18 ديسمبر، 2024 4:46 م

أسس الإصلاح التنويري هل تتوافق مع الإيمان العقيدي؟| (1-2)

أسس الإصلاح التنويري هل تتوافق مع الإيمان العقيدي؟| (1-2)

نبحث دوماً في موضوعة الإصلاح التنويري الذي نبغيه لغرض بناء المجتمعات ولكن دائماً ما يصطدم هذا الاصلاح باشكاليات عقيدية متمثلة بالايمانات الدينية التي ترفض مثل هكذا اصلاح لكنه يهدم اساساتها العقيدية المهيمنة ، وهنا اودُّ أن ابيّن الأسس التي تستخدم للاصلاح الذي بدوره سيكون كسلوك نهضوي لبناء المجتمع هي :
1- الرؤية: فهي تنطلق من ان أساس الاصلاح الديني هو جزء من الاصلاح السياسي والاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي ولا يمكن عزل بعض هذه الأنواع من الاصلاح عن بعضها الآخر. وبكلمات اخرى لم يكن يعني الاصلاح الديني لديهم اصلاح العقيدة كما كان الامر لدى الوهابية او غيرها، بل كان يعني إصلاح الحياة .
2- التصوّر: وقد قادتهم هذه الرؤية الى تصور لمعنى المدنية نقلوه عن الثقافة الغربية وطبقوه على الاسلام، وخلاصته ان الدين الاسلامي ليس دينُ عبادة وعلاقة معرفية بالرب فحسب، يهتم بقضايا العقيدة والايمان وانما هو دين حضارة يهتم بالقيم الحياتية للانسانية وللأمة وبالقيم الذاتية للفرد على حدٍّ سواء وبذلك قرروا ان مدنية الاسلام ترتبط بالتقدم المتجه دائماً نحو هدفين: التطوير الاجتماعي أي زيادة القوة والرفاهية، والتطوير الفردي أي تطوير المواهب والامكانات وقد كان للأمة الاسلامية في بداية أمرها هذان الهدفان.
وإن هذا التصوّر ليس دقيقا بالمعنى الصحيح فهذه تخريجات للاسلام، فالاسلام هو دين عقيدي بالدرجة الاولى وهو يعمل على إلغاء الآخر غير المؤمن بالله ويعتبره كافراً وتجب محاربته الا اننا نستطيع ان نستمد منه بعض النصوص التي تعمل على عدم إلغاء الآخر على الرغم من تعطيلها من قبل المؤسسة الدينية الحاكمة للاسلام اليوم، فهي تسخّر النصوص الإلغائية على مفهوم النصوص التي تسمح بالممارسة والحرية لدين آخر مقابل الاسلام.
3- الحُريّة : ينبع مبدأ الحرية لدى الاصلاحيين من منطلق ان الحرية هي الأساس الذي يبنى عليه كافة الرؤى الفكرية الاصلاحية التي يتبناها المجتمع التي من خلالها أي الحرية تنطلق بقية الأمور الاصلاحية :البناء للانسان والأوطان والعدالة وغيرها من الامور الاساسية للاصلاح .والحرية هي من البنود الاساسية في كل بند اصلاحي في العالم فمن دونها لا يكون هنالك اصلاح مطلقاً. فالايمان الذي ينبغي التدرّب عليه ان جميع البشر قد ولِدوا متساوين في حقهم في الكرامة الانسانية ،وان من حقهم التمتع بحريات اساسية معيّنة :حرية تحديد هويتهم والتعبير عنها ،واختيار شكل العبادة الخاصة بهم ،والحصول على الرزق والتحرر من الاضطهاد والقهر وتلقي المعلومات، وتشمل الحريات الاساسية كذلك حرية الكلام وحرية الصحافة وحرية التصويت، ومن دون هذه الحريات يصبح العالم ساحة للمعارك بين الافراد والجماعات المتحاربة ،يسعى  كل منها لحماية مصالحه او لفرض سلطته على الاخرين.
