جذور الفساد في العراق…لكن الحقيقة التي يدركها المتخصصون في العراق والمتابعون لخطوط مساراته السياسية والاقتصادية، هي أن الفساد لم يكن وليد الحالة التي تلت عام 2003 فحسب، وما تبعها من غطاء وفّره الاحتلال الذي فك أطر الدولة وإدارتها وحل مؤسسات الدولة الرئيسة وإبدالها بدوائر وبموظفين ناقصي الخبرة والتجربة فحسب، بل تعود ظاهرة الفساد إلى حقبة الحصار الاقتصادي، التي بدأت بُعيد غزو الكويت في الثاني من سبتمبر (أيلول) 1990، واستصدار أكثر من 80 قرار دولي، من مجلس الأمن والأمم المتحدة، لمعاقبة العراق خلال الحصار والحرب التي شُنت على النظام السابق، وخساراته المتلاحقة بالعقوبات من جهة والتدمير الذي لحق به جراء مغامرة الكويت من جهة أخرى.
وخلفت تلك الخسائر انحداراً في البنية التحتية وأضرت ضرراً بالغاً في البنية المجتمعية العراقية، فسادت الرشوة وتزايدت أعداد العاطلين من العمل وتقلصت فرص المعيشة، وأُعلنت سياسة التقشف الاقتصادي، ما وضع العراق كله تحت وطأة أحوال جديدة، أشاعت خلال 13 سنة عجاف، ظواهر لم يعرفها العراقيون من قبل، أهمها شيوع الرشوة وتناقص فرص الرفاه وانحدار مستوى العيش بشدة.
ومهدت هذه الأحوال لشيوع مظاهر الفساد والرشوة في عموم تصرفات الموظفين الحكوميين في حقبة الاحتلال، وفق توصيف أحد الخبراء، فانتشرت عملية الحصول على المكاسب الشخصية، من خلال أداء الوظيفة العامة، وتفشى الفساد على الرغم من أن المجتمع كان يصفه بـ “السلوك غير المشرّف للموظف الحكومي”، لكنه وقع بيد أصحاب السلطة، المدعومين بالسلاح المنفلت والميليشيات التي تمكنت من تأسيس ما يسمى بـ “اللادولة” المتحكمة بأداء الدولة، فاقترن ما هو سياسي بالفساد وبالقيام بكل ما يخالف قواعد السلوك الوظيفي.
وبعد العام تسعين من القرن الماضي، وكانت أسبابه اقتصادية – سياسية، لكن السبب الاقتصادي هو الأساس، وبعد الاحتلال، تحولت هذه الظاهرة من جزر متناثرة إلى حالة متجذرة والسبب الرئيس هو نظام المحاصصة السياسية الذي بُني على وجود الأحزاب، التي لم تنشأ بشكل طبيعي، بل جاءت من الخارج أو أنشئت حديثاً وتريد أن تدير السلطة وهذا يتطلب أموالاً طائلة، فتمولّت من خلال العمل السياسي، في وقت ضعفت مؤسسات الدولة القائمة، وساعد ذلك على انتشار ظاهرة الفساد. كذلك فإن الاقتصاد الريعي والاعتماد تماماً على النفط وتحطيم كل البنى التحتية في الاقتصاد العراقي، أدى أيضاً إلى زيادة انتشار تلك الظاهرة، بالتالي فإن الأسباب مركّبة، سياسية- اقتصادية، ثم تحولت إلى ظاهرة اجتماعية، وباتت المقبولية لها أكبر وهذا أخطر ما في الموضوع”. وذهب رئيس “المجموعة المستقلة للأبحاث” إلى القول “إن أسوء مداخل المعالجات هو المدخل القانوني، على الرغم من أنه مطلوب في المرحلة الأولى من مجموعة المعالجات المطروحة. لكن الموضوع يتطلب تضافر جهود مشتركة للقضاء على الفساد، ويبقى المدخل الأساس هو الاقتصاد، حين يتم التحول إلى الخصخصة، على أن ترفع الدولة يد سيطرتها على الاقتصاد، الأمر الذي سيساعد كثيراً في الحل، ترافقه عملية إصلاح سياسي شامل”.
