18 ديسمبر، 2024 7:49 م

أصالة المعنى وجوهرانيته

أصالة المعنى وجوهرانيته

المعنى: هو الحادث الأصيل الأول في الوجود هو قبل الكلمة واسبق من اللفظ وأكثر قدما من الدلالة. هو حادث وممكن في قبالة مسببه، بل هو منتجه الأول، إذ لا أول يكون قبله في (انتتاج المعنى). لكنه جوهر الحدوث وقلب الإنتاج ومصدر الكون وأصالة الوجود، وفي النهاية يرجع المعنى بسيطا بالحدوث ممكنا بالوجود إلى حيث مسببه.

التراكم الحاصل في المعاني واقصد هنا بالمعاني “الدلالات التي يشملها المعنى (كل المعاني) بمختلف حيثياتها أو أدوارها التي تؤديها وما يشملها اللفظ أيضا”. لن احصر معنى في حيز القول المؤدي له، بل أنا اقصد كل ما قيل بل كل الكلمات والألفاظ وما تؤديها من وظيفة لمصداق المعنى أو لتقريبه أو لمجازيته. المطلق الوجودي هنا بكل ما يعنيه الأطلاق من مفاهيم ذات معاني وألفاظ دالة على المعنى.
ستجد هنا تركيبة جذرية أصيلة وهي التي أعنيها بـ “المعنى” المعنى هو أصل الاشتقاقات كلها، الحاجة إلى المعنى هي ما أدت إلى الحاجة إلى التفسير والى التعبير والى التأويل. سير البشرية منذ الأزل كان بالأصل هو البحث عن جذرانية المعنى، لذلك وجدت أشباه معاني كانت تدل في شيء منها إلى المعنى الأصل لكنها لم تكن هي عينه. حتى السلسة التطورية للإنسان في عبادة الاله المتعددة والبحث عن التسميات المختلفة لتلك الإلهة هي كانت نتيجة الحاجة لكن الحاجة إلى ماذا؟ الحاجة إلى المعنى الذي هي متعطشة له. كل ذلك ما كان إلا محاولة التشبث بادراك ذلك المعنى. كل ما خرج من تطور كان يفسر على أسس اختلفت في انطلاقاتها ومشاربها لأصل الوجود وأزليته أو حدوثه أو صناعته كما شئت عبر، وفقا لأي نظرية ممكن أن تقرأها أو تتبناها ماهي إلا امتدادات فرعية لمعنى جوهري انطلقت منه كل تلك النظريات.
انه المعنى الأصل الذي تراكمت من حوله “أبنائه من الأفكار والفلسفات المختلفة” وأنتج منه اللفظ والقراءات والنظريات، التي أسست بعدا فلسفيا وفيزيائيا لكل ما موجود هنا، كان ذلك من أصل جذر المعنى المغيب باللفظ والأثبات، الحاضر بالوجدان والتفكير دون وعي له.
كل الامتدادات التي طورت حقل البشرية كانت مستندة على جذر غير مقروء أو مسموع، لكنه نبضي فعال في الذاكرة خارج عن اللفظ “داخل في الوجدان” متأصل في العقل بل هو نواة ذلك العقل الذي وصل إلى ما وصل اليه اليوم من تطور وإمكانيات.
انه المعنى الذي أفاض بلا لفظ على الألفاظ بلا دلالة على كل الدلالات بلا حس على كل الماديات بلا اشتقاق على كل الاشتقاقات. المعنى هو الذي أنتج لهيغل ولكانط ولنتشه ولباسكال ول ديكارت ولديدرو لماركس الديالكتيك ولبروليتاريا والمادة وللتوحيدين الروح والجسد كلهم كانوا يدورون في فضاء ذلك المعنى وانبثقت منه التراكمية العقلية والكلامية والميتافيزيقية فشكلت طبقات تراكمية من الألفاظ والمعاني الأخرى جذرانيتها في المعنى الأصيل.
المعنى ليس محصور في أزمة زمن ولا في حدود عقل واحد ولا في جهة دون أخرى انه لغة الأبدية التي تراكمت حولها كل القراءات وخرجت منها كل الألفاظ.
