خيمة ٌ ، ما الذي أعادني الى زمانها ومكانها ؟
أنيقة من الداخل ، لوحاتٌ على جدرانها الجانبية / ان جاز التعبير / مقاعدُ انيقة هنا وهناك . وخلف حاجز واطيء أسرّة ٌ ومكتبة . أناسٌ يجلسون فوق المقاعد الوثيرة لا على البسط كما الحال في خيم الصحراء . وقبالة فتحتها سوق مُزدحمٌ بالناس والبضاعة . كان صاحبُ الخيمة رجلاً أعرفه من زمن بعيد وأظنّ أنّه لا يعرفني الآن بعد أن شبّ عودي وطالني الكبرُ . جئتُ احلقُ شعري ولحيتي ، بيد أنّه أشار الى ماكنة حلاقة كهربائية : / تستطيع أخذها واستعمالها ، قال / شكرتُه من دون أن آخذها . ومضيتُ أروم الخروج من ذا الزمن السريالي .لكنْ أينما حملتني قدماي فالخيمة تتبعني . كما لو كانت لها قدمان مثلنا . اذن، عليّ تقبلُ الأمر ، . ثمّ صرخ صاحب الخيمة فيّ آمراً، كما لو كنتُ أحد أعوانه : / ستأتي شاحنة ُ الخبز وينبغي أن تساعدهم في انزاله / ولم يكد يُكملُ كلامه حتى عنّتْ الشاحنة ُ أشبه بقلابية أمالت حوضها الى الخلف وتهافتت أكياسُ الخبز ساقطة على البلاط المترب . تلُّ من الخبز الرقيق والثخين والصمون .كان علينا وضع كلّ صنف في صندوق خشب كبير. أنا تكفلتُ بخبز الرقاق ، وآخران تكفلا بالصنفين الآخرين . امتلأ صندوقي المركّب على اربع عجلات صغيرة ودفعته الى مكانه المُحدد . وتلقيتُ كلمة / شكراً / من الرجل الذي اضطلعُ الآن بخدمته . آنئذ ٍ حضر فطور الصبح مع خبز الرقاق . وقبل أن اترك المكان امسك بيدي : / اجلس ، ينبغي أن تفطر معي / جلستُ الى يمينه وما زال مُمسكاً بيدي .أقبل أحدُهم فوضع امامنا على الطاولة الواطئة كوبي الشاي . وانخرط كلانا في تناول الفطور : زبد وجبن وبيض مسلوق : / أتدري لمَ استدعيتك؟ / لا أتذكّرُ انك استدعيتني ، بل مررتُ جوار الخيمة أروم حلاقة وجهي وشعري ، وحين تركتكم لحقتني الخيمة / استغرق في الضحك : / كيف تلحقك الخيمة ، انت لم تبرح مكانك ، بل مجيئك الى هنا كان من تدبيري . لقد أوصتني أمُّك قبل وفاتها أن اعتني بك مثل اولادي / انا اتذكّرك ، وقد محا الزمنُ ملامحك ، فصورتُك الماضية مشوشة غير واضحة / صحيح ، كنتُ اتابع مجرى حياتك واقوم بتصحيح ما اعوج منها ، اتدخل احياناً في مسارها ، حين أكملتَ دراستك الجامعية أطمأننتُ / وأين كان والدي ؟ / انشغل بنسائه ولذاته وحاجاته الخاصة / من اين تعرفُ امي ؟ / هي مُريدتنا وسيدتنا ، كنتُ من تلامذتها المقربين ، نتلقى على يديها العلم والتصوّفَ / أنا بصعوبة أتذكّرُ صورتها ، ولا أذكر شيئاً عن حياتها / اوه ؛؛ كنتَ صغيراً حين توفيت وارسلوك الى القرية تعتني بك عمتُك / اتذكرها جيداً ، وأين كنت طيلة ذلك الوقت ؟ / كنتُ اتابع اخبارك واساعدُ عمتك بكلّ ما كانت تحتاج اليه / لكني جعتُ ولحقني الأذى / لكنك لم تمت ، ففي سنوات الحرب كانت اوضاعنا صعبة ، وكلنا عانينا الجوع والشدة ، وأنا طلبتُ عودك الى المدينة واوصيتُ بادخالك المدرسة لتتعلم وتكمل دراستك /
بعد تناول الفطور ، غادرنا الخيمة وجُلنا في السوق المكتظة بخلائقه وبضائعه . كنتُ ارومُ ترك هذا المكان الذي اصابني بالملل ، لكنْ ، كيف اتركه ؟ .. التفّ نحوي مخاطباً اياي : / بوسعك ان تذهب أو تبقى معنا / وأدار لي ظهره عائداً الى الخيمة ، وحين ازمعتُ على ترك المكان تعذرعليّ ذلك ، فثمة سورٌ طيني عال ٍ يحيطُ بنا ، ولا أعرف أين الباب الذي يرميني الى الخارج . سرتُ بمحاذاته ، يبدو أنه على شكل دائرة مغلقة . اثناء ذلك التقيتُ أحد أعوانه : / تعالَ معي ، همس بهدوء / أدخلني الى الخيمة ثمّ دلني على فتحة مخفية : / بوسعك الخروج من هنا / ووجدتُني بعدئذ ٍ خارج السور ، وعليّ أن اجتاز فضاءً ونهراً ضحلاً سريع الجريان . وأتسلق صخور هضبة عالية ومنها انحدر الى عالمي الذي أعرفه ويعرفني .
