلام الموقعة في الدوحة بين الولايات المتحدة وحركة طالبان في عام 2020 أي تأثير، مثلها مثل المفاوضات اللاحقة بين الحكومة الأفغانية وطالبان والتي تمت في ظل إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب.

من السهل إجراء مقارنات بين سقوط سايغون عام 1975 وسقوط كابل. لقد درات رحى حرب فيتنام من أجل وقف انتشار الشيوعية، وخسرت الولايات المتحدة الحرب على الرغم من تفوقها العسكري الساحق. واليوم، فيتنام بلد مسالم ومزدهر.

أما في أفغانستان، فقد كان التدخل في الأصل يهدف إلى احتواء الإرهاب. وقد فشل هذا التدخل أيضا في تحقيق هدفه، فالقاعدة والمنظمات مثل داعش ما تزال موجودة هناك. مرة أخرى، وفي سياق مختلف، فشل التفوق العسكري الساحق في تحقيق ما يصبو إليه. لكن لا يمكن للمرء أن يتوقع أن تصبح أفغانستان دولة مسالمة ومزدهرة مثل فيتنام، فمن المحتمل أن تبقى دولة عشائرية يحكمها أمراء الحرب المحليون الذين تمكنوا من هزيمة ثلاث إمبراطوريات، البريطانية والسوفييتية واليوم الأمريكية.

ما هي الدروس التي يمكن تعلمها من انهيار الحكومة الأفغانية بعد 20 عاما من الدعم الغربي؟ الأمر الذي أصبح جليا هو أن القوة العسكرية لا تضمن النصر في حرب غير متكافئة، فلقد تمكنت طالبان، على غرار الفيتكونغ، من تحقيق النصر على الرغم من النقص الكبير في العتاد العسكري. إن “قلوب وعقول” الناس لم تتماشَ مع القوة العسكرية الأمريكية.

ومرة أخرى، وكما حدث في فيتنام، لم تتمكن تقارير المخابرات العسكرية من توصيف الوضع الفعلي ميدانيا.

فهل ستؤخذ الدروس والعبَر من هذه الأحداث؟ أشك في ذلك، فالغطرسة الأمريكية وراء هذا التدخل الذي دام 20 عاماً كانت في الأصل رد فعل عاطفيا على أحداث 11 سبتمبر، حيث أرسل الرئيس جورج دبليو بوش قوات أمريكية إلى أفغانستان ردا على الهجمات التي طالت عمق الولايات المتحدة. وكانت المهمة تتمثل بمعاقبة المسؤولين وضمان عدم إيواء أفغانستان لإرهابيين دوليين.

وبمرور الوقت، تطور الأمر ليتخطى هذه الأهداف. وكما كان الحال في حقول الأرز في فيتنام، أصبحت الولايات المتحدة غارقة في تضاريس غير مألوفة بالنسبة لقوتها العسكرية معتقدة أنها ستحسن التعامل معها. يبقى أن نرى ما إذا كان سقوط كابل سيغير من مسار تلك الغطرسة. حتى الآن لا يوجد دليل يدعم هذا الاحتمال.

الفرضيات

شكل إنهيار المشروع الأمريكي في أفغانستان ضربة قوية لإسرائيل وقد انعكس ذلك في العديد من التحليلات التي صدرت في فلسطين المحتلة. بعض هذه التحليلات يمكن أن تقود إلى بناء صورة عن خطوات مستقبلية قد تقوم بها سلطات تل أبيب.

كتب كارولين غليك يوم 27 أغسطس 2021 في إسرائيل اليوم:

تجري في هذه الأيام ظاهرة نادرة في الإعلام الأمريكي، يجمع اليسار واليمين على أن بايدن أوقع مصيبة إستراتيجية على الولايات المتحدة وحلفائها، وأن استسلامه لطالبان دخل إلى قاموس الأساطير السلبية في التاريخ الأمريكي.