اللامتناهية “الوجودية” في المعنى والذي ولدت كل هذه التجارب وبنت هذه الطبقات الأحفورية من الكلام والتنظير والمفاهيم المادية منها، والروحية القطعية منها، والظنية. المعنى أب لكل هؤلاء. هو الذي أنتج المعرفة وأنتج اللغة وأنتج التفاهم وأنتج الفلسفة والتفكير بل هو الملازم الوحيد للعقل بل هو أقدم رتبة حتى من العقل فلو لم يكن معنى لم يكن هناك دور للعقل. هو ملازم للعقل في تيهه وهو المرشد له في تساؤلاته. هو ليس معان متعددة بل هو واحد متفرد حسي وجداني لا يمكن أن ينذكر بوصف أو نقف عليه بدلالة، نحن نستدل على أذرعه التي خرجت منه نستدل على مجمل اللغة من الجذر الذي فاض على الوجود ((الدارونية وتجاربها، والتصميم الذكي استدلالاته، وعلى العشوائية والوثوقية والقدرية كل ما استنتجه العقل)).
نحن الأن في عصر تراكمية كل المعاني، تشابكت الآراء والنظريات فيه، تطورت وأخذت تتمحور كل صنف في حيزه ويعمل وفقا لمدلولاته القطعية. ساترك الأمر هكذا يسير تنازليا ابتدائيا من الأن وحتى الأنسان الأول أو البدائية الأولى أو المشاعية أو ما شئت عبر لا يهم. فالنتيجة عندي ستكون واحدة سواء كانت هيغيلة أو ماركسية أو كانطية أو دارونية أو توحيدية. الطبقات التي تكونت نتجة المعنى الأصيل الذي خرجت منه كل تلك النظريات، تعني لي شيئا واحدا أن كل شيء بات في “قبضة الأصل الذي انطلقت منه كل الألفاظ والأفكار والإيمان والإلحاد”. إن المعنى على درجة عالية من اللاحدودية، إلى درجة انه يسمح أن تتشكل من حوله كل المتناقضات الفكرية واللغوية واللفظية والفلسفية والإنتاجية فهو ملهم يتجلى إلى كل المعاني المجازية التي واكبت سير البشرية وأقوال الفلاسفة ونظرياتهم وتجليات الوجود وتشعباته.
المعنى الأصيل أو الجوهر النقي للمعنى، لا يحتوي شكلا محددا في اللفظ ولا يحتوي على دلالة معينة ولا إلى مضمون محدد، بل هو إطلاقة جوهرية.
ومضة وجود، فأفاضت اللغة وأفاضت التعبير وأفاضت الحاجة وأفاضت الدلالة وأفاضت التفكير وأفاضت الابتكار وأفاضت النظريات وأفاضت التفسيرات وإفاضة المنطق والكلام والفيزياء والعلوم وأفاضت الأديان بمختلقها. حتى الإلحاد هو من ذلك المعنى، إذ انه جزء من الفيوضات التي خرجت من جذرية الجوهر المعنوي الأصيل. المعنى يحتضن ((الديالكتيك نفسه، المعنى يحتضن التوماس الأفلاطوني، والمعنى نفسه يحتضن الإرادة ورغبة الاعتراف لدى هيغل, المعنى يحتضن الماركسية ويحتضن الملحدين ويحتضن التوحيديين, المعنى هو الذي اشتق كانط كل ما امتلك من رؤى , والمعنى نفسه هو الذي انتج لفولتير الحكم, وهو نفسه الذي مكن دولباخ من كل هذا رغم انه شتته في النهاية)) , وشتت الكثيرين مثله. لان في “لامحدودية جوهر المعنى” ((حدود عندما تصل إلى عمق معين فيها تصطدم لديك المتناقضات والإشكالات الوجودية أو الوهمية وحيث أنت ليس كالمعنى الأصيل الجوهري لذلك من المؤكد اجتماع الأضداد في معانيك المجازية واللفظية وطرق المقاربات التي تحصل عليها من التفكير الذي هو ناتج من أصل ذلك المعنى الأحفوري سوف لن تتحملها تعيش التيه والتساؤل وكأنك ترجع إلى مبغاك الأول في الانطلاق! وهذا حال الكثير من الفلاسفة وليس دولباخ على نحو الحصر)).
