طالما ظننت أنّ رويترز مؤسسة بريطانية، لاسيما أنّ مقرها قديم في لندن ويعود إلى منتصف القرن التاسع العشر، لكن ما إن دخلت “متحف الصحافة العالمية“بمدينة آخن غرب ألمانيا، حتى تغيرت الصورة، فعلى الجدران صور مؤسس الوكالة “بول يوليوس رويترز” وللقصة تفاصيل غريبة.
لكل شيء قانون في ألمانيا، كما أن لكل شيء متحف، متاحف من كل الأنواع والصنوف. بمدينة آخن أقصى غرب ألمانيا، وفي شارع بون في مركزها لفت انتباهي مبنى رمادي قديم كتب عليه “متحف الصحافة العالمية”، وعلى القوس الذي يظلل مدخل المبنى، كتب بهجاء قديم تاريخ انشائه (1824). أن تجد متحفاً للصحافة يعود إلى القرن التاسع عشر، قد يمكن فهمه كحقيقة، لكن أن يتخصص المتحف بالصحافة العالمية في ذلك الزمن، فهذه مفاجأة كبرى.
متحف للصحف العالمية
يعود تاريخ المتحف إلى عام 1886، حيث عرض الأكاديمي أوسكار فون فوركينبيك مجموعة صحف جمعها من مختلف انحاء العالم خلال جولاته السياحية والمعرفية. في عام 1962 احتل المتحف هذا المبنى، وصار عدد معروضاته 200 ألف صحيفة! من أهم زوايا هذا الصرح الصحافي المثير، كانت قاعة يوليوس رويترز.
البارون فون رويترز، ولد يهودياً في مدينة كاسل بألمانيا واسمه “إسرائيل بير يوزابات” في عام 1816، ثم هاجر إلى لندن في عام 1845، واعتنق المسيحية على المذهب اللوثري في نفس العام، وغيّر اسمه إلى بول يوليوس رويترز، وبعد أسبوع واحد تزوج في نفس الكنيسة التي غير فيها دينه من بنت مصرفي ألماني اسمها “آيدا“.
كانت بدايته مراسل تلغراف، واهتم بتطوير صنعة ارسال البرقيات والرسائل بشكل غريب، وفي عام 1847 بات شريكاً في دار نشر “شتوتغارت ورويتر” ومقرها برلين، وكان له دور بارز في طبع ونشر الكراسات السياسيةالتي أججت ثورة 1848 في ألمانيا. وبعد الثورة رحل إلى باريس ليعمل في “وكالة انباء هافاس” وهي الأب الشرعي لوكالة الأنباء الفرنسية (أ. ف. ب).
ومع تطور علم التراسل التلغرافي، سارع رويترز لتأسيس وكالة خاصة به ومقرها في آخن للتراسل بين آخن وبروكسل مستخدماً الحمام الزاجل، ومحققاً بذلك ربطاًخبرياً مبكراً بين برلين وباريس. حمامات رويترز الزاجلة كانت أسرع من قطار البريد، ما منحه تفوقاً في مجال ارسال الأخبار المالية من بورصة باريس مباشرة، وفي ذلك القرن متسارع الاختراعات، ما لبث رويتر أن عدل عن الحمام إلى الربط التلغرافي البرقي الجديد.
في عام 1857، مُنحت الجنسية البريطانية لرويتر، وفي عام 1891 أسبغت عليه الملكة لقب “البارون فون رويترز” وهو مزيج من الإنكليزية والألمانية. ولا شك أن رويتر كان رجلاً استثنائياً، بحصوله على كل هذه الامتيازات مقابل مبتكرات وخدمات جمة قدمها للإنسانية. لم يكن رويتر أول من اخترع وأطلق خدمات وكالات الأنباء، لكنه حقق في هذا المجال تقدماً، بات بسببه معروفاً في جميع انحاء العالم باعتباره “أب لتناقل الأنباء”.
تداخل المال بالسياسة والانباء
ثم اتخذت القصة منحىً متسارعاً آخر، فقد تداخلت قصص المال والبورصة والتلغراف بتطورات السياسة في مكان بعيد جداً عن أوروبا. وبدأ الترابط غير المنطقي حين شرعت مجموعة شركات بإنشاء خط تراسل تلغرافي يربط بريطانيا بأوروبا، وعلى ضوئه انتقل رويتر إلى لندن، واستأجر مكتباً قريباً من البورصة. في عام 1863، اقام رويتر بشكل شخصي خطاً للتراسل التلغرافي بين لندن وكروك هافن في أقصى جنوب غرب إيرلندا. الفكرة قامت على فكرة أنّ السفن القادمة من أمريكا، كانت تُلقي في منطقة بالبحر في الطريق إلى كروك هافن حاويات فيها صحف وقصاصات أخبار، وأخذ رويتر يستعيد تلكم القصاصات والصحف ويبرق أخبارها فوراً إلى لندن، فكانت الأخبار تصل من لندن إلى كورك هافن قبل وصول السفن إليها بوقت طويل حسب توثيق مدون في القسم الإنكليزي من الموسوعة الشعبية ويكبيديا.