و”إن الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد 2021-2025، حددت أسباب الفساد بالسياسي والمجتمعي ثم الفساد الإداري والمالي. واقع تصنيف العراق كدولة مدنية زراعية ربما انخفض بعد عام 2003 إلى حالة اللادولة، وطفا على سطح إدارة السلطة، شرائح مجتمعية طفيلية من نتاج أحزاب المعارضة العراقية السابقة التي سارعت إلى إعادة توزيع الوظائف العامة على مؤيديها، في تعيينات تصاحب كل دورة انتخابية وضخّمت أعداد موظفي الجهاز الحكومي، من حوالى مليون قبل عام 2003، إلى حوالى 6 ستة ملايين موظف، منهم أكثر من مليونين في الجهازَين العسكري والأمني”.
و أن “معضلة الفساد تحولت من مجرد ظاهرة منبوذة إلى واقع للتباهي وعدم الخجل، بأن فلان قادر على تجاوز القانون بسلطة حزبه أو واقع السيطرة على الأرض من خلال السلاح المنفلت، العشائري أو العائد للأحزاب، مما أدى إلى فشل الأجهزة الرقابية في اتخاذ إجراءات واضحة ومباشرة للوقاية من الفساد، مثل تعديل قانون النزاهة للكشف عن الذمة المالية، والإجابة عن سؤال من أين لك هذا؟ الذي ما زال خارج سياق التطبيق، ولا مَن يسأل الطبقة السياسية عما امتلكت قبل وبعد 2003”.
ولم يكون الفساد في العراق “منهجي” كما يصفه مراقبون كثر، فقال “إنه ليس فساداً منهجياً، بل سوء إدارات، وفشلاً سياسياً سمح بتغول الطائفية والقومية على حساب الوطنية الجامعة. وهذا النظام السياسي السائد، سمح بإنتاج دويلات هدفها تعظيم مواردها الاقتصادية والسياسية على حساب الدولة الأم وهي العراق”. وعن الحديث المتواتر حول فساد قطاع الكهرباء الذي استهلك أكثر من مئة مليار دولار حتى الآن، قال وحيد إن “القطاع الاستثماري في الكهرباء سياسي وفاسد وليس اقتصادياً، وسيسهم في انهيار الاقتصاد العراقي كونه أصبح مورداً لدويلات المدن الطائفية والقومية، على حساب النظام الوطني القطاعي”.
تزدحم الصحف العراقية بمقالات عن الفساد لكتّاب في اختصاصات مختلفة،لكننا لا نعرف وجهة نظر الناس في ظاهرة لم يشهدها تاريخ الدولة العراقية منذ تأسيسها.والمفارقة ان نظام الحكم الملكي الذي اتهم بالعمالة لبريطانيا ونظام الحكم الدكتاتوري الذي احتكر السلطة ما
تزدحم الصحف العراقية بمقالات عن الفساد لكتّاب في اختصاصات مختلفة،لكننا لا نعرف وجهة نظر الناس في ظاهرة لم يشهدها تاريخ الدولة العراقية منذ تأسيسها.والمفارقة ان نظام الحكم الملكي الذي اتهم بالعمالة لبريطانيا ونظام الحكم الدكتاتوري الذي احتكر السلطة ما كان فيهما الفساد بحجم ما صار عليه في نظام ديمقراطي! وتتولى السلطة فيه احزاب دينية!
ولغرض معرفة رأي الناس في اسباب الفساد ،وتحليل اجاباتهم ومعرفة ما اذا كانوا يحملون تصورا مشتركا او تشخيصا محددا يقود الى استنتاجات تبنى عليها مواقف عملية ومعالجات اجرائية ودراسات علمية،فقد توجهنا عبر وسائل الاتصال الجماهيري والبريد الآلكتروني بثلاثة اسئلة هي:
1. من هو المسؤول الاول او الاكبر عن شيوع الفساد في العراق؟ حدد جهة واحدة فقط.
2. حدد ثلاثة اسماء من المسؤولين تعتقد انهم اكبر ثلاثة فاسدين.
3. ماهي اسباب الفساد من وجهة نظرك؟
كانت النتائج على النحو الاتي:
السؤال الأول..الجهة المسؤولة.
