17 نوفمبر، 2024 8:42 م
Search
Close this search box.

أضرحة العالم السُفلي – 4

أضرحة العالم السُفلي – 4

( إنّ أبناءَ جلدَتِكَ لَنْ يَبْرَحوا كَالحَشَراتِ المَسْمومَة ، لأنّ العَظَمَةَ فيكَ سَتزيدُ أبَدَاً في كُرْهِهمْ لَكْ )
( إلى عُزْلَتِكْ ، يا صَدِيقي ، إلى الأعالي حَيْثُ تَهبُّ رَصيناتُ الرياح ، فَإنّكَ لَمْ تُخْلَقَ لِتَكونَ صَيّادَاً لِلحَشَراتِ )
هكذا تكلم زارا …

***

يا أنتَ ، يا كُلّ هذا الوُجود المتسامي في مَراتع حُزني ، يا كُلّ حَنينٍ مَكْتومٍ يُرافق لَيال عُمْري ، يا لحَظاتِ صَمْتٍ تَحتوايها مَحاجر صَدري ، أحشُرها في ظلام الجُثث التي تَئن وَتشتكي ، بَيْنَ الأكياسِ المُعلقةِ بِجدران المُعتقلات الداكنة ، احتَفظُ بِها بَعيداً عَن مَراثي الوَجعِ التي تُحاصِرُني
يا أنتَ … يا كُلّ الدّفء المَفقود في ِقفارِ الوَطَنْ 
نَقتربُ مِنْ لَحظة الرَحيلِ وَلَمْ نَزَل نَشكُو الطُفولة ، نفَتَرِشُ مِلحَ البَحر ، رَغْمَ جِراحاتنا ، نَشرب نُخْبَ انتِصارِ الغِيلان ، المُبتَسمينَ لَيلَ نَهار ، وَالشَراب مُحَرمٌ الّا أنْ يَسمَحَ السُلطان …
إيـــــــــهٍ ياجَدّاه ،كَيفَ قَتلوكَ وَالشَّمْس في الغُروب ؟ وَكَيفَ سَالتِ الدّماءُ عَلى سجّادَتِكَ العَتيقةَ ؟ أوَلم تَعْرف الحَقيقة ؟ جَاوزتَ التسعينَ عاماً وتجهل ؟ أمْ كُنْتَ تُردّد انشُودةِ الحُزنِ القَديمة ؟
يا لمَنسيّين نَحن في أوهامِ القَدر ، يا عُمْقَ الخسارة ، يا حَسرة الأيّام ، حِين قَدّمنا الحَياةَ في القِمارِ ، وَسوَسَ لَنا المُعَذبونَ فَلعبنا القِمار ، لاعَبونا بأوراقٍ مُزيّفة ، يَعرفونَ الآسَ وَالبنتَ وَوالدٍ وَما وَلد ، وَنحَنُ نَهتِفُ مِنْ دَمِنا ( فَليَحيَا وَطَنْ ) ثمّ انقَضى الأمرُ وَجاءَتِ الفِتَن ، جَاءَ الصَريخ خَلفَ الصَريخ ، كلٌ يشكو مِنْ وَهَن ، غَزا الجّرادُ المُلَوثُ مَزارعَ الأرز ، لَمْ يُبقِ لَنا حَبّة لنَملةٍ تَستَغيث ، أوْ شَتلة لِشتاءٍ سَيَطُول … أمّا مَزارِع الغِيلانِ ، فَمَحرُوسة بإلههمُ الذي يَعبدون ، فَيا أيّها الكَافرونَ عَلمونا ما أنتُمْ عابدون . 
إنْ كانَ لكَ وَطَن يُعذّبك فَاعلَم إنّك أنتَ الخَطأ ، وإن كانَ في قَلبِكَ حَنينٌ لحبيبٍ ، فَانحَر قَلبَكَ وَلا تُخبر الحَبيب.
إلامَ هذا الحُزنُ يَتدفقُ في ليالي الصابئاتِ البائِسات ؟
أولَم تَكفينا لَوعَةِ السّحقِ وَأنين المُعلّقين بِأطرافِ الكَون ؟ يَستغيثون مِن عُمقِ مَوتهم تَحت بِلاطِ الفَجيعة ، يَرتَجِفونَ قَهْراً لأيّامِ الظَليمة … في لَحظةِ قَدَرٍ عابرة ، اتّقدت أيّامهم بأوساخِ أوهامِ الحُريّة ، فَهوى بهم طريق الحُب ، هَوى بهم نحو سراديب موحشة .
الله … يا وَحشة الإنسانِ في بَاحة الوَطن حِينَ يَقسو ، وَحينَ يَنزلقُ إلى أوكارِ المُسوخِ في عَوالمهم ، وَيستلذ المخدوعُ العذابَ ، يَستَوحشُ غَيبة السَجّان ، يَحنّ لِلسْعةِ السَوط ، وَفي كُلّ هذا ، لَمْ يَزل يَنزلقُ وَينزلق … حَتى تَخْتفي خَرائِطُ الوُجود أمامه ، وَلا يُعرف الموجودُ مِنَ العَدم ، وَأبخرة أنفاسِ المجَهولِ تَعتَريه ، تحَتَويه ، تحُسّسه بقيمَتِهِ الآدَمية ، وَبمَن يَكون ، فَيَرى اللهَ حِينها بِعينِ العَذاب ، وَسيَعرِفُ مُتأخراً ، الفارقَ بَينَ الحب والكره.
يَعتَرينا حُزنٌ لا يَشبَه حُزنَ البَشَر ، عيُوننا تَعبِت مِنَ البَوح ، نُفوسُنا في حَيرة ، مِن سَماءٍ نقشها الأكفانُ وَالتوابيت ، بَيننا طِفْلٌ يَتيم يَخشى الظلام ، كانَت أمّهُ وَلدَتُه في الظلام وأسمَته نور ، وَكَبُر في الظلام ، لكنّه ، إلى الآن يَخشى الظلام.
قالت أمّهُ : سَأقتله … حتى يَكفّ عَنِ النُواح … وَليرحَل إلى عالمٍ فيه نُور وَفراشات
اخذَتهُ إلى السرداب ، خَنقته هناك … لَمْ تَكُ إلّا لحَظات ، عادَ الصغيُر ، يَبكي وَيَنوح كَالحمَام
حَشرتهُ في التابوت ، طَعنتهُ في قَلبه … حَرّكَ الغِطاءَ ، خَرجَ إليها يَسعى
حَفرت حُفرةً وَوسدتهُ مَع العِظام ، وَأدَتهُ وَهالتِ التُراب … اهتَزتِ الأرضُ وَصدَرَ مِنَ القَبر إلى أمّهِ ، وَلم يسأل عن ذنبه 
قالَ لَها : أُمّاه … تَشبّع جَسَدي مِنَ المَوت … أمّاه ، نحن في عالم الأموات .

أحدث المقالات