18 ديسمبر، 2024 9:40 م

أصوات الصورة : امرأة سوداء في باريس للروائية سناء أبو شرار

أصوات الصورة : امرأة سوداء في باريس للروائية سناء أبو شرار

الخلية السردية الموقوتة يجسّدها عنوان الرواية فالشخصية المحورية هي اللون الأسود المتسيد في عنوان الرواية أما اللون الأبيض فهو معلن بالمكان (باريس) وهذا المكان هو الذي يتعامل بدونية مع اللون الأسود مهما تفوق على الأبيض اجتماعيا ومعرفيا. نقترض من كلام كامالي المرأة السوداء إلى زوجها تافارا الطبيب الأشهر في باريس ولندن، القول التالي : (في أعماقك رفض لونك الأسود، رغبت أن تكون أبيض البشرة، لم تستطيع أن تغير لون بشرتك، ولكنك غيرت كل ما يتعلق بكل جذورك. رفضت حتى زيارة قريتك، رفضتني لأنني كنت امرأة تقليدية سوداء، غيرت الأسماء .. لأنك أردت أن تكون أوروبيّا بكل التفاصيل، حتى نجاحك وتفوقك كان بجزء كبير منه محاولة للخروج من لونك الأسود/ 263 ) ما قالته الزوجة يعيه الزوج وهذا الوعي يعيدني إلى ص60 من الرواية فالتقط هذا الكلام من مفكرة تافارا(حياتي في باريس جعلتني لا أحتمل أن يجمعني ذلك البيت الصغير بكامالي مرة أخرى، هناك شيء ما بداخلي أنقطع، أريد أن أكون طبيباً مشهوراً، أريد أن أكون الأفضل، ولأجل تحقيق ذلك لابد أن أقطع جزءاً كبيراً من جذوري وأن أزرع جذوراً جديدة في باريس، عبر مظهري وتفوقي ودراستي ليس في الطب فقط بل في التاريخ والحضارة الفرنسية وأن أعيش حياة فرنسية لا علاقة لأفريقيا بها وأن أنسى جذوري في سبيل تحقيق أهدافي).. هذا الطموح للتماهي في غابة الرأسمال ممكن ومكلف لمن يغامر فيه
(*)
بداية الرواية : نهاية الاحداث. الزمن يكاد يتوقف. بين الزوج تافارا والزوجة كمالي التي مازالت وفيّة لزوجها ضمن وفائها للمكان الأم أفريقيا. تحرس نومه ويقظته المتقطعة منذ عرفت منه أن الداء الخبيث الذي ألم به، لا يحرك العقربين في ساعة السرد الروائي سوى تقنية المخطوطتين :
الدفتر الأسود الذي يفرّغ فيه ذاكرته الطبيب الجراح تافارا
الدفتر الأصفر : تسطرُ فيه معاناتها زوجته كامالي
الوضع استثنائي بينهما ،هو يخبرنا( لا أجرؤ على النظر لعينيها، أتحدث إليها محاولا إغماض عيناي بحجة التعب. ولكنني في الحقيقة لا أمتلك الجرأة على مبادلتها النظرات، وهي كذلك تتجنب أن تنظر بشكل مباشر إلي) لكن الزوجة لم تهمله فهي التي تعتني بزوجها رغم وجود ممرضة خاصة به ارسلتها المستشفى لتعتني به في بيته. النظر ملغى والكلام أيضا بينهما حاجزا اثلتهُ سنوات طموح الزوج للنأي عن زوجته والتعالي عليها. الذي لم ينقطع، هو حركية الذاكرة لديه (الذكريات لا تفارقني في أوقات غفوتي أو صحوتي تختلط الصور والكلمات والأحداث مع دقائق النوم الطويلة أو القصيرة) إذن أثناء مرضه تحررت ذاكرته التي قمعها كل هذه السنوات . الذاكرة التي شكمها لجام طموحاته الفرنسية. لا كلام بينهما ولا تبادل النظر وكذلك تحريم الملامسة. الزوجة تجلس بجانبه صامتة وأحيانا باكية وهي تراه يتألم من المرض الخبيث وحين تحاول أن تمد يدها لتمسك يده، قلبها يتمرد عليها ويزجرُ يدها :(فتضع يدها على كتفي بحركة متعاطفة مع ألمي ولكنها لا تمسك يدي) أليس الجزء يمثل الكل؟ كيف تعانق كفها كفه؟ (وهي تعلم وأنا أعلم بأن ذلك الرابط العاطفي قد مات منذ سنوات أو أنني قطعته منذ سنوات) انقطاع الرابط العاطفي نشّط رابط الخوف والقلق بينهما بعد المجزرة التي جرت في قريتهما الأفريقية أثناء الحرب الأهلية واصبح تا فارا مطلوبا عشائريا وأهل المقتولين سيطاردونه في باريس وزوجته ُ تدرك حجم الخطر(أصبحت مرتبطة به أكثر من السابق، ليس بدافع الحب بل بدافع الخوف، وهو كذلك أصبح مرتبطا بي ويسأل عني عبر الهاتف أكثر من السابق، وأعرف أن ذلك ليس بدافع الحب، بل أيضا لأننا معاً في مواجهة هذا القلق والخوف الذي يتلاشى أو يزداد حسب الظروف/69 )