وتعتبر الحرية – بعد الحياة- أثمن ما يحرص الناس عليه ويقدرونه والحرية في اكثر مفاهيمها ثراء هي كل ما يمكن الناس من اختيار مسارات حياتهم ولكي يصبحوا ما يستطيعون ان يكونوا عليه ،لكن حقوق الناس وأوجه استحقاقهم التي يتمتعون بها بالفعل عبر العالم تقصر بكثير عن  تحقيق الحرية بهذا المعنى ،وادارة شؤون المجتمع العالمي معنيّة اساساً بتعزيز الحقوق والقدرات الرفاهية .
لقد اصبح  الناس في مختلف انحاء العالم أكثر ادراكاً للتهديدات المحتملة لحريتهم من جانب مجموعة من القوى والظروف فقد يأتي التهديد من الحكام المستبدين او من الجماعات السياسية التي تحاول التشبث بالسلطة بشكل غير مشروع او لاغتصاب السلطة او من اجراء قصد منه قمع الجماعات العرقية او طردها (واحيانا حتى اولئك الذين يشكلون أغلبية داخل بلد من البلدان) او من انهيار الدولة وما يصاحب ذلك من فوضى وحتى حيثما يسود النظام تواجه الحرية تهديداً بسبب الحرمان والاضطراب الاقتصادي والقهر القائم على التفرقة بسبب نوع الجنس (ذكر أو أنثى ) واساءة معاملة الاطفال ،وثقل وطأة الديون وغير ذلك من الانماط الاجتماعية والاقتصادية وقد يكون التهديد خارجيا ايضا من جانب دول تتحول الى اعمال النهب او حتى من جانب مؤسسة تجارية تقهر أنشطتها احد المجتمعات المحلية او ثقافته التقليدية .
إن التهديد الموجه الى الحرية في اي جزء من الجوار العالمي ينبغي النظر اليه باعتباره تهديداً للجوار واتخاذ الاجراءات ضد محاولات انتهاك الحق في الحرية يُعد مسؤولية مشتركة .
4- العدل: العدل حسب الإصلاحيين الاسلاميين هو اسم من اسماء الله وشرط للايمان به وعهد على الانسان لتحقيق أمنة المسؤولية التي اقرَّ بها بالشهادة والتوحيد وكلاهما التوحيد والشهادة يعني في جملة ما يعني تقرير العدل والمساواة بين الناس ورد التفاوت والتفاضل في ما بينهم الى عقولهم ومعارفهم وفضائلهم وأعمالهم . كما وان العدل دائما يقترن بالمساواة فهما قيمتان اساسيتان من قيم الانسانية ،واحترامهما امر لا غنى عنه للسلم والتقدم كما ان غيابهمها يمكن ان يؤدي الى اثارة الاستياء ونزعة الاستقرار وعلى الرغم من ان الناس يولدون في ظروف اقتصادية واجتماعية غير متساوية الى حدٍّ كبير فان التباين الكبير في احوالهم او في فرص الحياة المتاحة امامهم يعد اهانة لاحساس الانسان بالعدل وفي الحالات التي تلقى فيها اعداد كبيرة من المواطنين معاملة غير منصفة او يحرمون من حقوقهم وفي الحالات التي  لا يتم فيها التصدي للظلم الفادح فلا مناص من ان يتفجر السخط وربما الصراع وعندما كان الناس يعيشون في عالم اقل تكاملا كانت حالات عدم الانصاف التي تهمهم ذات طابع محلي او وطني اما اليوم ومع اتساع نطاق وسائل الاتصال فقد اخذ التفاوت العالمي يزداد وضوحا وهناك ايضا تسليم واسع النطاق بان كثيرا من حالات عدم الانصاف تنشأ او تتعزز نتيجة لحدوث تطورات ، في اماكن اخرى كانت بعيدة في وقت من الاوقات .ان الاهتمام بتحقيق الانصاف لا يساوي الاصرار على تحقيق المساواة ،لكنه يدعو الى بذل جهود مدروسة للحد من حالات الظلم الفادحة ،والتصدي للعوامل التي تتسبب في حدوثها او ادامتها وتشجيع اقتسام الموارد على نحو اكثر عدلا والواقع ان الالتزام الاوسع نطاقا بالانصاف والعدل هو امر اساسي من اجل مزيد من الاجراءات الهادفة الى الحد من التفاوت والتوصل الى توزيع اكثر توازنا للفرص على اتساع العالم كله فالالتزام بالانصاف في كل مكان هو الاساس الوحيد الآمن من اجل اقامة نظام عالمي اكثر انسانية يمكن للعمل المتعدد الاطراف في اطاره من خلال كسر حدة التفاوت الحالي، ان يرتقي بالرفاهية والاستقرار العالميين.