لدى بايدن استعداد لترك مواطنين أمريكيين عالقين خلف خطوط طالبان إلى جانب أفغان ساعدوهم. ولكن الواقع الذي لا تزال فيه طالبان موجودة بعد 20 سنة، وتنجح في إعادة السيطرة على أفغانستان، هو نتائج أخطاء استراتيجية عقب 11 سبتمبر 2001.

في حينه، بلور الرئيس جورج دبليو بوش، مع فريقه، فرضيات الحرب ضد الإرهاب، وتحدثت بعض من هذه الفرضيات وفقاً للتحولات الدولية. ولكن ثلاثاً منها تثبتت، وباستثناء السنتين الأخيرتين لإدارة ترمب لم تحدث أيضاً. هذه الفرضيات الثلاث تقبل أيضاً في أساس فشل الصراع الأمريكي ضد الإرهاب العالمي: الفرضية الأولى تتعلق بباكستان، والثانية بإيران، والثالثة بإسرائيل.

منذ 11 سبتمبر كان واضحاً بأن أجهزة الاستخبارات الباكستانية الـ ISI، تقف خلف طالبان مثلما تقف خلف القاعدة أيضاً. كان ممكناً التوقع أن يعمل الأمريكيون أولاً وقبل كل شيء ضد إسلام أباد. ولكن باستثناء بضعة تهديدات في موعد قريب من الاجتياح الأمريكي لأفغانستان في أكتوبر 2001، لم يعمل الأمريكيون ضد باكستان، وذلك لسبب بسيط: أجرت باكستان عدة تجارب نووية في العام 1998، وفي 2001 كانت تملك ترسانة نووية كبيرة. إذا كان أحد ما شك في أن الباكستانيين، مؤيدي الإرهاب، مستعدون لاستخدام السلاح النووي – فإن شبه الحرب بينهم وبين الهند في 2001 – 2002 هي الدليل.

في ديسمبر 2001 نفذ مخربون كشميريون مدعومون من باكستان عملية إجرامية في البرلمان الهندي. رد الهنود بنشر القوات على حدود باكستان. ورداً على ذلك، نقل الباكستانيون جيوشهم إلى الحدود. في مايو 2002 كان احتمال الحرب بين الجبارين الآسيويين عالياً للغاية. بضغط أمريكي، قال الهنود إنهم لن يكونوا أول من يستخدم السلاح النووي. أما رئيس باكستان في حينه، برويز مشرف، فقد رفض عمل ذلك. وبدلاً من إعطاء إسناد مطلق للهند، ضغطت الولايات المتحدة عليها بالنزول عن الشجرة أولاً.

كشف السلوك الأمريكي للعالم بأن ترسانة باكستان النووية نجحت في ردع وثني قوة عظمى. في غضون نصف سنة، طردت كوريا الشمالية مراقبي الأمم المتحدة من منشأتها وخرجت من الميثاق الدولي لعدم نشر السلاح النووي. إيران في تلك الأيام شددت نشاطها النووي السري في أصفهان ونطنز. الامتناع الأمريكي عن الصدام مع باكستان سمح لـ ISI أن يواصل دعم وحفظ طالبان حتى بعد أن أسقطه الأمريكيون في نهاية 2001.

وبالنسبة لإيران، اتخذ بوش ورجاله قراراً بعدم التصدي لها. ليس هذا قراراً جديداً. فمنذ إدارة ريغان يسود اعتقاد في واشنطن بأن يمكن التوصل إلى اتفاقات مع النظام تعيد الحلف الاستراتيجي الذي كان في عهد الشاه. لم تتأثر إدارة بوش من الدعم الذي قدمته إيران لخاطفي الطائرات في الأشهر التي سبقت 11 سبتمبر. كما لم تتأثر من أن مجلس شورى القاعدة انتقل من أفغانستان إلى إيران بعد سقوط طالبان، ولا أيضاً من أن القاعدة في العراق، وكذا الميليشيات الشيعية الذين تلقوا تعليماتهم من قيادات كانت تتموضع في إيران.