(*)

الأبيض والأسود : العنصرية
الأسود والأسود : صراع على السلطة
(*)
شبكة السرد الروائي نسيجها منظومة من المؤثرات المتبادلة
المؤثرات لدى شخصية كا مالي هي :
صوت تافارا الأب أثناء الحكي
البحيرة
المطر
الكتب
الصوّر
الشوق
الحلويات
الكلام
الظلام
ننتقل من الفهرسة ونصغي للزوجة كامالي
من خلال ثلاثة مؤثرات :
الصوت
البحيرة
الصورة
(1)
تخبرنا عن المؤثر الصوتي لزوجها حين يقرأ لولديه
(1) (حين يقرأ لهما تلك القصص، يصبح وجهّا لإنسان يسافر بعيداً كأنه يحمل حقائبه في سفينة كبيرة ويغادر مع أمواج البحر، يتحول بيتنا الدافئ مع نور الفانوس الخافت ومع صوته وهو يقرأ تلك القصص إلى سفينة كبيرة ترحل بعيداً عبر الأفق، تأخذنا معها ونغيب خلف البحر بلا عودة ولا ذكرى، تختفي ذاكرتنا وأسماؤنا ولا يبقى سوى صوت السفينة التي ترحل بنا بعيدا بعيدا../ 29 ) صوت تافارا انتج شاشة ً سينمية ً وحدها زوجته من رأت هذه الصورة السردية الملونة لما سوف يحل بالعائلة. وقراءتي الثانية رأت المعروض في هذه الشاشة الخلية الموقوتة التي يتم السرد تشظيتها على سعة صفحات الرواية
(2)
حين يضرب الأب ابنته الطالبة كامالي ليرغمها على الزواج تخرج من البيت، لا تلوذ بأي بيت من البيوت، تسعى نحو الماء الهادئ تذرف حزنها فيه (خرجت راكضة من البيوت باتجاه البحيرة، جلست قرب الشاطئ أبكي بصمت/19 ) الضارة النافعة هنا هي : لولا قسوة الأب وفرار كامالي من البيت لما تم التعارف بينها وبين تافارا زميلها في المدرسة
فهو سمع بكاءً وهو في الطريق وقاده البكاء للباكية فتشكو له حالها ورفضها للزواج فهي تراه مؤثرا سالبا على وتيرة حياتها المنسجمة فالزواج حتى (هذه البحيرة لن يكون جمالها كالسابق سوف تبدو مقيدة بشيء ما مثل روحي../21 ) أن هذه الوحدة السردية وظيفتها مخفف صدمة لدى القارئ بخصوص مستقبل العلاقة الزوجية بين تافارا وكامالي
(*)
لما يبشرّها زوجها بحصوله على منحة دراسة الطب في فرنسا. لم تباركه بهذا الفوز. وستخبرنا (تركت كل شيء الأولاد والبيت وخرجت حافية القدمين لأذهب لصديقتي الوحيدة، لأذهب للبحيرة، جلست بجوار صديقتي أبكي بصمت، وأنظر إلى كل ما هو حولي كأنني أرى الحياة لأول مرة، أو كأنني سأغادر حياتي وأنني لن أعود، بكيت كثيراً إلى أن غربت الشمس/30 ) البحيرة مرآة ومن خلال فعل التمري رأت المؤقت الدائم الذي باغت حياتها
وبشهادتها (منذ تلك الليلة بدأت بالتعرف على شيء جديد اسمه غربة الروح)
(*)
حين يتأرج شوق الزوجة كامالي نحو زوجها تافارا، تنصحها والدته (هيا أذهبي للبحيرة وأقضي بعض الوقت هناك، سوف أعتني بالأولاد/ 40 ) هل سترى الزوجة في مرآة البحيرة وتناجيه وتنتعش روحيهما؟ وكالعادة تركض كمالي نحو صديقتها ومرآتها البحيرة وتخبرنا(أجلس على حافتها، أبكي أحيانا وأبتسم أحيانا أخرى وأنسى تافارا بأحيان ٍ كثيرة أيضاً) بمرور الايام تنأى صورة زوجها والنأي يجعل شوقها يبرأ. وهكذا تكون الوظيفة السردية للبحيرة
تقطير الحدس في ذاكرة الزوجة لما يفكر به الزوج هناك للتنصل عنها.