كذلك يقتضي الامر احترام الانصاف ايضا في العلاقات بين الاجيال الحاضرة والمقبلة ،ان مبدأ الانصاف بين الاجيال يشكل الاساس لستراتيجية التنمية المستدامة التي تهدف الى ضمان ألا يضرَّ التقدم الاقتصادي بفرض الاجيال المقبلة من خلال استنزاف رصيد راس المال الطبيعي الذي يعمل على استمرار الحياة الانسانية على كوكب الارض ويتطلب الانصاف من جميع المجتمعات غنيها وفقيرها ان تنتهج هذه الستراتيجية .
كما جعل الإمام محمد عبده اللغة قرينة الفكر ،وعوَّل عليها في امر الاصلاح تعويله عليه وقال انها الهدف الثاني في دعوته بعد هدفه الاول اصلاح العقيدة سواء اكان الامر يتعلق بالمخاطبات الرسمية ام بالمراسلات بين الناس ولم يكن ليتم ذلك لولا هذا التماهي بين العروبة والاسلام في جامعة اللغة ودورها المهم الذي تلعبه في تجانس الامة وتوحيدها اجل كانت اللغة عند الاسلاميين وما تزال تشكل صلب وجودهم .
لقد خلفت حركة الاصلاح الديني بمختلف افرادها وخاصة الامام محمد عبدة وجمال الدين وعلى امتداد الساحتين العربية والاسلامية تاثيرات تكاد لا تحصى ويمكن ان نتحدث عن هذه المؤثرات على مستويين :مستوى المناخ الذي اشعته ومستوى الافق الذي فرضته بالقوة او بالفعل على المستوى الاول كان لرجالات الحركة حضور في كل مكان حلّوا فيه داخل الوطن وخارجه في الشارع والسجن في المقهى وفي المساجد في الكتب والصحف والمجلات ولا يقاس هذا الحضور لدينا بمدى جماهيريته او شعبيته فتلك ميزة استاثر بها في الخطاب الاسلامي رجال الفقه والتصوف وانما يقاس بالتحريض والتوجيه وتحريك المياه الاسنة وما من شك في ان اصحاب الاصلاح جميعا استطاعوا عن طريق ربط الاصلاح الديني بالسياسة او ربطه بالتربية ان يحدثوا ما هو اشبه بالثورة او قريب منها لقد خلقوا وعيا طليعيا ومتقدما عبر عنه من خلال نشاط محمد عبدة تعبيرين دقيقين اولهما وصفه بالمثالي الحالم وثانيهما وصفه بالثورة التي تغلي مراجلها ولا تعارض بين الوصفين لانه يكمل احدهما الاخر فالثائر كان وسيظل هو هذا المثالي الحالم لانه صاحب هم وقضية صاحب مشروع مستقبلي لانه يجعله ديدن حياته وأهزوجته التي يصحو عليها وينام.
اما على المستوى الثاني فاكاد أجزم بان جميع العقول المستنيرة في السياسة والحكم والمجتمع في اغلب ارجاء العالم الاسلامي والعربي والتي جاءت جميعها مع بدايات القرن العشرين وحملت مشعل التقدم والتغيير والنضال مشعل النهضة ضد التخلف والجهل والاستعمار انما استقت من ينابيع حركة الاصلاح وتشبعت بآرائها واعتنقت معظم مبادئها قد تكون خالفتها بعض الشيء او ابتعدت عنها او ناصبتها العداء الا انها كلها دينية وعلمانية خرجت من معطفها .

نقلا عن صحيفة المدى