قبْل أيام معدودة التقيتُ بوالِد أحد الشهداء الشباب المتظاهرين السلميين ممن تم قتلهم ببندقية قنّاص تابع لميليشيات الحكومة العراقية في بغداد يوم الاول من اكتوبر 2019 ، وشاءت الصدف ان نستمع سَويّة لأحد السياسيين العراقيين المُعارضين وهو يتحدث في احدى المحطات الفضائية عن أوضاع السرقات الهائلة جدا التي يَتعَرض لها العراق والعراقيين طيلة اكثر من عقد ونصف من السنوات الاخيرة وما يَتْبعها في هذه الايام من جرائم تهديد وأغتيال واعتقال وتعذيب مُمَنهجة من قبل عصابات الحكومة للشباب المُتظاهرين السلميين المُطالبين بتغيير الحكومة لما فيه الاستقلال والحرية والكرامة للشعب العراقي .
نعم ، استَعْمنا سوية الى هذا السياسي وهو يتوعّدَ بنَصْب أعمدة المَشانق لأعدام كل مَنْ أعتدى على المتظاهرين او سرق ثروات العراق او تعامل مع الاجنبي والى الدرجة التي رَدّتْ فيها عليه المُذيعة التي تُجري المقابلة التلفازية قائلة :
رجاء كُفّوا عن موضوع أعمدة المشانق !!
صاحبي ، والد الشاب الشهيد ، قال لي مُقاطعا استِماعنا الى السياسي العراقي :
كنتُ أتمنى ان لا يكون هذا السياسي في موقع استلام مثل هذه النصيحة !
ثم صمِتَ لثوانٍ عديدة مثنّي الرأس ، وليواصل بعدها الكلام حال بَدأت عيناه تقذفان ملايينا من رسائل الألم والحزن والعَتَب مَحمولة على دموع نقية تَغلي مِنْ مَرارة الجَرْح في دواخل والدِ شاب مُسالم ذي تسعة عشر ربيعا قَتَلتْه اطلاقة مجرم جبان :
أدركُ جيدا المُصيبة والحزن الهائل التي تُصيب أب أو أم أو أخ أو أخت مَنْ يُقْتَل أو يُغْتال أو يُعتَقل أو يُعَذب أو يُعتدى عليه جسديا ظُلما وعُدوانا ، مثلما أدركُ جيدا حُزْن ومَآسي مَنْ يُهَجّر أو يُسْجن أو يُهان أو مَنْ يُحْرم من ماله أو املاكه أو حقوقه الانسانية ، لكني ورغم المُصاب الجَلل أعارضَ مُعاقبة أي مُجْرم بعُقوبة ( الاعدام ) ، وذلك ليس بسبب معرفتي بدُولٍ مَنَعت هذه العقوبة في دساتيرها ، وليس لكوني وُلِدْتُ في بلدٍ نشأتْ فيه أقدم حضارات العالم ، وأنما لأني أرى بأن قناعتنا بعقوبة ( الاعدام ) سيَضَعنا نحنُ ايضاً في مَوْقع المُجرم القاتل ، فهذا القاتل هو الآخر كان هو الآخر مُقْتنعا بقَتْل أو أعدام ضَحيته .
أن أهم ما يُمَيّز الانسان العادل عن الانسان المجرم هو أن الانسان العادل يؤمن بحق كل أنسان آخر في الحياة حتى لو كان الانسان مُجرما ، حيث تتم المحاسبة وفق قانون يَفْرض العقوبات المُناسبة لكل خطأ او تقصير او جريمة عدا عقوبة الاعدام أو التعذيب الجسدي أو النفسي .
والد الشهيد واصل الحديث مُصرا التَكابر على مُصيبته وعلى مشاعرالأسى والالم التي تُحاصر دواخله قائلا :
مُعاقبة المُجرم بنفس الجُرْم الذي أرتَكَبه يَعني أننا نمارس ( نفس الجُرْم ) الذي أرتَكَبه ذلك المُدان ، هذا بأفتراض ان ذلك المُدان قد أرتكَبَ ما تم أدانته به فعلا ، وايضا بأفتراض ان ما تمّ به ادانة ذلك المُدان يُعَدّ ( جريمة ) فعلا مثلما يحصل غالباً في المُدانين في القضايا السياسية وقضايا التعبير عن الرأي او حرية الفكر او المعتقد أو في القضايا المرتبطة بشكل مباشر بالحرية الشخصية .
أن بقاء (عقوبة الاعدام ) نافذة في القانون العراقي يُساعد كثيرا في توفير كُرة سَهْلة المَنال بيد سياسيّ السلطة ومعارضيها وليقوم أحدهم بالانتقام من الآخر مُستخدما تلك العقوبة كوَسيلة ، كما أن بَقاء مِثل هذه العقوبة يَعْني وضْع سيفٍ قاتل بيَد كل القوى الدينية للنيل من كل ذي رأي مُضاد .
والد الشهيد الشاب واصل القول :
جرائم القتل العَمْد الشخصية منها أو السياسية لا يقوم بها مُجْرِمون الا وَهُم تحت ضغوط مختلفة كضغوط الدفاع عن المصالح او الانتقام أو لظروف سياسية او مادية او اجتماعية أخرى وكل هذه الضغوط تَصْنع من القائم بجريمة القتل شخصا ناقصا عن ابعاده الانسانية ، ومِثل هذا الشخص يُعاقب بعقوبة قاسية مناسبة ولكنها عقوبة تَحترم بكل الاحوال حقوق بقاء ذلك المجرم على قيد الحياة ، فالأصل في أي عقوبة هو التأديب وليس الانتقام .
الاستاذ الجامعي اختتم حديثه معي قائلا :
أعمدة المناشنق سهلة التركيب وسريعة التكاثر وهي خَطِرة جدا وسريعة الاشتعال ، وحرائقها قادرة على تدمير مجتمعٍ بأكمله ، لذا فان المجتمعات المتحضرة تُحاول تفكيك كل أعمدة المشانق وازالتها من أراضيها ، ولتُقيم بَدلا عنها أعمدة تُخلّد فيها الحكماء والعلماء والشُجْعان والمُبدعين والنَزيهين ، فهلا اتْعضّنا قبل ان يَحترق حاضرنا ومستقبلنا بـ ( أعمدة مَشانق ) !!