(*)
البحيرة تنتقل من الخاص بالزوجة كامالي إلى العام وتغدو البحيرة بمثابة محطة تبث الأسى في روحيّ ولديها حيث (ينتظر الأبناء ساعة عودة الآباء بقرب البحيرة أو بجانب شجرة ما ثم يحتضنونه ويدخلون البيت / 48 )
(*)
حماتها تتجنب شوقها لولدها تجالس الناس تساعد النساء في أمورهن تحكي لأحفادها الحكايات . أما كمالي فتضيق ذرعا بكل شيء وتلوذ (قرب شاطئ البحيرة، وأتذكر حين كنت مجرد فتاة لا توجد لديها مسؤوليات ولا واجبات، فقط فتاة خفيفة تحب الحياة وتستيقظ للذهاب للمدرسة أو اللعب مع صديقاتها، مجرد فتاة في بقعة ما من الأرض دون أحلام ولا آمال، دون ألم ولا ذكريات ولا شوق، تركض مع الفراشات، تبني بيوتا من الطين والرمال، وأدرك الآن بأنها كانت أجمل أيام حياتي، وأنها كانت أجمل حتى من تلك السنة السعيدة التي قضيتها مع تافارا أنا وهو في بيتنا الزوجي/ 49 )
أن هذا التراسل المرآوي مع البحيرة يجسّد ضنك اللحظة الراهنة التي تكابدها الزوجة المهجورة كامالي التي صارت أمنيتها الوحيدة ( لوكان بيدي استرجاع كل تلك الأيام بيدي لقبضت عليها دون أن أتركها تتسلل من بين أصابعي، لبقيت تلك الفتاة إلى الأبد بلا زوج ولا أولاد) لو سألنا البحيرة : مَن هي كامالي؟ لأجابتنا البحيرة (روح تتجول بين الأشجار، وجسد لا يغادر شاطئ هذه البحيرة، ونفس لا ترى من الوجود صفحة الماء الرقراق والتي تنعكس عليها صورة الأشجار التي تحركها نسمات الهواء) إذن هذه المرأة السوداء في تماهيات ثرة مع كينونات الطبيعة. ولم يجردها من هذا التماهي سوى العقل البارد وأنانية الطموح لدى زوجها، وما تقوله قراءتي ليس من اختراعها بل مقتبس من مخطوطة تافارا( أنني رجل على درجة كبيرة من الأنانية، وأنني في أغلب علاقاتي لا أرى سوى مصلحتي، ولم أكن أعتبر ذلك عيباً بي، فالطموح يستدعي أن يرى الإنسان مصلحته فوق كل اعتبار/ 70 )
تواصل قراءتي الإصغاء لكلام كمالي التي تعي جيدا أن الأشياء التي تحبها لم يصيبها أي خلل :
(1)الأشجار من حولي بقيت كما هي منذ كنت تلك الفتاة
(2) البحيرة بقيت كما هي
(3)السماء كما هي
(4) النجوم
(5) كل شيء حولي لم يتغير
المتغير الباهظ هو صدمة التلقي لدى كامالي الشفيفة الروح. الصدمة التي بثت منظورا موجعا صوب كامالي وشطرت روحها نصفين نقيضين :
كنت أرى العالم من حولي بنظرات الفتاة السعيدة كامالي
الآن أراها بعيون الزوجة شبه المهجورة والأم التي تربي أولادها. فأرى الغيوم تغطي السماء وأرى القمر يتوارى بخجل خلف تلك الغيوم / 50
(*)
لم تعد البحيرة خير جليس بالنسبة لها . بل صارت البحيرة مرآة ً تطل منها الطفلة كامالي (لم أعد أذهب إلى البحيرة، فذهابي كان يبعث الحزن في نفسي لأنه دائما ممتزجا بذكرياتي حين كنت طفلة ً وفتاة ً سعيدة ً) يبدو أن مرآة البحيرة أصيبت بمرض( تثبيتات السعادة ) الذي شخصه الفيلسوف غاستون باشالار في كتابهِ (شعرية المكان)..