الطبقات الجيولوجية للمعنى ماهي إلى مجاز المعنى الأصيل، كل ما خرج من تأسيس وجودي ما هو إلى فيوضات فرعية عن ذلك المعنى.
العلم والتكنلوجيا والفن والمسرح والأدب والمجتمع والحضارات وكل شيء ما هو إلا نتاج المعنى.
المعنى ليس جمع وليس مفرد المعنى ليس كلمة وليس فعل المعنى ليس شكل وليس لفظ المعنى ليس “إله وليس الله” المعنى جوهر أصيل تنازلت كل الحروف عن توصيفه أو شرحه لأنه بلا معنى واصف له. لكنه السر الذي أنتج كل ما ترى على امتداد البشرية وحتى نهاية الإنسان الأخير.
لا أتكلم هنا عن المعنى بوصفه إله، أنا أتكلم عن وجودية وحادثيه المعنى في الميتافيزيق وليس الوظيفة الوجودية. فالأمر مختلف من حيث الحدوث ومن حيث الوظيفة التي قام بها المعنى في الوجود، فهو هنا لا متناه ضمن حدود الإمكان، الجوهرية للمعنى هي التي تقودنا إلى الخالق كونها بكل تلك الإطلاقات، لكنها في قبالة الأطلاق السرمدي مفتقرة وناقصة الكمال، حيث نستدل على معلوليتها من خلال رجوعها إلى أين؟ فتلك نتيجة جميلة أنها ترجع إلى لامتناه أوسع منها أكثر سرمدية وإطلاق. لكنها الصادر الأول. فلابد من منتج أزلي بحدود ((القلة المفردة واللا عددية لذلك المعنى)) ترابط ممكن أزلي بينه وبين خالق، انفصل بالإرادة وشكل الوجود. ومنه تشكل ما بعده. أفاض المعنى على كل شيء، تلك الحيوات المتعددة وتلك الأفكار والتطور والنضج. المسؤولية هنا هي مسؤولية المعنى وإرادة المعنى وتصرف المعنى وتأويلات المعنى وصراع المعنى ومادية المعنى والطبيعة الكونية لكل شيء هي من أصل المعنى الذي خرج منه كل شيء وتأسس على فيضه كل شيء فهو الحادث الوجودي الأول وهو الجامع الأخير لكل ما نتج منه.

بل حتى الوحي في الدلالات الدينينة ما هو إلا أحد أذرع المعنى. والكتب السماوية وماوصلت اليه الديانات التوحيدية بجمملها هي اذرع المعنى، التوراة اذرع المعنى، الانجيل اذرع المعنى، القران والسنة احد اذرع المعنى المجازية النسبية.لم يكن فيها كل شيء بل هو شيء مما افاضه المعنى من كلياته العميقة.لذلك لامعنى حقيقي بل ما نتوصل اليه او ما يصلنا هو مجازات واشكال وصور متعددة للمعنى الأصل، للمعنى الجوهر فحسب.

الطبقات:
لكل منطلق أو فرع من المعنى الأصيل الجوهري الذي تم من خلاله الوجود، أصحبت هناك طبقات جيولوجية من المعاني لكنها رغم عمقها فهي مجازية في قبالة الأصل (المعنى) لأنها ليست هو، بل أحد أشكاله، نظرياتها مجازية أفعالها نسبية نتائجها لا مطلقة حتى الكيمياء والفيزياء…الخ وكل هذا الكون بكل ما فيه ما هو إلا مجاز صوري للجوهر الأصيل الذي انطلقت منه هذه الإنجازات.
نحن أمام تراكم فرعي كبير للمعنى وليس أمامنا إلى أن نتيقن أن الشمولية الجامعة لهذه النظريات ولهذه الإشكاليات ماهي إلا فرضيات دون الواقع، بل نسبية الدلالة، وان كانت اليوم مطلقة. لكنها فرعية عن أصل جذري جوهري. كل تلك الأفكار والاختراعات بل ما أعنيه هنا بكل شيء هو وليد المعنى الأصيل الجوهري. هنا في حيز المعنى المجازي تبتعد كل الدلالات والأفكار والجدليات وتتصارع ويقتل بعضها بعضا وتتغالب فكريا في اغلب الأحيان.