• الأحزاب الدينية في السلطة
• سلطة الاحتلال بعد سقوط النظام
• الاحزاب المشاركة في العملية السياسية
• حزب البعث في النظام السابق
اسباب الفساد
حددت العينة اسباب الفساد بالآتي:
• غياب الرقابة المالية
• عدم تطبيق القانون
• عدم استقلال القضاء
• المحاصصة
• ازدواجية الفرد العراقي
• الفقراء بوصفهم مسؤولون عن اطالة مدة بقائه
• الوضع السياسي المنهار والفوضى الامنية
• صمت المرجعية الدينية
تضمنت الاجابات تعليقات ساخرة واخرى عامة من اكاديميين ومثقفين نوجزها بالاتي:
• الجميع فاسدون لا استثني احدا. وعلى رأي النواب استثني ابن عّم كونفوشيوس وابن خال الجاحظ وابن عمة ابن منظور وابن خالة الإسكندر الكبير صاحب البواسير السبعة ووارث عمامة الحجاج بن يوسف احد كلاب ثقيف فقد كان المسكين يحلم اثناء الأزمة.
• المسؤول الاول عن شيوع الفساد:هي البيئة السائدة،والقضية لا تتعلق باشخاص.ومن الصعب جدا الاجابة على هذه الاسئلة بدقة من دون قرائن.
• الجميع بمن فيهم الفقراء والضعفاء..فحين يشيع الفساد تنتشر ما يسمى ثقافة الفساد..فيسمى الفاسد ذكيا والامين مسكين ما يعرف مصلحته.
• صعب التحديد..كلهم فاسدون وفاسقون بلا استثناء.
• للكاتب وليم كولدنغ رواية تسمى (الذباب)..ملخصها وصول مجموعة من الاطفال الى جزيرة غير مأهولة،وبغياب سلطة الكبار (القانون) والدين يتحولون بالتدريج الى قتلة.
• الشعب هو الذي يشجع على الفساد..فلو امتنعنا عن الرضوخ الى كل مرتشٍ وفضحنا ألاعيب البعض منهم وساهم كل فرد بأصلاح نفسه ونصح من حوله لما استشرى هذا المرض
• لان اكبر الفاسدين هم اشخاص متدينون..فقد انتهكت قيم الحلال والحرام.
• الشعب الذي ينتخب الفاسدين والانتهازيين والمحتالين والناهبين والخونة لا يعتبر ضحية بل شريكا في الجريمة.(جورج اوريل)
اللافت في هذه النتائج ان الرأي العام حمّل حزب البعث بوصفه هو اول من بدأ الفساد في العراق،وحمل الأحزاب الاسلامية الدينية المسؤولية الأكبر في اشاعته،فيما حدد اكبر ثلاثة فاسدين بكل من:السيد نوري المالكي يليه بفارق كبير السيدان مدحت المحمود واسامة النجيفي.
على ان اهم استنتاج واخطره،اجتماعيا واخلاقيا وسياسيا،هو ميل الرأي العام الى (التعميم).فهو لم يستثنِ حزبا او طرفا في العملية السياسية فضلا عن الاتهام طال معظم السياسيين.وفي هذا ما قد يشير الى مبالغة،اذ ليس من المعقول،في رأي كثيرين،ان جميع من ورد اسمه (جهة ام اشخاصا) هم فاسدون ماليا بالمعنى الذي يدينه القانون.والخطر في هذا الحكم انه يخدم الفاسدين الحقيقيين (الحيتان)..لأنه يحولهم من اشخاص معدودين ليضعهم في جمع غفير يضيعون وسطه.فضلا عن انه يشجع من هو غير متورط به من السياسيين الى ممارسته مبررا لنفسه انه ما دام الجميع متهما وما دام الفاسدون يعيشون برفاهية فلماذا لا اكون مثلهم،او محاورا نفسه بالتعبير الشعبي (هي بقت عليّ). وعلى الصعيدين الاخلاقي والاجتماعي،فان الخطر في هذا التعميم أنه يبرمج تفكير الناس بأن الفساد صار حالة واقعية عليهم قبولها وتكييف علاقاتهم الاجتماعية وقيمهم الاخلاقية لما صار امرا مفروضا. وتتضمن النتائج ادانة للفقراء والمحرومين والشعب بشكل عام لأنه سكت عن محاسبة الفاسدين.وهذا ليس صحيحا ايضا بدليل ان التظاهرات المطالبة بمحاسبة الفاسدين بدأت في شباط 2011 وبلغت حدتها في آب 2015.وتوحي هذه النتيجة بأدانة ضمنية للذات،وترحيل مسؤولية فضح الفاسدين ومحاربة الفساد من الذين يمتلكون وعيا ثقافيا وسياسيا الى فقراء اعتادوا على حالتين:حياة البؤس والخوف من الحكومة.