توافقات

إن الاعتقاد بإمكانية الوصول إلى توافقات وبالتالي لا ينبغي العمل ضد إيران، ساد وتعزز في إدارة أوباما. ترمب هجره جزئياً في السنتين الأخيرتين له في البيت الأبيض. أما بايدن، فقد عاد إليه بكل القوة مع بداية ولايته في يناير.

الفرضية الثالثة تتعلق بإسرائيل. منذ الأيام الأولى بعد العمليات، بقيادة وزير الخارجية في حينه كولين باول، قضت إدارة بوش قبيل الاجتياح الأمريكي للعراق في 2003، حاول رئيس الوزراء في حينه ارئيل شارون، التصدي للفرضية الأساس بالنسبة لإيران، فقد شرح للأمريكيين بأن العراق لم يشكل تهديداً استراتيجياً منذ حرب الخليج في 1991. هذه المحاولة فشلت على أي حال.

بالنسبة للفلسطينيين، عندما رأى شارون جمود الفكر في إقامة دولة فلسطينية، جرد الشروع في صراع. في أكتوبر 2001 ألقى “خطاب تشيكوسلوفاكيا” الذي هز الأركان على مدى نحو خمس دقائق. “أتوجه للديمقراطيات الغربية، وأولاً وقبل كل شيء لزعيمة العالم الحر الولايات المتحدة – لا تكرروا الخطأ الرهيب في 1938. في حينه قررت الديمقراطيات المتنورة في أوروبا التضحية بتشيكوسلوفاكيا لحل مؤقت مريح. لا تحاولوا مصالحة العرب على حسابنا. لن نقبل هذا. ولن تكون إسرائيل تشيكوسلوفاكيا. إسرائيل ستقاتل الإرهاب”، أعلن شارون.

ردت الإدارة بغضب على هذه الأقوال، وتراجع شارون. بعد شهر من ذلك، كان باول المسؤول الأمريكي الأول الذي يعلن عن تأييد الولايات المتحدة لإقامة دولة فلسطينية. كان فشل شارون يكمن في ضعفه أمام الأمريكيين. لم تكن لديه أدوات للكفاح، ولم يكن يعرف المنظومة. أما نتنياهو بالمقارنة معه، فقد حقق نجاحات مهمة في محاولاته لقضم الفرضيات الأمريكية الأساس.

صراع نتنياهو ضد التقرب الأمريكي من إيران أدى إلى تفكك الجبهة العربية ضد إسرائيل. والمحور الإسرائيلي – العربي أمام إيران وفروعها أدى إلى قرار إدارة ترمب هجر الاتفاق النووي. وحسب مصادر رفيعة المستوى في إدارة ترمب، كانت نيته قيادة معركة إسرائيلية عربية في ولايته الثانية غايتها تفكيك البرنامج النووي لإيران. وبالنسبة للفلسطينيين، عمل نتنياهو على قضم الفرضية الأمريكية الأساس، من خلال الحلف الذي عقده مع دول عربية ومن خلال الأعمال تجاه الرأي العام الأمريكي وتجاه مؤيدي إسرائيل في الكونغرس أيضاً. منعت جهوده مسعى أوباما لحمل إسرائيل على تنازلات بعيدة المدى. هذه الإنجازات تتدحرج الآن كالبساط الفارسي في أعقاب خطوة التنحية المزدوجة ضد ترمب ونتنياهو.

وثمة إحساس قاس اليوم بأن الحفرة التي فتحت في أفغانستان تجتذبنا عشرين سنة إلى الوراء. ولكن الحقيقة أخطر بكثير. في 2001 كانت الولايات المتحدة أقوى بكثير بالنسبة لأعدائها. هذا الوضع لن يتحسن. مسيرة الضعف ستتسارع طالما لم تهجر الولايات المتحدة الفرضيات المغلوطة التي تبنتها قبل عشرين سنة.