إنها متناقضة لا يمكن جمعها ومن المستحيل جمع الأضداد مثل الأيمان والإلحاد مثلا، أو مثل المادية والتوحيدية.
إلا ما ندر وفي سياقات اغلبها رمزي. لكنها تجتمع في صوت ذلك المعنى الذي خرجت منه. في لحظة انعتاق زمني ستتوحد التناقضات وكل شيء في تلك اللحظة المفصلية في عالم ما بعد المجاز. انه عالم الصمت عالم اندماج وتوحد الفروع بالأصل عالم رجوع كل اللغة واللفظ والفكر والتناقض والتضاد والاختراع والإبداع … الخ إلى أصله إلى جوهره، وهو المعنى الكبير الجوهر الأصيل الذي سيحتضن كل شيء مثلما خرج منه سيرجع اليه، ولا عقاب على النظريات أو الأفكار أو الطروحات أو التبني لأنها فروع ذلك المعنى التي رجعت متحدة مع الأصل.
نحن أمام انتقاله مفصلية في توحيد رؤية البشرية أمام ميثولوجيا جديدة أو رومنطيقية حديثة، لكنها مختلفة عن صياغة ما نعرفه، إننا أمام توحيد المتناقضات وتوحيد الأفعال وأشراك الأضداد ودمج الفكر بالفكر والعقل بالعقل والايدلوجيا بالايدلوجيا المقابلة. إنها لحظة تحرر الاختلافات وتفسير التطور والتحول إنها لحظة المعنى، التي سيذوب بها كل ذلك وتمتزج معها الفروع لترجع إلى أصالتها البسيطة. لا عقاب في المعنى لا إثر مترتب بتوبيخ المستخدمين لفروع المعنى وتفويضاته لأنه هو من أصدرها.
تجليات المعنى:
كما أشرت سابقا فان الوجود هو من أصل المعنى وكل ما نتج من الوجود هو كان انبثاقه فرعية لذلك المعنى الأصيل الجوهري، أما تجليات المعنى فهي تأخذ مسارين.
الأول: مسارمن سنخية ذلك المعنى واحد أذرعه وفروعه اللفظية والكلامية والسجالة والعقلية وهو مسار العقل
الثاني: مسار الفعل لتجليات ذلك المعنى وفروعه وما خرج منه، هنا وقع (الشر والخير) في مسار الفعل لأنه احتمل الإرادة والتطبيق، ومنه حصلت الكوارث ومنه اشتقت العقلانية. مسار الفعل في الخير وإرجاعه إلى حيث الجوهر الأصيل في المعنى، أما مسار الشر لدى البشرية فهو المسخ المشوه لجوهرانية ذلك المعنى. الإرادة الأنانية المتعلقة بالمعاني هي من انتتجت الشر ووظفت أدوات المعاني الأخرى لصالحها فصممت مسخا للمعاني وارتكزت عليها في الإنتاج لكن الحقيقة أنها ليست من المعنى الجوهري في شيء، هي معاني مشوهة من تصميم الإرادة الأنانية للبشر من خلال توظيف مدلولات فرعية المعنى، لكن بعد مسخها وتحويلها إلى أدوات للصراع.
تجليات المعنى الجوهري الأصيل والتي تأخذ المساريين التي سبق ذكرهن وبكل ما تحويه من فروع وانشطارات، تتمحور في ((لعقلانية في اللفظ والعقل أو في الفعل والإرادة فهي نهاية المطاف هي أخر عقلانية لصور ذلك المعنى، هي الفعل الأخير والإرادة الأخيرة لمجمل الوجود وكينونته، المسار النهائي للمعنى في طريقه بهذا الوجود. لكن بعد أن يصل المسارين إلى ذروتهما العقلية والفعلية في الصراع والاشتباك بالمفاهيم، وتغالب الإرادات الجمعية لدى البشرية، وحتى نهاية ذلك المطاف والطواف حول كعبة المعنى الجوهري، وحول مسوخه المتشكلة، ستولد العقلانية النهائية الأصيلة. عندها سينتهي كل شيء وقد تكون هذه العقلانية النهائية هي نهاية كل شيء أو لا يوجد عندها شيء!