تحليل سيكولوجي
تعود بدايات الفساد الى عام (1980) في المؤسسة العسكرية تحديدا” بين ضباط وميسوري حال من المجندين بدفع رشا و (هدايا) الى آمريهم للحفاظ على حياتهم او الحصول على اجازة يمارسون فيها اعمالا” تدرّ عليهم رزقا” أوفر من رواتبهم، و”شراء” قادة عسكريين بمنحهم اوسمة شجاعة بمكافآت مالية ضخمة واراضٍ،خلقت منهم فئة ثرية جدا” ولدّت لدى الضباط الآخرين الشعور بالحيف فأخذوا (حقهم) من الدولة بالرشوة والاختلاس،نجم عنها (تطبيع نفسي) مهد لقبول هذه الظاهرة. وجاء الحصار الذي اضطر اساتذة جامعة ان يعملوا (سواق اجرة) ويفتح مدرسون(بسطيات..جنبر)لبيع السجائر،فدخل الفساد المؤسسات التربوية المسؤولة عن صنع الأخلاق ليلوث الضمائر الفتية ويُهيؤها لمرحلة القبول حين تصبح شابة،لينتقل (التطبيع) الذي مارس عملية (ترويض الضمير) لثماني سنوات،الى حالة (القبول) المبرر نفسيا..لثلاث عشرة سنة. في العام(2003) أطاح التغيير بالنظام ولم يطح بالفساد،بل توزع المحرومون على صنفين:سياسيون استلموا السلطة واستولوا على ممتلكات اشخاص ودولة،و(حواسم) نهبوا وفرهدوا ونطوا من الحضيض الى (القمّة)..بنوا العمارات في بغداد واشتروا الشقق الفاخرة في عواصم عربية.ولأنهم لم يحاسبوا،فقد ظهرت فئة من الناس اطلقوا على انفسهم (النوادم) لأن ضميرهم الذي عدّ النهب حراما” في لحظته،تبين لهم فيما بعد انهم اضاعوا الفرصة فصاروا من النادمين!.ويعني هذا سيكولوجيا،تعطّل الضمير الاخلاقي لدى الذين كانوا مترددين في حوادث النهب والفرهود،وزيادة مساحة قبول الفساد المالي اجتماعيا”. وبتعرض العراق لأخطار داخلية وخارجية ظهر عامل نفسي جديد ضاغط هو ( قلق المستقبل) أشاع الظاهرة اكثر في زمن البرلمانين الأول والثاني،وتحكّم بالغالبية المطلقة من المسؤولين فعدّوا وجودهم بالسلطة(فرصة)عليهم ان يستغلوها بما يؤمّن لهم ولأسرهم مستقبلا” ماديا” مضمونا”.وبممارستهم له صار فعل الفساد( شطاره) وتوقف الضمير عن التأنيب بعدّ الفساد حراما”. وبتعمق المحاصصة والطائفية السياسية شاعت (سيكولوجيا الاحتماء) التي تعني ان ابن الطائفة يحميه حزبه الطائفي،دفعت بعدد من هذه الطائفة وتلك الى سرقة المال العام في اتفاق ضمني:( اسكت وأنا اسكت) منحهم الشعور بالأمن النفسي.وصار الفساد بحجم أكبر لم يشهده تاريخ العراق والمنطقة، و”الفضل” في ذلك يعود لأمريكان وأجانب جرّؤوا عراقيين على “هبرات” كبيرة..وأمّنوا لهم الحماية.