فانتصرت كامالي وحررت نفسها من هذه المرآة لتعيش يومها وغدها لأولادها وحين تحل كامالي في باريس بعد حرب أهلية ابادت أهلها وأهالي القرية، تأخذها زميلتها التركية في نزهة للتعرف على معالم باريس ستصادفها بحيرة من طراز حضاري ستبتهج كامالي سترى البحيرة الجديدة بعينين جديدتين : (هذه البحيرة تشبه البحيرة التي في قريتي، أريد أن نجلس هنا عند حافة البحيرة/ 150 ) فتقترح زميلتها التركية نيفين، جولة في البحيرة من خلال قارب صغير. في هذه اللحظة المائية الجديدة تحاول كامالي أن تعيشها كليا لتغتسل روحها وذاكرتها بكل حيوية المائي الجديد وحين تذكرّها نيفين بوعدها للحديث عن سيرتها،ترد كمالي عليها ( ليس الآن يا نيفين، لا أريد أن أتذكر أشياء حزينة الآن، عندما أكون حزينة سوف أخبرك بكل شيء. الآن أنا سعيدة ولا أريد أن أتذكر أي شيء/ 151) إذن هذه المرأة تصون اشراقات روحها نكاية بكل أوجاعها وتبذل جهدا للمساهمة في الحياة اليومية
(3)
تدنو قراءتي نحو اعماق شخصية كامالي من خلال مؤثرية نص الصورة، فهي تريد أن تكتشف زوجها وهو في باريس من خلال كتاب سياحي عن باريس، كأنها تعكس القول المأثور وتجعله كالتالي : المكين بالمكان. تدخل كا مالي بعينيها وقلبها وذاكرتها في نص الصورة المتنوعة ترى مدارس ضخمة ومكتبات حدائق بنايات سيارات .البشر في بياض الحليب نساء جميلات بملابس شبه عارية صور يتساقط المطر فيها . صور شمسها مشرقة . أصناف الأطعمة تغلق الكتاب فقد تعبت من التجوال الروحي في باريس، لا.. أعني نبذتها مسافة ٌ متعالية وبكل صلافة خاطبتها : (تا فارا لن يعود، فكيف سيعود لقرية لا يوجد فيها سوى بيوت من القش والخشب. ومدرسة قديمة لا يوجد فيها سوى ثلاثة فصول../57 ) وكلام المسافة المتعالية حين تصفحت الكتاب أمه أعلنت بأسى (الآن أفهم لماذا لا يعود، مَن يعيش بمكان مثل هذا لن يفكر بالعودة).. وتافارا يكتب ما يشابه هذا الكلام في دفتره الأسود ( لا أشعر بأي حاجة للعودة إلى هناك) ثم يضيف وكأن باريس لم تشحذ أحاسيسه الزوجية تجاه زوجته كامالي (في بلدي انتظار الزوجة لزوجها ولو لسنوات شيء طبيعي ويبقى الاخلاص عملا أساسيا في العلاقة/ 69 )!! من ضفة ثانية : هو يعيش ببشرة بيضاء اسمها النجاح والتفوق فهو الطبيب الجراح الأشهر في باريس ولندن، لكنه حين يكون وحيدا فهو واقف في المنزلة بين المنزلتين (أقفُ بين الذكرى والنسيان/ 149) وبشهادته أيضا (أسير بشوارع باريس وحيداً، أمشي كرجل أفريقي أسود اللون،أرى نظرات الناس التي لا ترحب بهذا الرجل الأسود) على الجهة الاخرى تقف كامالي بذاكرتها المتجذرة في تلك القرية المنسية في أفريقيا، وحين يحاول زوجها تافارا غوايتها بقوله واصفا باريس: أنت تسكنين الآن في أجمل مدينة في العالم، لم تقل لسواه ذاتها المهشمة ( أجل هي مدينة جميلة ولكنني لا أمتلك القدرة بعد على تذوق جمالها، الحزن بداخلي يجعلني أرى العالم ضيقاً حزيناً وشحيحاً بالحب والأمل. ذكرى أولادي تجعلني أشعرُ بأنه لا وجود حقيقيا لي وأنني مجرد طيف يتجول بهذا البيت ويمشي بتلك الشوارع/ 134 ) هنا القلب وأي قلب أنه قلب الأم وهناك اقصد تافارا لا يملك غير العقل والمنطق البارد في التعامل وهدوء الطبيب الجراح أثناء إجراء العمليات للمرضى
