في عالم السياسة ودنيا العلاقات الدولية لكل موقف ثمن ولأي تصرف قيمة ، طالما إن هناك تنافس تحكمه المصالح الإستراتيجية ، القائمة على تراتبيات القوة وتسلسل هرميات النفوذ . لذلك فمن السذاجة بمكان الاعتقاد بخضوع تلك المصالح لاعتبارات أخلاقية تتصل بوحدة ؛ (القومية) كما في حالة العرب ، أو (الدين) كما في حالة المسلمين ، أو (المذهب) كما في حالة الشيعة والسنة . ناهيك عن الاعتبارات الإنسانية الأخرى التي تتعلق بالرحمة أو الشفقة والتعاطف . لذلك يخطئ العراقيين أيما خطأ حين يعتقدون واهمين إن (الجارة) إيران حريصة فعلا”على مصالح العراق وغيورة على حقوق شعبه ، تحت مزاعم وحدة الانتماء للدين الواحد والولاء للمذهب المشترك . ولكي ننأى بفحوى هذا المقال عن أية نوازع عنصرية أو طائفية ، يمكن أن تطال فكرته من ذوي الذهنيات المعبئة بالأحقاد والمجيشة بالكراهيات ، فإننا لا نعتزم هنا الترويج لتهمة (الصفوية) التي غالبا”ما تلجأ الخطابات السجالية المتطيفة لإلصاقها بالمكون (الشيعي) دون وجه حق ، فقط لمجرد توتير العلاقات الاجتماعية وتصعيد الحساسيات النفسية وتأزيم المواقف السياسية . ليس من باب عدم وجود من يرغب التماهى بظاهرة (الأيرنة) المذهبية واللغوية – أي إتباع وتقليد المرجعيات الدينية الإيرانية دون المرجعيات العراقية ، فضلا”عن التباهي بإجادة التحدث باللغة الفارسية دون نظيرها العربية – ، هذا بالإضافة إلى اعتبار نفسه / نفسها بمثابة تابع مطيع يأتمر بما يصدر عن إيران حكومة من تعليمات سياسية يتقيد بمراعاتها وتوجهات طائفية يسعى لاجتيافها . إنما من منطلق إن الغالبية العظمى من هذا المكون العراقي الأصيل ، لا علاقة لها بهذا التوجه (الصفوي) ، إن لم تكن رافضة – قولا”وفعلا”- الانخراط بممارساته الشعائرية والاستجابة لأطروحاته الأسطورية . وإذا كان هناك ما يشي بحصول تحول نوعي باتجاه تبني ومشايعة تصورات (التدين) الإيراني من لدن بعض الجماعات العراقية – لأسباب تتعلق بالجهل أو الغفلة أو العادة – فان وزر هذه الحالة لا يقع على كاهل تلك الجماعات التي تفتقر إلى التوعية السليمة والتوجيه الصحيح ، بقدر ما يتحمل مسؤوليتها ويساءل عن عواقبها أولئك المنتفعين من المصائب والمتاجرين بالنوائب في كل زمان ومكان ، لاسيما مروجي مثل تلك الأفكار البدائية ومسوقي مثل تلك التصورات المتخلفة . وعلى الرغم من كل الوقائع التاريخية والحقائق لدينية ، التي تؤكد النسب العروبي لجميع أئمة أهل البيت (رضوان الله عليهم) ، فضلا”عن أصالة التشيع العراقي وأفضليته في مجال نقاء الأصول الدينية واستقامة الشعائر المذهبية ، على سائر أنماط التشيع التي راجت في مختلف البلدان العربية وغير العربية ، وبالتالي اعتبار المرجعيات العراقية هم أسياد هذا الحقل من الاعتقاد والممارسة . فان أمر خضوع العراقيين للمرجعيات الدينية الإيرانية – وتاليا”السياسية – بدلا”من حصول العكس كما كان الأمر ساريا”في الفترات السابقة ، يعد مفارقة تاريخية لا تحتاج فقط إلى وقفة تأمل ومراجعة ذاتية فحسب ، بل تستلزم أيضا”موقفا”نقديا”ينتهج تحليل العوامل وتفسير الظروف ، التي ساعدت على حصول مثل هذه الانعطافة الارتدادية ، وساهمت من ثم بترسيخها في وعي الجماعات واستمرارها في مخيال الأجيال . والواقع إن يبني المجتمع الإيراني لظاهرة التشيع لمذهب (أل البيت) لم يكن لدواعي دينية واعتقادية منزهة – كما قد يتبادر إلى ذهن العامة من الناس – وإنما حصل بناء على دوافع سياسية صرفة ، استلزمتها ظروف الصراع السياسي والعسكري بين الإمبراطوريتين العثمانية والفارسية في القرون القليلة الماضية ، لأسباب تتعلق بالهيمنة على جغرافية العراق واستغلال موارده الطبيعية واستثمار طاقاته البشرية . ولهذا غالبا”ما تجد السياسية الخارجية الإيرانية حيال دول الجوار الجغرافي –