خلفيات هزيمة

جاء في تقرير نشر في واشنطن يوم 25 أغسطس 2021:

التقاذف متواصل بين الاحتفاليين والاعتذاريين. ثمة رغبة لدى أولئك بإلصاق نعت الهزيمة النكراء بما جرى للولايات المتحدة في أفغانستان، في مقابل مسعى في أوساط هؤلاء لإدراجه في إطار التحول الرائق والمتوقع بإجماله، وإن لم يكن بتفصيله.

واقع الحال، لا جيوش طالبان تجول بالبيارق المرفوعة في جادات العاصمة واشنطن للحديث عن الفتح المبين، ولا الآلة الحربية الأمريكية تعيد توزيع عديدها وعتادها بالدقة المتعمدة والتأني الرقيق، بما يسند مقولة الانتقال السلس.

الولايات المتحدة قد هزمت بالفعل في أفغانستان، فيما يتعدى صورة الفوضى في مطار كابل، والتنسيق الاضطراري مع عدو الأمس. غير أنها هزيمة بمقاييسها الذاتية، وليست هزيمة إزاء أحد.

أصول الهزيمة تعود إلى قرار الهجوم على أفغانستان نفسه، في أعقاب هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001.

ما كانت الولايات المتحدة تفتقده في أعقاب هذا الهجوم هو نظرية علاقات دولية متماسكة. في المرحلة السابقة، أي الحرب الباردة، كانت قراءة الولايات المتحدة للأحوال الدولية موحدة في تقييمها للتحديات والمصالح، وإن اختلفت، بين التيارات الفكرية والتوجهات الحزبية، في تصورها للسياسات التي تقتضيها. كانت ثمة منظومة اشتراكية شمولية تسعى إلى التمدد بما يهدد مصالح الولايات المتحدة والبنى الدولية التي أنشأتها في أعقاب الحرب العالمية الثانية. فسواء كان الرد تشديد المواجهة لغرض الإنهاك، أو التواصل الذي من شأنه تفكيك جهود الخصوم، فإن خطوط التماس بين العدو والصديق كانت واضحة، ودور الولايات المتحدة في قيادة العالم الرأسمالي الحر كان جليا.

مع انتهاء الحرب الباردة وانهيار المنظومة الاشتراكية، أصبحت الولايات المتحدة الدولة العظمى الوحيدة، وانحصرت مسؤولية ضمان الاستقرار العالمي بها، ما أسس لتنازع فكري داخلها، بين من يدعو إلى الانطواء، طالما أن الأخطار قد انحسرت، ومن يرى وجوب المحافظة على النظام الدولي القائم وتعزيز دعائمه من خلال المؤسسات الدولية، ومن يرى في الأمر فرصة لإعادة صياغة العالم بما يتوافق مع المصالح والقيم الأمريكية، باعتبارها الأنسب عالمياوإن جهل الآخرون الأمر، وهي الرؤية المحافظة الجديدة.

الشرق الأوسط الكبير

“غزوات” الحادي عشر من سبتمبر خلطت الأوراق، وهزت شعور النصر المفصلي والأمان التاريخي واللذين كانا سائدين في الولايات المتحدة. الحاجة إلى فعل حاسم كانت ماسة. السؤال كان وحسب حول طبيعة الخطوة العتيدة، أي الحرب على أفغانستان. اقتصاصية ؟ ربما. حرب عادلة” ؟ هكذا ارتآها العديد من المحافظين.

