أسفلت العراق : آلاف الضحايا سنوياً وأزمة تتفاقم

أسفلت العراق : آلاف الضحايا سنوياً وأزمة تتفاقم

شهد العراق في الآونة الأخيرة ارتفاعًا ملحوظًا في حوادث الطرق، وهي ظاهرة مقلقة تُلقي بظلالها الثقيلة على المجتمع، مُخلفةً وراءها آلاف الضحايا بين وفيات وإصابات، إضافة إلى خسائر مادية واقتصادية جسيمة. تتعدّد أسباب هذه الحوادث وتتداخل، فمن جهة، يُعتبر العنصر البشري هو المحرك الرئيسي للعديد منها؛ فالتهور والسرعة المفرطة، وعدم الالتزام بقواعد المرور كقطع الإشارات الضوئية أو استخدام الهاتف النقال أثناء القيادة، كلها سلوكيات تنم عن قلة الوعي وضعف المهارة لدى بعض السائقين، فضلاً عن تأثير الكحول والمخدرات في بعض الحالات. ولا يقتصر الأمر على السائقين فحسب، فعدم انتباه المشاة أو عبورهم من أماكن غير مخصصة يساهم كذلك في وقوع الحوادث. من جهة أخرى، تلعب البنية التحتية للطرق دورًا لا يقل أهمية؛ حيث تُعاني العديد من الطرق من سوء الصيانة والحفر والمطبات، بالإضافة إلى النقص الحاد في جسور وأنفاق المشاة، خاصة في المناطق الحيوية والسريعة، مما يجبر المواطنين على عبور الشوارع بشكل مباشر ومعرضين للخطر. يضاف إلى ذلك غياب العلامات المرورية الواضحة وضعف الإضاءة في العديد من المناطق، مما يزيد من صعوبة الرؤية وتوقّع المخاطر. أما السبب الثالث فيتعلق بالمركبات ذاتها؛ فالعديد منها لا يخضع للصيانة الدورية اللازمة، وقد تحمل عيوبًا فنية خطيرة مثل ضعف الفرامل أو مشاكل في الإطارات والمصابيح، مما يجعلها قنابل موقوتة على الطريق. ولا يمكن إغفال غياب التوعية وتطبيق القانون كأسباب جوهرية؛ فنقص الحملات التثقيفية الشاملة حول السلامة المرورية، والتساهل في تطبيق الأنظمة وفرض العقوبات على المخالفين، وغياب الرقابة المرورية الفعالة، كلها عوامل تزيد من تفاقم المشكلة.
تُترجم هذه الأسباب إلى نتائج كارثية ومتعددة الأبعاد. ففي صدارة هذه النتائج تأتي الخسائر البشرية الفادحة، فبحسب الإحصائيات، يُقدر عدد الوفيات الناجمة عن حوادث المرور في العراق بآلاف الأشخاص سنويًا، حيث بلغ حوالي 3019 وفاة في عام 2023، وإن انخفض قليلًا إلى 2719 وفاة في عام 2024. هذه الأرقام المخيفة لا تمثل مجرد أعداد، بل هي أرواح أُزهقت، وعائلات دُمرت، وأطفال تيتموا، وشباب فقدوا مستقبلهم. إضافة إلى الوفيات، تُخلّف الحوادث آلاف الإصابات البليغة التي قد تؤدي إلى إعاقات دائمة، تُغيّر مسار حياة المصابين وتفرض عليهم وأسرهم أعباءً صحية ونفسية واقتصادية لا تُطاق. ولا تقتصر النتائج على الجانب البشري المباشر، بل تمتد لتشمل خسائر اقتصادية ضخمة؛ فتكاليف الرعاية الطبية للمصابين باهظة وتُرهق ميزانية الدولة والأفراد على حد سواء، كما أن فقدان الأفراد المنتجين نتيجة الوفاة أو الإعاقة يؤثر سلبًا على القوى العاملة وبالتالي على التنمية الاقتصادية للبلاد. تُضاف إلى ذلك تكاليف إصلاح الأضرار التي تلحق بالمركبات والبنية التحتية، والتي تُشكّل عبئًا ماليًا إضافيًا. أما على الصعيد الاجتماعي، فتُسبّب هذه الحوادث حالة من القلق والخوف بين أفراد المجتمع، وتُسهم في تفكك الأسر في كثير من الحالات، وتُلقي بظلالها على الاستقرار الاجتماعي.
إن خطورة المشكلة تتعدى كونها مجرد أرقام، فهي تمثل كارثة إنسانية مستمرة تُشير إلى قصور في الأنظمة والبنية التحتية، وتترك آثارًا نفسية عميقة على الناجين وأسر الضحايا، وتُعيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي. لمعالجة هذه الأزمة، يتطلب الأمر استراتيجية شاملة ومتكاملة تُشارك فيها جميع أطياف المجتمع. يبدأ الحل بتفعيل وتطبيق القوانين المرورية بصرامة، وتشديد الرقابة على المخالفين باستخدام التقنيات الحديثة، مع مراجعة العقوبات لجعلها رادعة، وضمان نزاهة منح رخص القيادة. بالتوازي، لا بد من تحسين البنية التحتية للطرق بشكل جذري؛ وهذا يشمل إنشاء المزيد من جسور وأنفاق المشاة في الأماكن الحيوية، وتوفير إضاءة كافية، وصيانة الطرق بشكل دوري، ووضع علامات مرورية وإرشادية واضحة، بالإضافة إلى تصميم مطبات صناعية قياسية لتخفيف السرعة في المناطق المأهولة. ويُعد التوعية والتثقيف المروري محورًا أساسيًا في هذه المعالجة، من خلال إطلاق حملات توعية مستمرة ومكثفة عبر كافة وسائل الإعلام، وإدراج مفاهيم السلامة المرورية في المناهج الدراسية من المراحل المبكرة، وتنظيم ورش عمل ومحاضرات تستهدف مختلف شرائح المجتمع، مع التركيز بشكل خاص على توعية الأطفال وكبار السن. ولا يُمكن إغفال دور سلامة المركبات، من خلال إلزام المركبات بالفحص الفني الدوري والرقابة على المركبات المستوردة لضمان مطابقتها لمعايير السلامة. أخيرًا، من الأهمية بمكان جمع بيانات دقيقة وشاملة حول الحوادث لتحليلها وفهم أسبابها وأنماطها، والاستفادة من الخبرات الدولية في هذا المجال لتطبيق أفضل الممارسات. إن مسؤولية المجتمع في الحد من حوادث الطرق هي مسؤولية جماعية ومحورية، فالسلامة المرورية هي ثقافة وسلوك يومي يتشارك فيه الأفراد والأسر والمؤسسات التعليمية ووسائل الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني والقطاع الخاص. إن الاستثمار في السلامة المرورية ليس رفاهية، بل هو ضرورة حتمية لإنقاذ الأرواح، وحماية الممتلكات، وتحقيق الاستقرار والتنمية في العراق.

أحدث المقالات

أحدث المقالات