وبسكوت الحكومة الحالية عن محاسبة الفاسدين،وتبادل التهم بين معممين سياسيين بشكل خاص ومدّعين بالزهد والنزاهة..افتقد الناس انموذج القدوة وصار الموظف البسيط يردّ على ضميره:( اذا كان قدوتي يرتكب هذا الفعل..فأنا لست بأحسن منه.واذا كان حراما..فلأضرب ضربتي..ثم اذهب الى الحج واستغفر ربي..والله غفور رحيم!). ان تفاعل هذه الآليات على مدى (35) سنة أفرز نتيجة سيكولوجية هي أن الناس حين تضطر الى قبول أو غض الطرف عن سلوك كانوا يرفضونه،ويجدون أنفسهم غير قادرين على تغييره،انتشر بين غالبيتهم مخّرجينه بتبريرات واسقاطات تعطّل تأنيب الضميرعلى هذا الفعل.وبما أن الفساد شاع سيكولوجيا واجتماعيا فان النصائح والمواعظ والتثقيف وخفض الرواتب الكبيرة..لن تقضي عليه،لأن الضمير الذي يتوقف فيه نبض الحلال والحرام يصبح مثل قلب توقف..لن تعيد نبضه الا رجّة كهربائية.والرجّة للفساد تكون بتشكيل محكمة من قضاة مستقلين تبدأ بمحاسبة الحيتان الكبيرة..يأخذ فيها كل فاسد ومفسد جزاءه بالعدل،وتسترد ليس أموال الناس فقط..بل الضمير الذي تهرّأ..وهذا أثمن.
لقد أيقن العالم أجمع ووقر في عقيدته بأن آفة الفساد على إختلاف مظاهرها تُعد المعوَّق الأكبر لكافة محاولات التقدم، والمقوَّض الرئيسي لكافة دعائم التنمية ، مما يجعل آثار الفساد ومخاطره أشد فتكاً وتأثيراً من أي خلل آخر ، فإنه لا يقتصر دوره المخرب على بعض نواحي الحياة دون البعض الآخر ، بل يمتد إلى شتى نواحي الحياة الاقتصادية والإجتماعية والسياسية.
فعلى الصعيد الاقتصادي يؤدي الفساد إلي:
إعاقة النمو الاقتصادي مما يقوض كل مستهدفات خطط التنمية طويلة وقصيرة الأجل.
إهدار موارد الدولة أو على أقل تقدير سوء إستغلالها بما يعدم الفائدة المرجوه من الإستغلال الأمثل.
هروب الإستثمارات سواء الوطنية أو الأجنبية لغياب حوافزها.
الإخلال بالعدالة التوزيعية للدخول والموارد وإضعاف الفعالية الاقتصادية وإزدياد الهوة بين الفئات الغنية والفقيرة.
اضعاف الإيرادات العامة للدولة نتيجة التهرب من دفع الجمارك والضرائب والرسوم بإستخدام الوسائل الإحتيالية والإلتفاف على القوانين النافذة.
التأثير السلبي لسوء الإنفاق العام لموارد الدولة عن طريق اهدارها فى المشاريع الكبرى بما يحرم قطاعات هامه مثل الصحة والتعليم والخدمات من الإستفادة من هذه الموارد.
تدني كفاءة الإستثمارات العامة وإضعاف مستوى الجودة في البنية التحتية العامة بفعل الرشاوي التي تدفع للتغاضي عن المواصفات القياسية المطلوبة.
وعلى الصعيد السياسي يؤدي الفساد إلي:
تشويه الدور المطلوب من الحكومة بشأن تنفيذ السياسة العامة للدولة وتحقيق مستهدفات خطط التنمية.
انهيار وضياع هيبة دولة القانون والمؤسسات بما يعدم ثقة الأفراد فيها.
اضعاف كل جهود الإصلاح المعززة للديمقراطية بما يتزعزع معه الاستقرار السياسي.
إقصاء الشرفاء والأكفاء عن الوصول للمناصب القيادية بما يزيد من حالة السخط بين الأفراد ونفورهم من التعاون مع مؤسسات الدولة.
