حوار مع جوليان غرين
اجريَّ هذا الحوار مع الفيلسوف الامريكي الاصل جوليان غرين قبل وفاته عام 1998، الذي أقيم في فرنسا وعاش فيها بقية حياته وكتب بلغتها. ارتبط اسمه بأضخم عمل روائي (نجوم الجنوب، 903 صفحة، 1988) وأوسع مذكرات (ثلاثة اجزاء، 3000 صفحة، 1982- 1993)، نترجم هنا بعض ابرز ما جاء فيه:
س/ انت امريكي المولد والجنسية، فلماذا تقيم في باريس؟
ج/ منذ اكثر من خمسين عاماً لم اذهب الى امريكا، ولم يعد هناك حاجة بيّ للذهاب اليها. فجميع من كانوا اصدقائي هناك ماتوا، ولم يبق من امريكا شيء سوى القذارة والروائح الكريهة. امريكا هي الروائح الكريهة في نظري، انني اتبرأ من امريكا فهي ليست بلدي، لم تعد كذلك.
س/ وهل فرنسا هي الوطن البديل؟
ج/ ابداً، لا امريكا ولا فرنسا. انا انسان بلا وطن، انا اشمئز من الانتماء الى هذا العالم والى هذه البشرية، واشمئز من نفسي ايضاً، ليس لدي اي طموح لأكون الانسان (الاكسترا) بشري او حتى مجرد الانسان المتميز عن الآخرين.
س/ لكنك انسان متميز بالفعل، ويكفي اجماع المفكرين والنقاد على تسميتك (متصوف القرن العشرين)؟
ج/ هذا وهم ليس لي شيء من نقاء المتصوفين، لست نقياً في قرارة ذاتي ولا في سلوكي الشخصي ولا حتى في افكاري وكتاباتي.
س/ لكن كتاباتك دعوة مفتوحة الى النقاء والاخلاقية، وهناك من يسميك (فيلسوف الكاثوليكية)؟
ج/ اتفه ما في عصر الانحطاط الثقافي والفكري الذي يعيشه الغرب والعالم الآن، ومنذ قرون، هو مسألة التصنيف والتسميات، هذه مجرد تفاهات، النقد هو اقذر عملية فكرية، ولو كان الامر في يدي لربما كنت أمرت بمنع النقد وبأحالة النقاد الى السجون.
انا متهم بأنني فيلسوف الكاثوليكية، لأنني اكتب اشياء تدعو الى الخير، الكاثوليكية ليست هي الفكر الوحيد الذي يدعو الى الخير.
س/ هل تشمئز من الانتماء الى البشرية؟
ج/ اجل، ولكن لم أقل انني ادعو الى تدمير البشرية. ولعل هذا ما يميزني عن الآخرين. أنا أشمئز فقط من البشر وألاحقهم بالحب والعطف في كتاباتي بينما الآخرون يغرقون الناس بالحب والحنان ثم لا يمارسون سوى تدمير الناس والجماعات والشعوب.
س/ في مذكراتك، رغبت في عودة الزمن الى الوراء، هل حقاً ترغب في ذلك؟
ج/ بل ارغب في ان يستمر الزمن في الانطلاق الى الامام، ولكن بشرط الا يتوقف ابداً.
س/ كلام جميل للتعبير عن الخوف من الموت؟
ج/ بل للتعبير عن جمال الحياة.
س/ هل تخاف الموت؟
ج/ لا ، لست بطلاً، وانما ليس لدي سبب واحد على الاقل يجعلني أتحسر على الرحيل.
س/ لماذا تعيش منذ اكثر من عشر سنوات في شبه عزلة عن العالم الخارجي؟
ج/ ولماذا تريدني ان أخرج الى العالم الخارجي؟ اني ممتلئ حتى العظم بقذارات المجتمع الغربي وامراضه ومفاسده… عندما اغلق على نفسي يصبح العالم نقياً وجميلاً كما احلم به.
س/ لكن الحلم شيء والواقع سيء آخر؟
ج/ بالنسبة لي، الحلم هو الحقيقة الوحيدة في كل هذا العالم، ومن اجل الحفاظ على هذا الحلم او بالاحرى من اجل الدفاع عنه، فأنني أقفلت ابوابي على نفسي ليس في وجه الناس فقط، بل كذلك في وجه التلفزيون والصحف، لا وجود في منزلي لجهاز التلفزيون او الراديو ولا أقراء الصحف، بهذا استطيع ان أسد جميع النوافذ والثغرات التي يمكن للعالم الخارجي ان يتغلغل عبرها بقذاراته الى داخل عالم الحلم الذي صنعته بيدي.
س/ وكيف تستطيع ان تكون في صورة الاحداث كأنك تعيش خارج العصر اذن؟
ج/ عندما أجد انساناً واحداً يجرؤ على القول بأنه سعيد لانه يعيش داخل هذا العصر فانا على استعداد لتغيير كل قناعاتي… اجل، انني اعيش خارج هذا العصر وربما لهذا السبب ما ازال محتفظاً بكامل وعييّ.