(*)
حين تتجول كامالي في شارع الرسامين ستكون هناك نقلة نوعية لديها في فمهم ذاتها من خلال تحاورها مع الرسام التشكيلي. أن أسلوب التعالي عليها من قبل زوجها تافارا جعلها تقول عن نفسها
(لم أعد أرى نفسي بأنني امرأة جذابة لأطلب من أحدهم أن يرسمني/ 187) من خلال تحاورهما هو الجمال والشيخوخة يستوقفها الفنان وهو يخاطبها(الفن يبحث عن الجمال بكل شيء، بل الفن هو الذي يجد الجمال في شيء يعتقد الآخرون ليس جميلاً) وحين يستمر تحاورهما تسأله : (لماذا يستطيع الفنان اكتشاف ذلك الشيء المجهول للشخص نفسه؟) من خلال جواب الرسام ستفهم أن الرؤية ليست واحدة، هناك من يغوص بأعماق الوجود والموجود وهنا آلاف من الناس من يكتفون بالبعد الواحد، الرسام من الغواصين فهو ( لا ينظر إلى الشخص أو أي شيء بشكل مجرد، بل يبحث عن شيء أبعد من المجسم وأبعد من شكل الوجه أو الجسد، حين يرسم هو بحالة استكشاف للشيء أو للشخص الذي يرسمه/188 ) هنا التقاطع بين المنظور الجمالي الملوّن وبين العقل البارد الأناني لدى زوج كامالي. الذي لايرى في مرايا الوجود سوى نفسه. فالرسام يهبها صورة ً قبل أن يرسمها فهو يشبهها بزهرة نحيلة قابعة بالظل وحين يرسمها على الورق تتكشف أمامها ذاتها الحقيقية ومن جراء هذه الكشوفات تعطيه مبلغا أكثر من الذي طلبه منها لأن الرسام حرضها لتتحرر من منطقة الظل
(*)
مدام كوليت وحدها عثرت على ضالتها المنشودة في شخصية كا مالي في تلك الحفلة حين تأخذها إلى جناح خاص في قصرها وتجعل وسط غابات أفريقيا وطبولها وتعازيمها السحرية الملوّنة بالأصباغ وها هي كامالي تبشرنا (أنظرُ باندهاش لكل تلك اللوحات القادمة من أفريقيا، نساء يشبهنني ويشبهن أمي وحماتي، وصور لبعض المشعوذين، تماثيل خشبية سوداء وبنية اللون لحيوانات ولأشخاص أفارقة . الأقنعة الكبيرة الملونة المعلقة على الحائط.. الحلي الأفريقية الخشبية الملونة أو السوداء .. أساور وقلائد وخواتم/162 ) كل هذه الموتيفات نشطت الهوية الأفريقية في ذاكرة كامالي وبثت روائح أفريقية مسكونة بها روح هذه الزوجة الافريقية التي لا علامة أفريقية تعاينها في بيتها الذي تعيشه فيه وبسبب ذلك( وضعت يدي على رأسي وشعرت بالدوار وخشيت ان أقع على الأرض فمسكتني من يدي لأجلس على كرسي قريب مني)
وحتى تستعيد كامالي بعضا من وطنها ولو بالاستعارة، تمسك مدام كوليت لوحة جميلة مرسوم عليها فتاة أفريقية تحمل سلة من القش وتخاطب كامالي (.. هذه هدية لك، أعتقد أنك كنت جميلة مثل هذه الفتاة) ستكون هذه اللوحة تعويذة كامالي ونافذتها تطل منها فتسمع طبول أفريقيا وروائح الغابة والصحراء ومغارة الكهوف. ثم ستعيد مدام كوليت لسيرتها الأولى من الجمال الأفريقي البهي حين تجعلها امرأة متحررة اقتصادية ومسؤولة عن المتجر الافريقي العائد لمدام كوليت وهكذا تستعيد كامالي الفتاة التي كانت حين تتكلم يكون صوتها مبلولا بصوت امواج المياه والنسمات الباردة ولمعان القمر في عتمة السماء
*سناء أبو شرار/ امرأة سوداء في باريس/ دار شمس للنشر والإعلام/ ط2/ 2022