إعاقة وتقويض كافة الجهود الرقابية على أعمال الحكومة والقطاع الخاص.
وعلى الصعيد الاجتماعي يؤدي الفساد إلي:
انهيار النسيج الاجتماعي وإشاعة روح الكراهية بين طبقات وفئات المجتمع نتيجة عدم العدالة والمساواة وتكافؤ الفرص.
التأثير المباشر وغير المباشر لتداعيات الفساد الاقتصادية والسياسية على استقرار الاوضاع الامنية والسلم الإجتماعي
ليست مقاربة الفساد بالأمر الهين رغم سطوع هذه الظاهرة، التي لا يكاد يخلو مجتمع أو نظام سياسي منها، بل قل إن تناول هذه الظاهرة يتم من زوايا ورؤى مختلفة.
إن وظائف الفساد ومستوياته (ولا نقصد بالوظيفة هنا تقويم الفساد أخلاقياً، وإنما النتائج الموضوعية له) تنوس بين قدرته على إنتاج التراكم في ظرف ما أو الحيلولة دونه، ومن اللافت للنظر أن الفساد -رغم الموقف الاجتماعي منه- قد يكون علاناً في تلك الدول التي تسود فيها الشفافية، في حين أنه يظل مستوراً في الدولة القمعية الدكتاتورية، وفي كل الأحوال يتعذر علينا قياس كلفة الفساد بشكل دقيق.
إن الفساد في حدوده الصغرى كالرشوة السائدة والرشوة الطارئة، والفساد في حدوده الكبرى وهو فساد منظم والذي يمارسه بعض كبار مسؤولي السلطات الثلاث (التشريعية – التنفيذية – القضائية) غير أن هذه المستويات تختلف استناداً إلى طبيعة النظام الاقتصادي – الاجتماعي ذاته كالفساد في الاقتصاد الموجه والفساد في اقتصاد السوق والفساد في الاقتصاد المشترك فضلاً عن ظاهرة الفساد الجديدة المرتبطة بعملية الانتقال من الاقتصاد المخطط إلى الاقتصاد الحر، وهذه ظاهرة لم يألفها التاريخ سابقاً إلا في مرحلة انهيار الشيوعية وإعادة إنتاج العلاقات الرأسمالية مرة أخرى.
وفي كل الأحوال ومهما تفاقم أمر الفساد وصار ظاهرة طبيعية أو كان ظاهرة طارئة فإن هنالك حدوداً لا يستطيع المجتمع أن يتعايش معها كما لا تستطيع الدولة الاستمرار في أداء وظائفها، ومن هنا تبرز مكافحة الفساد وإنتاج آليات الحد منه وهذا أمر تمارسه أغلب دول العالم.
ويظل القول صحيحاً أن سبل مواجهة الفساد في الدولة الديمقراطية أنجع بما لا يقاس من وسائل مواجهته في الدولة الشمولية، ولما كانت آثار الفساد تطال جميع صعد الحياة السياسية والاقتصادية والأخلاقية والاجتماعية، فإنه جدير بالتناول والمناقشة والإجابة على أسئلة من قبيل:
ما الفساد، هل الفساد الاقتصادي ثمرة فساد سياسي أم العكس؟ هل الفساد ظاهرة موضوعية أم هو ثمرة سياسة واعية؟ ما السبيل إلى لجم الفساد؟ هل بالشفافية والمساءلة، أم بالعقوبة الزاجرة، أم بتغيير البنية التي أنتجت الفساد؟ ما الآثار الأخلاقية للفساد؟ ما علاقته بمفهوم الحق والواجب؟ ترى لماذا شهدت مرحلة الانتقال من الاقتصاد المخطط إلى اقتصاد السوق، تفشي ظاهرة الفساد بهذه السرعة والكيفية؟ هل تحول التعددية الاقتصادية والسياسية دون الفساد أم أنها تفضي إلى تعدد أنماطه؟ وإذا كانت الخصخصة لدى البعض منقذاً من الفساد فلماذا عم في مرحلة الخصخصة؟
وإذا ما تمسك كل منا بحقوقه التي يتفرع عن كل حق منها أربعة واجبات تتمثل: بوعي ومعرفة الحقوق، وممارسة هذه الحقوق، وحمايتها والدفاع عنها، ومراعاة حقوق الآخرين، وإذا ما أدى كل منا واجباته وفقاً لما تمليه أخلاقيات الوظيفة العامة، فإن مساحة الفساد ستنحسر إلى حدودها الدنيا. وليس مبرراً كون الفساد ظاهرة عالمية أن نقبله ونتعايش معه في بلداننا.
