في ازمنة السلالات التي بنت أساطيرها على أديم الفرات والأهوار ، ولدت الأسرار بعد انحسار الطوفان وتهيئة اليابسة لتبنى عليها من جديد القرى والمدن ، وكان حلم الذي نجوا من هذا المطر الكوني أن يعود نوح الى ذات المكان ليتحدث للأجيال القادمة عن اسرار الرحلة وكيف نجوا ، لكنه ابقى لغز رحلته في طلاسم وتعاويذ طقوس الكهنة والملوك وما يجري في الخفاء ، ومنذ تلك الايام اصبحت الاسرار شيء من حاجة الملك ليبقى ، غير ان اسرار الغرام تظل هي الاكثر جمالا في خبايا تلك الايماءات التي لا يُراد لها أن تخرج للعلن بل تبقى مخبأة مثل طقس مقدس.
تمتلئ المدن بالأسرار حتى على مستوى العائلة والبيت ، وكنا نعتقد أن الهمس الذي يأتي بموسيقى خافتة بين أبي وامي على ( جرابيتهما ) الحديدية هو شيء من الأسرار لا نستطيع أن نفتح مغاليقها ، ولكن فيما بعد ومن خلال كلام أبي ونصائحه لنا اكتشفت أن اغلب تلك الاسرار هو ما يهم الجوع في بطوننا والايام التي يرسموها لنا لمستقبل تمنى فيه لي ابي أن لا أكون عريفا في الجيش مثل خالي ، بل معلما معتبرا راتبه ثلاثون دينارا ، وليس كما خالي جهاد الذي امضى حياته عريفا في كتيبة مدفعية ميدان ، ولأكثر من خمس وعشرين عاما وراتبه ثمانية عشر دينار فقط.
في صباي فقط عرفت أن الكثير اسرار الشارع يحتفظ فيها اثنان فقط ، حلاق المحلة ، والمختار . وكنت انظر الى ( جاب المختار ) أي ختمه الازرق مثل صورة الطغراء الطلسمي الذي يعرف كل شيء حتى انك في مراجعته لتأييد لمعاملة ما ، يذكر لكَ حتى الساعة التي ولدت فيها وفي أي زقاق مظلم قبلة فيه حبيبتك لأول مرة.
يوم ما عندما كنا نمارس التعليم مهنة في قرية أم شعثه حيث الهور لا يخبئ اسراره . أتى مشحوف يحمل مفرزة من الشرطة ويقودها مفوض . جلس في الادارة وطلب أن يجلبوا له اكثر الرجال وجاهة في القرية .
قالوا له أكبرنا وجاهة هو اكبرنا عمرا .
قال :اذن اريد ان اراه لأبلغه بأمر حكومي.
ارتبك الناس ، وذعروا من هذا الامر لانهم لا يملكون مع الحكومة اي آصرة حيث ابقوا حياتهم بعيدة إلا مع تلبية بعض ابناءهم لخدمة العلم .
أتى الرجل الكهل الذي كان بعمر أكثر من ثمانين عام ، يقوده ريكان وشغاتي ويسير بصعوبة بالغة واجلسوه امام المفوض.
قال المفوض :الحجي هذا لا يفيدنا .
قال له ريكان :لماذا حضرة المفوض ؟
قال : لأننا نريده يعرف كل شيء في القرية.
ضحكت وقلت : وهل تريدوه الهاً .
غضب المفوض وقال :استاذ ، صدر امر حكومي يتنصيب مختارا لكل قرية ،والمختار ينبغي ان يعرف كل ما يجري بالخفاء والعلن.
قال شغاتي : حضرة المفوض ، لا شيء نخفيه في حياتنا ، ها هي أمامكَ ماء وقصب وجواميس رأيتها في طريقك الينا عائمة في الماء .؟
ضحك المفوض وقال : الأسرار موجودة ، وتملأ بطونكم.
ابتسم شغاتي وقال للمفوض :بروح ابوك مفوضنا ،يعني خبز الطابك والروبة التي في بطوننا هي سر من الاسرار…!