على أن تأطير الهجوم على أفغانستان تم في نهاية الأمر عبر تلاقي ثلاث قراءات. إحداها، قراءة “المصلحة الوطنية” كانت القراءة الثانية، تستدعي المبادئ والقيم، وترى في التجاوز الصادر من أفغانستان نتيجة مباشرة لإهمال من واشنطن لمن عبأتهم واستفادت منهم لاستنزاف الاتحاد السوفييتي، أي المجاهدين ومن جاء بعدهم من طالبان. فلضمان استقرار أفغانستان وجوارها والعالم، كان لا بد بالتالي من استبدال النظام الإسلامي القائم بآخر متوافق مع المنظومة الدولية، بفعل أمريكي ومساهمة عالمية.

أما القراءة الثالثة فهي التي رأت في الفوضى في أفغانستان وفي استفحال الحركة الجهادية فرصة لتجاوز الفعل التصحيحي باتجاه الإقدام على تأسيس واقع جديد، الشرق الأوسط الكبير، المتوافق في قيمه وبناه ونظمه مع الرؤية المحافظة الجديدة.

المشترك بين القراءات الثلاث هو العزم على القضاء على القاعدة والاقتصاص من طالبان. ورغم أن هذا الهدف الأولي قد تأخر، فإنه كان بالإمكان زعم تحقيقه في وقت لاحق، ولا سيما مع مقتل أسامة بن لادن وتشتيت القاعدة، رغم أن ثمن هذا التشتيت، وسوء متابعته، كان ظهور ما هو أسوأ من القاعدة.

التلاقي المرحلي بين القراءات الثلاث انتهى بعد أعوام قليلة من سقوط كابل في قبضة جيوش واشنطن والشروع الفاشل بمساعي تنفيذ الأهداف التالية على تضاربها، بل أن هذه الأهداف قد فقدت الزخم، في أفغانستان كما في العراق وسائر العالم، وأمسى لسان حال واشنطن السعي للتخلي عن دور شرطي العالم.

ولكن المشاريع المستهلِكة للأموال العامة لا تزول من تلقاء نفسها، بل لها في بناها من المستفيدين الموضعيين ما يضمن استمرارها. لا حاجة هنا لاستدعاء نفوذ فائق لشركات الانتاج الحربية لتفسير هذا الاستمرار، دون تبرئتها، ذلك أن أعداد المستفيدين، في الولايات المتحدة نفسها وأفغانستان وسائر العالم كانت واسعة إلى حد تعزيز الزخم للاستمرار، ما لم يأت قرار ترشيد المصلحة الوطنية من السلطة السياسية في واشنطن.

هذا في حين أن ضياع الخطاب الواضح حول جدوى الحرب الطويلة في أفغانستان وانحسار الخطر الجهادي الإرهابي، أو انتقاله إلى خارج أفغانستان، ضاعف التململ في أوساط المجتمع من حرب يبدو أن نتائجها هو وحسب أعداد من القتلى والمعوقين من الجنود الأمريكيين.

 

شرطي العالم

حرب غير مفهومة، أن تقدم على خطوة وضع حد للمواجهة قبل عقد من الزمن أو أكثر. عرضيا، رغم أن الأمر خارج الاهتمام أو الوعي بالنسبة للغالبية في الولايات المتحدة، ونظرا إلى النتيجة التي تحققت اليوم، كان من شأن ذلك أن ينجي مئات الألوف من أهالي أفغانستان من الموت والألم، وينقد بلادهم من مضاعفة الدمار.

هل كانت الرئاسات المتعاقبة في واشنطن خلال هذه المرحلة الحرجة على مستوى المسؤولية؟ الحكم للتاريخ طبعا، ولكن الاستعراض الأولي لأداء الرؤساء لا يفيد الطمأنينة. باراك أوباما قرر بما يشبه الاعتباطية أن الحرب في العراق هي الاختيارية وفي أفغانستان هي الاضطرارية، ثم عاد ومنع عن قواته المسلحة ما يمكنهم من الانتصار بحربه الاضطرارية. كان جلياً بالنسبة لطالبان، منذ أن تولى أوباما الرئاسة أن المسألة هي قضية وقت وحسب قبل الانسحاب الأمريكي. لا رغبة بالمزيد من الضخ والالتزام، والأهم لا رؤية حول طبيعة الانتصار وكيفيته.