س/ هل لديك تسمية خاصة لهذه الفلسفة الخاصة التي اشبه ما تكون بفلسفة النعامة؟
ج/ ليس عيباً التشبه بالحيوانات وبفلسفة الحيوانات، ولا سيما وان جميع الفلسفات البشرية التي ظهرت حتى الآن لم تقدم للبشر سوى المزيد من التعاسة والبؤس.
س/ غرين الفيلسوف يكره الفلسفة اذن؟
ج/ لا أكره الفلسفة بل احتقرها واشمئز منها لدرجة الغثيان.
س/ ولماذا انت فيلسوف اذن؟
ج/ الفلسفة ليست فعلاً اختيارياً او ارادياً، انه لا شيء كالقدر، فلان يكون فيلسوفاً كما يكون طول قامته كذا سنتيم، انها مسألة قدرية غير طوعية.
س/ لنتحدث قليلاً عن روايتك (نجوم الجنوب)، ماذا فيها؟
ج/ ان ضحامة حجمها تجعل من المتعذر اختصارها بكلمات او سطور، انها بالاجمال رواية شمولية اذا صح التعبير، اعالج فيها الهواجس والتمزقات التي يعيشها الفرد في مجتمع تطغى فيه الآلة والاغراءات المادية على البعد الالهي للحقيقة الانسانية.
س/ انها واحدة اخرى اذن من رواياتك الدينية الوعيظة؟
ج/ لا استسيغ كثيراً كلمة (وعظ)، لنقُل انها رواية موجهة ملتزمة بابراز افكار وقيم معينة.
س/ لكن من الناحية الادبية المحضة، الا تعتقد ان الالتزام يخنق الابداع؟
ج/ هذه مقولة خاطئة جداً، لانه ليس في حياة الشعوب – أية شعوب – شيء اسمه ادب غير ملتزم بمجرد ان تكتب اي شيء، فأنت تكون ملتزماً بشيء ما هناك دائماً، ثمة افكار يسعى اي نص ادبي لأن يطرحها، هناك دائماً ثمة طريقة في النظر الى الوجود يحاول الكاتب ان يبرزها سواء بوعي منه او بدون وعي.
س/ وماذا تقول اذن في الادب العبثي الحر الذي انطلق وساد في الغرب بنوع خاص؟
ج/ حتى العبثية هي التزام بطرح ما، بل هي تطرف في الالتزام، بالتأكيد لا يسعنا اعتبار سارتر او كامو اديبين غير ملتزمين لمجرد انهما يكتبان ادباً عبثياً منفلتاً. العبثية والانفلات هما بحد ذاتهما ألتزام معين اذا لم يكن بشيء محدد، فعلى الاقل ضد شيء محدد.
س/ بأعتبارك من ابرز الادباء الاخلاقيين في فرنسا والغرب، ما هو ردك على الرأي القائل، بأن مرض (الايدز) نجح في تربية ابناء المجتمعات الغربية، وفي اعادتهم الى طريق الاستقامة الاخلاقية بنسبة تفوق بكثير جداً نجاح الادباء الاخلاقيين ورجال الدين الغربيين أنفسهم؟
ج/ هذا صحيح جداً، وعلينا ان نعترف فعلاً بأن الايدز كان اكثر فعالية منا في لجم انحراف وانحلال مجتمعاتنا الغربية. لقد استوعب الغرب نداء الايدز واستجاب له، بحيث ان قطاعات واسعة جداً من الغربيين افراداً وجماعات بدأت تتخلى عن الكثير من المفاسد والموبقات التي كانت غارقة فيها.
لقد اصبح في الغرب الآن تيار اخلاقي عفوي كبير يتمثل في العودة الى اطار العائلة. هذا الاطار الانساني المقدس الذي كان قد وصل الى مرحلة التفكك والزوال شبه النهائيين عندنا. لقد اعاد الايدز الغرب الى عصر العائلة، وعلى الاقل الى محدودية وانضباطية العلاقات، وابتعادها عن التعددية المؤذية جداً جسدياً وروحياً…
هل عنيَّ هذا، ان لغة الايدز كانت اقوى من لغة رجال الدين وادباء الاخلاق؟ الاهم من ذلك، انه يعني برأيي، ان الغرب لشدة ما غرق في حضارة المادة لم يعد يستطيع ان يفهم الا بلغة المادة.
الايدز، لغة مادية، انه يقول للناس توقفوا عن الفساد والانحلال لئلا تدفعوا هذه الثمن الكوارثي الذي ترون، والغربيون عادوا الى الاخلاق، وهي بالتأكيد عودة جزئية وغير شاملة بعد، ليس من اجل الاخلاق بحد ذاتها بل خوفاً من دفع الثمن والنمط المادي والاستهلاكي السائد في الغرب، علم الناس كيف يخافون ويكرهون على ما هو شبيه بجابي الضرائب، هذا هو الغرب.