وخصوصا”نحو العراق- مغلفة بغطاء الدين وممزوجة بمظاهر الطائفة ، لاسيما في البلدان التي توجد فيها جماعات شيعية ناشطة في مضمار المطالبة بالحقوق السياسية وحرية التعبير عن الخصوصية المذهبية . ولما كانت الدولة العراقية التي أبصرت النور في مطلع القرن الماضي (1921) ، قد انتهجت خيارا”سياسيا”أقرب إلى التوجهات العلمانية منه إلى النزعات الدينية ، الأمر الذي جعلها أقل تسامحا”وأكثر تشددا”حيال الأحزاب والحركات ذات الصبغة الإيديولوجية الدينية – بصرف النظر طبعا”عن الطبيعة الطائفية لتلك الأحزاب والحركات – ولعل ظروف الحرب العراقية الإيرانية في الثامن من أيلول عام 1980 وما تمخض عنها من تداعيات وما ترتب عليها من أزمات ؛ سياسية واجتماعية وتاريخية وجغرافية وحضارية ونفسية وثقافية ، أعطت للدولة العراقية – التي كانت تتشوق (لتفريغ فائض) القوة العسكرية – المسوغ السياسي والأمني للإشاحة عن كل أنماط التحفظات والمحاذير، التي كانت تتبناها وتعتمدها إزاء تعاطيها وتعاملها مع التيارات الدينية المذكورة ، وخصوصا”تلك التي كانت تمارس أنشطتها السياسية والعسكرية عبر الأراضي الإيرانية ، حيث كانت تتمتع بالدعم المادي لهذه الأخيرة وتحظى برعايتها المعنوية ، طالما بقيت تلك القوى مناهضة للنظام السابق ومعادية لسلطته المركزية . وعلى أساس هذه الظروف المؤاتية والأوضاع المشجعة ، تمكنت السياسية الإيرانية من التسلل إلى والاندساس داخل أروقة السيكولوجية العراقية المثخنة بالشقوق والتصدعات ، لتمارس سحرها المغوي وتطلق تعاويذها المعسولة ، تحت ذريعة ما يسمى (بالمظلومية التاريخية) التي لحقت بالمكون الشيعي . ومما زاد من إيحاءات وتأثيرات السياسة الإيرانية ليس فقط على منظومات الوعي الاجتماعي لغالبية أبناء الطائفة الشيعية – سواء المتعلمين منهم أو غير المتعلمين – فحسب ، وإنما طالت أصحاب الرأي وصناع القرار في الحكومة العراقية أيضا”، لاسيما بعد أحداث الغزو العسكري الأمريكي في الحادي والعشرين من عام 2003 ، الذي قوض الدولة العراقية واسقط معها النظام السياسي ، وكسر من ثم حاجز الخوف الذي كان يقمع دوافع الفوضى ويردع نوازع العنف . وهكذا ومنذ تلك اللحظة التاريخية الفارقة ارتهنت إرادة العراقيين وتحدد مصيرهم ، بما سوف تقرره السياسة الإيرانية وتراه ملائما”، وبما يخدم أهدافها الإستراتيجية لا في العراق فحسب ، وإنما في المجال الإقليمي والمحيط الدولي أيضا”. وعلى ما يبدو فان اللعب بورقة الدين واستثمار زخم النعرة الطائفية ، حقق لإيران أطماع ومآرب ما كان لها أن تحلم بها ، فيما لو اكتفت بالتحرك على المسارات السياسية ، ولهذا فهي ناشطة لا في ابتكار الأزمات السياسية واختلاق الخلافات الاجتماعية ، إنما نجدها أيضا”محمومة في مضمار تشكيل المليشيات الطائفية وزجها في معترك السياسة العراقية ، لكي تبقى الدولة تعاني الشلل في وظائفها ، ويستمر المجتمع يعاني العلل في علاقاته . والأنكى من ذلك كله فان الحكومة الإيرانية لم تكتفي ببسط هيمنتها على أمورنا السياسية والتحكم بشؤوننا السيادية والاستخفاف برموزنا الوطنية ، عبر مزاعم دعمها لنا وإسنادها إيانا لمحاربة المتطرفين والإرهابيين فحسب ، بل وكذلك باتت تظهر كما لو أنها أكثر حرصا”منا على ديننا ، وأشد خشية منا على مراقد أئمتنا الأطهار الذين تتوسد مقاماتهم الطاهرة ثرى العراق منذ آلاف السنين . وهكذا فقد جاء تصريح وزير الداخلية الإيراني مؤخرا”استفزازيا”بكل ما في الكلمة من معنى ، من خلال تضمنه حق إيران بالتدخل عسكريا”- دون حتى حصول موافقة محلية أو تفويض دولي – في حال تعرضت مراقد الأئمة الأطهار لأي اعتداء من قبل الجماعات الأصولية المسلحة . وهو الأمر الذي يوحي بان إيران لا تريد فقط أن تمارس وصايتها على حياتنا السياسية والاجتماعية فحسب ، وإنما على معتقداتنا الدينية والرمزية ، فضلا”عن وأماكن ذاكرتنا الجمعية والوطنية ، وبالتالي تحويلنا إلى مجرد رعايا / عبيد في سلطنة الفقيه / الإمام !!