18 ديسمبر، 2024 8:09 م

أسد البصرة …يغازل علي المقري اليماني

أسد البصرة …يغازل علي المقري اليماني

تبدأ هذه الرواية بحوارية تظهر مجالا متنوعا عاش في المجتمع البصري طوال قرون، حتى خلى من المجتمع نتيجة ظروف حالت دون بقائه، جبيلي الذي ارتأى ان يتحدث عن هذا التنوع ، وكيف فشل مجتمعنا في ادارته ، حتى اضحى مجتمعا هزيلا فقد جوانب مضيئة كثيرة منه ، على مر عقود واجيال، (موشي وهيلا) وهما اخر من تبقى من اليهود في البصرة بعد دخول البريطانيين للبصرة في 2003، واسقاط نظام البعث فيها، وتبدأ الحوارية في دعوة (هيلا) ل(موشي) لمغادرته البصرة الى اسرائيل خوفا من المليشيات والمتطرفين ، في حين تدعو (ميساك) وهي خالته وهي ارمنية الى الهجرة الى ارمينيا بعد ان بينت له اضطهاد اليهود للارمن في اسرائيل.
اذن نحن امام تنوع ديني عرقي واسع (ارمن ، مسيح، يهود)و موشي هو خليط من هذه الاصناف الثلاثة التي تتحدث العربية والعبرية والارمنية سوية .
ونجد في خضم الحوار اللهجات التي تتحدث بها هيلا وميساك ، كذلك نجد مفاهيم عدة وردت في الرواية ضمن الحواريات ( النظام السابق ، شعاراته الجوفاء(من زاخو الى الفاو) دلالات اللحمة الوطنية الكاذبة ، المطربوون والشعراء الشعبيون وشيوخ العشائر ودورهم السيء في الترويج لهذه المفاهيم في ذلك العصر )
موشي يخاطب (ماريو فارغاس يوسا) بما حصل في عهد النظام السابق قبل 2003 ويحدثه عن : حلبجة، المقابر الجماعية ، اطفال اللوكيميا.
حواريته مع (يوسا) الافتراضية تبين انه كان يحتفظ بصورة الروائي (يوسا) مع (شمعون بيريز) فمزقتها (هيلا) لان (صدام) انذاك كان يبحث عن قطعة ارض مجاورة لاسرائيل لاحراقها، والروائي جبيلي هنا يحاول ان يبين المهاترات التي كان نظام البعث السابق يرددها دوما بداعي القومية ومفاهيمها الفارغة .
زمان الرواية يتحدث ابان دخول القوات البريطانية للبصرة في 2003م.
ان (هيلا) عمة (موشي) تطالبه كما بينا بالسفر الى اسرائيل بعد ان ايقنت ان البقاء في العراق بعد 2003 وفي البصرة بالتحديد سيكون صعبا وانهم سيذبحون في النهاية ، فهي تريد اقناعه بالسفر وهو معارض ، وفي خضم تصاعد النقاش بينهما نراه يغلق الباب ويخرج ذاهبا الى شخصية جديدة في الرواية وهي خالته الارمنية (ميساك) والمكان هنا يدور ما بين (البصرة القديمة والعشار) حيث: (موشي) يسكن البصرة القديمة، حيث سكن اليهود قبل مغادرتهم العراق نهائيا وخالته (ميساك) تسكن (العزيزية ) في العشار ، وهاتين المنطقتين معروفتين لاهل البصرة ، وتركيز جبيلي على اسماء المناطق التي تدور بها احداث الرواية في البصرة لهو مهم جدا ، لترسيخ اسماء منطاق البصرة التي اهملت كثيرا في الروايات العراقية او حتى الاعلام العراقي، حيث نجد ان الاسماء القديمة لمناطق بغداد هي الثيم المهيمن في الروايات والاعلام ، ويأتي جبيلي في هذه الرواية موردا الاسماء القديمة لمناطق البصرة ومبتصرا بها والغرض واضح لترسيخ المكان في الاذهان .
