23 ديسمبر، 2024 6:24 ص

أضواء على كتاب اﻹجتهاد والتقليد(96)

أضواء على كتاب اﻹجتهاد والتقليد(96)

مسألة (32): العدالة المعتبرة في مرجع التقليد بل مطلقاً عبارة عن الملكة المانعة غالباً عن الوقوع في المعاصي، بما فيها فعل المحرمات وترك الواجبات ولا يضر اللمم بوجودها، وهو الإلمام بالذنب أحياناً قليلة وخاصة مع المبادرة إلى التوبة.
———————————————————
إن هذا التعريف للعدالة هو التعريف الشرعي وهو الأهم بطبيعة الحال.
وهناك تعاريف أخرى للعدالة يحسن عرضها لأحل فائدة طالب العلم.
فالعدالة من ناحية فلسفية: (أنها وضع الشيء في الموضع المناسب له) وهذا التعريف رائع وجميل ولكنه لا يمكن تطبيقه تطبيقا تاماً بسبب قصورالعقل في إدراك الواقعيات. بل يحتاج الأمر إلى عقل مطلق يدرك جميع الأشياء ويدرك مواضعها حتى يضع الأشياء في مواضعها المناسبة لها.
فالعقل البشري لا يمكن أن يحكم إلا إذا حصل له إدراك بدرجة اليقين أما في حال الظن أو الشك فإنه يقف متحيراً وهذا الأمر واضح ووجداني.
فإذا شك في الموضع المناسب لشيء ما ماذا يضع العقل؟
هل تتحقق العدالة؟ لا أكيدا, والأمر أكثر سوءاً بالنسبة للمشكوكات.
فالصعوبة في التعريف الفلسفي هي بسبب قصور العقل البشري، أو العقل المحدود في إدراك جميع الواقعيات.
وهناك تعريف آخر لدى المناطقة حيث عرّفوا العدالة: ( أنها موافقة العقل العملي ) والعقل العملي: هو إدراك ما ينبغي أن يُعمل، كقبح الظلم وحُسن العدل.
فالعقل يدرك بأن الظلم قبيح ويدرك أيضاً بأن العدل حسنٌ.
ولكن الصعوبة في هذا التعريف هو أن العقل العملي أيضاً يقف متحيراً أما الكثير من التصرفات لا يستطيع أن يدرك قبحها أو حُسنها لأن هذه التصرفات ليست واضحة وقطعية كوضوح قبح الظلم ووضوح حسن العدل.
وقد يدرك العقل القبح في فعل والحسن في فعل على نحو الاقتضاء وليس على نحو العلة التامة يعني أن هذا الفعل قبيح اقتضاءاً وليس قبيحا بالفعل فيكون قبيحاً بعد توفر الشرط وارتفاع المانع.
مثال ذلك الكذب، فإن العقل يدرك قبح الكذب اقتضاءاً ولكن وبالتالي يحتاج إلى وجود الشرط وارتفاع المانع لكي يكون قبيحاً بالفعل.
فمثلاً لو توقفت حياة إنسان على الكذب فإن الكذب هنا لا يكون قبيحاً بالفعل بل يكون حسناً.
وإذا تُرِك الكذب سوف يكون الفرد قد عمل قبيحاً لأنه تسبب في قتل الإنسان لأنه تكلم بالصدق.
وماذا يصنع العقل العملي في حال الشك والظن؟
يبقى متحيّراً حتى لو أدرك القبح أو الحسن فقد يشك بأنهما ذاتيان أم اقتضاءيان؟ بل احتاج الأمر إلى العقل المطلق وهو ما يعجز عنه العقل البشري .
طبعاً هذه كلمات السيد محمد الصدر ((قدس سره)) نقلتها بالمضمون.
وهنا اتضح أن الشريعة هي التي تستطيع تحديد العدالة وتحديد المتصف بها (العادل) لأن الشريعة فيها ما عجز العقل النظري والعقل العملي لأن الشريعة هي نابعة من العقل المطلق وهي تمثل بحق وضع الشيء في موضعه المناسب له. وهي تمثل ما وافق العملي أعني: العقل المطلق اللامتناهي.
فتعاليم الشريعة تمثل العدل الإلهي. لأن أحكام الشريعة هي مصداق واضح لوضع الشيء في موضعه المناسب له, فـخالق الأشياء وخالق مواضعها هو أولى بوضعها في ما يناسبها.
ومن هنا يتضح عجز وقصور العقل البشري في وضع قانون كامل شامل ومع ذلك فإن الإنسان كفوراً …
وهنا قبل أن اختم شرح هذه المسألة هناك فكرة رائعة ذكرها السيد محمد الصدر ((قدس سره)) في الجزء الأول من موسوعته المهدوية (الغيبة الصغرى) حيث قال:
إن المشكلة الاجتماعية هو عدم وجود الوعي والشعور بأهمية العدل والعدالة. وعلاج هذه المشكلة هو محاولة إيجاد هذا الوعي والشعور بأهمية العدل في نفوس الناس.
وقد قام السيد الشهيد محمد الصدر((قدس سره)) بهذه المحاولة المباركة وقد فتح الله على يده فتحاً مبيناً .
وهذا هو السر الكامن من وراء اهتمام السيد محمد الصدر بالفقه وتعاليم الشريعة لأنها تمثل العدل الإلهي الذي لابد أن يعيَّ الناس أهميته ولابد أن يكون شعورهم بأهمية العدل بحيث يكون حبيباً إلى قلوبهم ويضحوا من أجله بالغالي والنفيس.
ولقد رأينا بأم أعيننا، كيف ضحى الآلاف بأرواحهم من أجل هذا الوعي بأهمية العدل الذي بذر بذرته وأوجده السيد محمد الصدر((قدس)) بفضل محاولته المقدسة المباركة في إيجاد هذا الوعي. وهذا أعظم برنامج يجب أن يتبناه كل داعية وكل مصلح وكل فرد يشعر بمسؤوليته تجاه الله سبحانه وتعالى.
هل نحتاج العدالة فقط في مرجع التقليد؟
كلا، بل العدالة هي باب الخيرات لكل إنسان بل هي غاية الخلق (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ )
فالقاضي والشاهد وإمام الجماعة ….. الخ كلهم يحتاجون العدالة.
وللحديث بقية إذا بقيت الحياة…