وفجأة، حدث تطور سياسي مالي خطير يصعب تفسيره، ففي عام 1872، وقّع شاه إيران ناصر الدين شاه اتفاقية مع رويتر، باع بموجبها الشاه لرويتر كل خطوط السكة الحديد، وقنوات الري، ومعظم المناجم، وكل الغابات المملوكة للحكومة، وكل صناعة المستقبل التي قد تظهر في إيران!!
الصفقة بتفاصيلها تمثل أغرب عقد شهده التاريخ بين ملك وبين مقاول، فقد باع ناصر شاه كل بلاده إلى رويتر.
وسرعان ما رفض كل رجال الأعمال، ورجال الدين، وكل الوطنيين الإيرانيين الامتياز الذي منحه الشاه لرويتر، ثمألغيت الاتفاقية ولم تشهد منجزاً على الأرض.
رويتر اليوم صار اسمها “رويترز” وهي منظمة خبرية يملكها تومسون رويترز منذ عام 2008، ويعمل فيها 2500 صحفي علاوة على 600 مصور، موزعون على 200 موقع عبر العالم.
ويعتبر كثيرون أن مصدر 80 بالمائة من الأخبار عبر العالم هو: وكالة رويترز للأنباء، وكالة أسوشيتد بريس، ووكالة الأنباء الفرنسية (أ ف ب). وتتوزع باقي الأخبار على وكالة الأنباء الألمانية (د ب أ) والوكالات الروسية والصينية والمحلية الأخرى.
يعتمد هذا الحشد الصحفي الكبير المنتشر في كل أنحاء العالم على كتاب Reuters Handbook ofJournalism، وهو موجود على الانترنت على الرابط الظاهر في الاسم.
ويدور لغط كبير عبر العالم حول سياسات رويترز وخطابها الاعلامي ولا يوجد لها أصدقاء أو حلفاء بين الدول، فهي تتوخى الموضوعية، وتكون الموضوعية أحياناًسبباً لنفور الأنظمة منها، لكن الأمر لا يخلو من أخطاء، ففي النهاية، من يعملون في رويترز وغيرها هم بشر، ولديهم ميولهم وتوجهاتهم السياسية، وهذا ما يُلقي ظلالاً على صدقية نقل الأنباء.
مشكلات رويتزر في عصر العولمة
بعد هجمات 11 سبتمبر الإرهابية على نيويورك وواشنطن، خاضت وكالة أنباء رويترز في جدل كبير حول تعريف الإرهاب، وطريقة استخدام هذا المصطلح المثير للجدل في أخبارها، لاسيما أن هذا الوصف، بات يحمل دلالات سياسية كبرى. وأصرّت مكاتب الوكالة المركزية على سياسة “المقاربة ذات القيمة المحايدة” فامتنعت عن استخدام هذا الوصف في الأخبار التي تنقلها، ما عرضها لنقد شديد، وأصدرت رويترز تعميماً جاء فيه:
“قد تشير رويترز إلى الإرهاب ومكافحة الإرهاب، لكن دون تحديد، وهي لا تصف وقائع بعينها بهذا الوصف، كما أنها لا تستخدم وصف “إرهابي” دون أسباب توجب اسباغ هذا الوصف على أشخاص ومجموعات بعينها”.
أشد المصادمات التي خاضتها وكالة رويترز في مواقع الحدث، وقعت في العراق إبان وبعد التغيير في 9 نيسان/ أبريل 2003، حيث أنها فقدت 5 من مراسليها في خضم سنوات الغليان، وهم:
تاراس بروتسويوك، أوكراني، قتل في 8 نيسان/ أبريل 2003.
مازن دانا، فلسطيني، قتل في 17 آب/ أغسطس 2003.
وليد خالد، عراقي، قتل في 28 آب/ أغسطس 2005.
نمير نور الدين، عراقي، قتل في 12 تموز/ يوليو 2007.
سعيد شماغ، عراقي، قتل في 12 تموز/ يوليو 2007.
ومن المفارقات، أنّ وكالة رويترز، التي أطلقها يهودي ألماني، قد وجهت لها اتهامات بانحيازها ضد إسرائيل، وجرى هذا تحديداً في تغطيتها لوقائع الصراع الإسرائيلي اللبناني عام 2006 بعد أن وزعت الوكالة صوراً تلاعب بمضمونها المصور عدنان حاج. وسرعان ما أعلنت الوكالة في آب/ أغسطس 2006، أنها قد قطعت كل صلاتها بالمصور المذكور، وأزالت صوره من كل قواعد بياناتها، حسب بيان موجود على موقعها.
وتكرر الموضوع في عام 2010، حيث اتهمت صحيفة هآرتس الإسرائيلية رويترز بمعاداة إسرائيل، حيث عدلت صور الهجوم الذي طال السفينة التركية “مافي مرمرة” في وقائع ما عرف ب “أسطول إغاثة غزة”، بحيث موّهت أو أخفت السكاكين التي يحملها “الناشطون” على ظهر السفينة. وكان الانزال الإسرائيلي على السفينة المذكورة قد خلف 9 قتلى في جانب الناشطين. وردت رويترز في حينها، أن سياستها الدائمة قائمة على قطع حواشي الصور، بغض النظر عن المحتوى الذي يختفي.