حشرت السياسة، بجانبها الميكافيلي البراغماتي الديغولي نسبة إلى الزعيم الفرنسي «شارل ديغول» الذي يقول عنها إنها «فن استغفال الناس!» أنفها في كل شيء من أدق تفاصيل حياة الإنسان الشخصية والنفسية والثقافية والفنية والدينية والعسكرية إلى الدخول في غرفة نومه وسريره من خلال الفضائيات والموبايلات والنت ووسائل الإعلام المتعددة الأخرى، وشاركته في الأموال والأولاد، وزينت له الدنيا ووعدته بحياة واعدة ومزدهرة قائمة على الغش والكذب والخديعة، «وما يعدهم الشيطان إلا غروراً».
وقد استشعر «بديع الزمان النورسي» خطر هذه السياسة على الإسلام والمسلمين ومستقبلهم واعتبرها صنو الشيطان بل الشيطان نفسه، عندما قال قولته المشهورة «أعوذ بالله من الشيطان والسياسة»، وحذر الدعاة من خلط الدعوة بالسياسة و»خسارة الوقت الذي يفنيه العالم في ساحات السياسة».
وقد صدق الرجل في حدسه واستشرافه للمستقبل بعين ثاقبة، ورأينا كيف أن أحزاباً كثيرة محسوبة على الإسلام خسرت الجلد والسقط عندما قبلت التحدي، ورضيت بقواعد الليبراليين أصحاب السلطة والخبرة الطويلة في المعرفة بدهاليز السياسة المعاصرة، ودخلت معهم في «اللعبة» السياسية التي يجيدونها تماما، والنتيجة إحباط وقنوط وتقهقر وسقوط، فلا هي استطاعت أن تبرز في مجال الدعوة الإسلامية وتوصل رسالتها من خلال العمل السياسي، ولا هي استطاعت أن تبدع في المجال السياسي وتتفوق على الليبراليين، يعني ضيعت المشيتين.
ورغم الإخفاقات السياسية المتتالية التي منيت بها تلك الأحزاب، فإن بعضها القليل نجح في تحقيق إنجازات كبيرة في المجال القومي والوطني لبلدانها مثل حركة النهضة التونسية والعدالة والتنمية التركية، ولكنها لم تضف شيئا مذكورا للمسيرة الإسلامية ودعوتها ولا أقامت مشاريع مهمة تساعد المسلمين والدعاة في العالم في نشر الإسلام إلا بعقد المؤتمرات وترديد الشعارات السياسية المجردة، وهي اكتسبت دعم الشعب وتأييده لها على خلفية تقديم الخدمات للمواطنين ورفع مستواهم المعيشي وإقامة المشاريع الاقتصادية الكبيرة التي تساعد البلد في النهوض والتنمية كحزب التنمية والعدالة الذي يقوده رجب طيب أردوغان، لا على خلفية توجهه الإسلامي.
ورغم أننا نفتقد معرفة الخطط التي تتحرك الأحزاب الإسلامية من خلالها لإقامة مشروع إسلامي مستقبلي متكامل يعتمد على النفس الطويل، ووفق استراتيجية تشبه استراتيجية «الخطوة خطوة» لوزير الخارجية الأميركية الأسبق هنري كيسنجر، الذي نجح من خلالها في جر العرب إلى طاولة المفاوضات مع إسرائيل، لكن إذا كانت الأحزاب الإسلامية تتمتع بهذا النضج السياسي والعقل المتطور، وتمتلك القدرة على المناورة ووضع الخطط للعمل المستقبلي، فإنها جديرة حقا بخوض غمار السياسة، وإلا فالأجدى لها أن تبتعد عنها ولا تتحمل تبعاتها التي تكون عادة وخيمة وغير سليمة العواقب!