……….
هنا مكانٌ آخرُ يختلف عن سواه ممّا أعرفه . لقد اختاروا ثلاثة من بين خمسين شخصاً ، كنت احد الثلاثة . زميلاي يسبقانني ، وأنا متأخرٌ عنهما ، كنا نمضي في ممرّ ضيق يزدحمُ بالحرّاس والبوّابين . الجدران والسقف والبلاط مطلية باللون الأحمر ، اخترقنا بضعة ابواب حُمر. لقد افضي بنا البابُ الأخير الى صالة واسعة أشبه بمطعم ، وقفنا أمام طاولة عالية تكتظ بأصناف الأطعمة ، وبدأت امرأة شرق اسيوية تملأ صحناً كبيراً لكل واحد منا ، والغريب أن الصحن والطعام كانا أحمري اللون ، شرائح البطاطا ولحم الدجاج والسلطة وكذا قدح الزجاج وما فيه من العصير. تُرى ما سرُّ اللون الأحمر ، ثمّ كيف تمّ اختيارُنا نحن الثلاثة ؟ لا أتذكرُ أني تناولتُ شيئاً من الطعام ، بل توقفتُ أمام باب عال يزدحم بزخارف غريبة وكائنات شيطانية الوجوه واوراق شجر عجائبية ، ومنمنات متشابكة كما لو كانت ألغازاً . ثمّ انفرج البابُ ودُعيتُ الى الدخول . كان رفيقي رقم 2 يجلس على كرسي في ميسرة الغرفة وجلستُ انا بناءً على طلب الحارس على يمين الباب . امّا زميلنا رقم 1 فقد غادر الغرفة من باب آخر قبالة باب المدخل . في عمق الغرفة ونهايتها مكتب خشب ضخم أنيق تجلس وراءه أمرأة فوق الأربعين ، وجهها قاس وصوتها متشنج عدواني . سألتني قبل رفيقي : / ماذا تتمنى أن تكون ؟ / لقد فاتني الموعدُ ، ولستُ في سن تسمحُ لي أن اختار وظيفة / الحياةُ ما زالت مفتوحة أمامك / لا اظنّ ذلك ، لقد أديّتُ ما توجب عليّ ، ولستُ في حاجة الى مركز جديد / لماذا جئتَ اذن / هم جاءوا بي واختاروني من دون أن يأخذوا رأيي / حتماً تتمتعُ بخصال مميزة لذلك اختاروك / لقد اخطأوا في تقديرهم ، عمري لا يناسبُ ما تطلبون مني / بوسعك ان تغادر ، لكن نصف سكان هذه المدينة يتمنون ولوج هذه الغرفة / أنا لا افهمك ، دعيني اغادرْ هذا المكان ، اكاد اختنق من سؤالاتك اللامجدية / وما أن رمتني فتحة ُ الباب الى فسحة اخرى حتى جوبهتُ بعدد من رجال الصحافة واكتظت اذناي بالأسئلة : لمَ رفضتَ ذا الامتياز ؟ و..و .. و. يبدو أنّ حوارنا مع المرأة كان يصلهم ثم سمعتُ احدهم يخاطبُ رفيقي الأول : زميلك احمق ُ / لا، صرخ فيه : انه مُحقٌ وهذا رأيه ، فلم لا تحترمون آراء الناس ؟ / نحن موجودون لهذا الغرض . لقد تم اختياركم وفق معايير علمية / لا ، كنتُ عابراً وحسبُ ، فاستوقني أحدهم طارحاً علي بعض الأسئلة واجبته حسب مفهومي ، بعدئذ طلب اليّ ان اقف على جهة اليمين ، وهكذا سيق بي الى غرفتها ، ثم خرجتُ / امّا رفيقي الذي تركته في الغرفة فقد خرج واخترق جمع الصحفيين وأمسك بيدي : / أهنئك ، كنتَ شجاعاً ، ومنحتني شيئاً من شجاعتك لذلك لم اصغ اليها ، بل تركتها من دون ان اجيب على اسئلتها ، وامطرتني بوابل شتائمها / استغرق كلانا في الضحك . قلت له : / ناد على صديقنا فأنا جائع ولنتاول بعض الطعام في هذا المطعم القريب / كنا ، ثلاثتنا نجهل طبيعة هذه المؤسسة . وخلال تناول طعامنا كثر القيلُ والقال في الخارج ، توتّرَ الموقفُ ، وربّما ستفصلُ تلك المرأة ُ من وظيفتها لاخفاقها في تهيئة ثلاثة مُجندين جدد لتعضيد جريان سير المؤسسة . ثمّ سمعتُ رفيقي الأول : / كنتُ اشعرخلال مرورنا : أن كلّ ماحولي مطليٌ بالدم / بل الطعام الذي هيأوه لنا كان دمويّاً ، قال الثاني / . عنذئذ غادرنا المكان بحثاً عن ملاذ آخر نفهمه ويفهمنا ، تنبضُ فيه المشاعرُ والمحبّةُ، لقد ضيعوا وقتنا ، وكان محتملاً أن نُضيّعَ آدميتنا ….