إن من اللافت للنظر الاهتمام العالمي المفاجئ بالفساد مصحوباً بضجة إعلامية كبيرة، فهل هذا مرتبط بثورة الاتصالات والمعلوماتية؟ أم هو مرتبط بانتهاء الحرب الباردة وما رافقها من تكتم متبادل على قضايا الفساد؟ وهل هو مرتبط بتطور المجتمع المدني داخل كل دولة؟ أم أن هناك تياراً دولياً يخشى من الفساد في ظل ازدياد حجم التجارة وظهور جماعات فاسدة تسعى لغسيل الأموال؟ هل إناطة اللثام عن الفساد ينم عن صحوة وطنية أملتها الموجة الثالثة للديمقراطية؟ أليس مطلوباً التوقف على آلية تكيف المجتمعات مع الفساد؟ ومعرفة الطرق التي سلكتها في تجاوزه وتلافي أضراره؟ ثم لماذا يرتبط تحول المجتمعات إلى الرأسمالية بشيء من الفساد؟ ولماذا يرتبط أيضاً تحولها إلى الديمقراطية بقدر من الفساد؟ وأخيراً هل تحتاج المجتمعات إلى قدر من الفساد كضرورة أنجبتها البيروقراطية؟ ولماذا شيء من الفساد الوظيفي مفيد كما ذهب بعض علماء الإدارة الأمريكيين (قدر من الفساد ضروري لأداء سياسي جيد) مفارقة عجيبة شعوب تكافح الفساد وأنظمة تبرره؟ وفي كل الأحوال الطريق إلى محاربة الفساد يمر عبر القاعدة التي تقضي بـ(فكر عالمياً ونفذ محلياً) وفي كل الأحوال فإن مكافحة الفساد لاسيما الفساد السياسي والإداري والمالي يستدعي بالضرورة توافر ثلاثة شروط هي :
-1 الشفافية في عمل الدولة ومؤسساتها.
-2 الحكم الرشيد، ويعني الحكمة في استخدام الموارد وحسن اختيار السياسات الاقتصادية.
-3 المساءلة القانونية للقائمين على إدارة شؤون الدولة، والمحاسبة الصارمة لمرتكبي الفساد.
إن السياسات الخاطئة للدولة التي لا تقوم على قاعدة معلومات صحيحة، أو تفاضل بين البدائل والخيارات المتاحة، قد تفوت على المجتمع فرصاً كثيرة، منها عدم استثمار الموارد الاقتصادية والطاقات البشرية على نحو أمثل، حتى ولو لم يكن هناك فساداً.
والشفافية التي عقدت بشأنها العديد من الندوات والمؤتمرات الدولية في السنوات الأخيرة إلى درجة أن ألمانيا أحدثت منظمة خاصة تعنى بقياس درجة الشفافية بين الدول، باعتماد مؤشرات يتم بمقتضاها تحديد أكثر الدول الشفافية وأقلها شفافية، واللافت للنظر أن الدول المتقدمة كانت السابقة إلى إثارة هذه القضية وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية التي اشتهرت شركاتها بتقديم الرشى لبعض مسؤولي دول الجنوب للفوز بالصفقات التجارية. كذلك أظهرت المعطيات تورط المسؤولين في بلجيكا وإيطاليا وفرنسا وغيرها، في قبض عمولات أو قروض ميسرة أو هدايا ثمينة لتمرير صفقات مشبوهة، إلى درجة أن الفساد طال موظفي أجهزة الاتحاد الأوروبي، مما حدا بالبرلمان الأوروبي إلى إقالة كل أعضاء لجنة الاتحاد، نظراً لتقاعسهم في الكشف عن جوانب الفساد المالي أو لتورطهم في قضايا الفساد السياسي.