ثم جاء دونالد ترمب، مستعينا بفكرة الانسحاب وجداوها انتخابيا، وسعى مهرولاً لتحقيق الانسحاب في عهده، دون اعتبار للعواقب، ولا سيما في تضييع الضئيل الذي كان قد تحقق بنيويا، فسعى إلى توقيع اتفاق مع أعداء الأمس، بل كاد أن يستقبل وفد طالبان في واشنطن في الذكرى السنوية لاعتداءات الحادي عشر من سبتمبر. وترك الرئاسة والتواجد الأمريكي في أفغانستان في حال افتقاد للخطط الميدانية، بالإضافة إلى غياب الرؤية التأطيرية.

ثم كان دور جو بايدن، والذي عاش ارتباك أوباما يوم كان نائبا له، وعلى ما يبدو شاء أن يستفيد من تسرع ترمب، لإيلاء الشأن الداخلي كل اهتمامه، فجاءت خطواته من طينة سلفيه، محدودة الرؤية وقاصرة الأداء.

ليس في الأمر تنقيص من صمود طالبان ومقاومتها للقوات الأجنبية، دون أن يصل هذا التقدير إلى حد الارتقاء بها إلى وصف يشبه الحركة الوطنية. هذا التنظيم لم يتردد لتحقيق أغراضه باستباحة دماء الأبرياء. ورغم العقيدة القتالية “الحضارية” للقوات الأمريكية والحليفة، فإن أداء هؤلاء بحق الأفغان ليس مشرفاً بدوره.

غير أن من هزم الولايات المتحدة في أفغانستان هي الولايات المتحدة نفسها، ساعة تشتتت الرؤية التي زجت بها في هذه البلاد البعيدة، وساعة عجز رؤساؤها المتعاقبين عن اتخاذ القرارات الواضحة الحازمة.

مراجعة ضرورية

ما جرى في أفغانستان يتطلب مراجعات ومساءلات سوف تجري حكما، وسوف ينتج عنها مطالبات بنهج جديد وسياسات مختلفة تحيط منطق التدخلات الخارجية بفائق الحذر. ولا شك أن خيبات الأمل واسعة ومتشعبة في الولايات المتحدة والصف الغربي، كما في أفغانستان نفسها وفي سائر العالم، الذي اعتبر واهما أن الانخراط الدولي الطويل الأمد في أفغانستان من شأنه أن

المسألة ليست في عدم توفر الإمكانيات. للولايات المتحدة من القدرة البناءة ما كان من شأنه تشييد أفغانستان مرات عدة، ولها من القوة الضاربة ما كان كفيلاً بإبادة طالبان عن بكرة أبيها.

ولا المسألة في القناعات. بل المجتمع الأمريكي حاضر لأن يستجيب من حيث المبدأ ثم المصلحة لدعوة المساهمة في استنهاض

قد يكون جو بايدن صائبا في تقييمه أنه لا سبيل لأن يكون الخروج من أفغانستان مختلفا. إذ ليس في الأمس القريب رئيسكان بالإمكان أن ينتظر منه أداء يحقق هذا التوافق.

عسى أن يكون في التقييم اللاحق لهذه التجربة المرة إقرارا بالظلم الذي أصاب سكان أفغانستان. وأن يبنى على الأمر

الباكستانية السابق، على شاشة التلفزيون في العام 2014: “عندما يكتَب التاريخ، سيعلن أن وكالات الاستخبارات الباكستانية هزمت الاتحاد السوفييتي في أفغانستان بمساعدة أمريكا”. وأضاف: “ثم ستكون هناك جملة أخرى: أن وكالات الاستخبارات الباكستانية هزمت أمريكا بمساعدة أمريكا”.