(ميساك) خالة( موشي) وهي ارمنية كما اوضحنا وتتحدث الارمنية ، و(هيلا) عمته علمته :اللهجة اليهودية وهي قريبة تماما من لهجة (اهالي الموصل) اللهجة اي :لهجة اليهود العراقيين عندما يتكلمون العربية ، والا فان لغتهم الام هي العبرية ، و(موشي) لم يتعلم(العبرية) الا انه اتقن بعض الشيء اللغة الارمنية ، وهنا يورد جبيلي بعض المفردات باللغة (الارمنية) حيث الحوار الذي يدور بين (ميساك) و(موشي)الذي جاء لزيارتها: (اوف ايه) (من الطارق) ؟ (يسم موشي) (هذا انا موشي)
ويطالبها بالتحدث بالعربية بسبب الوضع الامني وتفشي ظاهرة السرقة والسطو المسلح على المنازل.يتطور الحديث بين (موشي وخالته) وهنا يبدأ تصوير معاناة الارمن المسيح بعد ان صور معاناة بقايا اليهود في البصرة ، حيث ناولته ميساك بعض عناوين الصحف (اغتيال مترجمين ارمنيين من قبل ميليشيات في البصرة) ،( مقتل مسيحي وشقيقته والاستيلاء على دارهما في البصرة) وهذا الخبر التقريري المباشر بالتحديد هو واقعي تماما واخذه جبيلي من الواقع حيث حدث في منطقة (بريهة) في البصرة وكذلك مقتل فتاتين مسيحتيين احداهما ارمنية قتلتا ورميت جثتهما في مكب للنفايات تعملان في القاعدة البريطانية في المطار، ها هو ضياء جبيلي يسلط الضوء وبشكل شجاع على حوادث وقعت للاقليات المسيحية ، بالتالي هو يضع تاريخ لما يحصل وحصل في هذه المدينة من سوء تجاه الاقليات ولكن بصورة تقريرية مباشرة ، كأنما تقرأها عبر صحيفة وهي مسجلة تسجيلا .
وبعد ان دعت (هيلا) ابن اخيها (موشي) للهجرة الى اسرائيل حيث شرع(بعض عملاء الوكالة اليهودية في البحث عن بقايا اليهود البصريين ممن لم يهاجروا الى اسرائيل) هاهي خالته بنفس الحين تدعوه للهجرة الى ارمينيا عبر منظمة سرية اسمها(ايسوس) مهمتها مساعدة الارمن على الخروج من العراق، وهاهي تدعوه لعدم الذهاب الى اسرائيل وتبين له كيف ان اليهود يضطهدون المسيح الارمن في القدس وعبر قصاصات اخر .(الحكومة الاسرائيلية ترفض المصادقة على اختيار بطريارك جديد للارمن في القدس)
(تقرير يقول ان كل راهب او راهبة من الارمن يتعرض للبصق يوميا) .
وبعد ان بينت لها انها متطرفة ايضا ، اهانته وامرته بالتأدب ،والتطرف الذي عناه (جبيلي) على لسان (موشي) ان (موشي) من(اب يهودي وام ارمنية) فخالته (ميساك) تبرات من امه (نوفا) بعد ان تزوجة يهودي وهي مسيحية ارمنية ، نحن اذن امام اشكاليات عدة يضعها (جبيلي) لنا ،فموشي اليهودي يتحدر من اب يهودي وام ارمنية وهو لا يتقن اللغتين الارمنية والعبرية سوى اللغة العربية في ظل عيشه في محيط عربي واتقانه للهجة اليهود العراقيين العربية .
ان رواية (اسد البصرة) بثيمتها الرئيسية هي رواية شبيهة كثيرا برواية(علي المقري) (اليهودي الحالي) التي تشير الى (سالم اليهودي) الذي تزوج من فاطمة(المسلمة) وكان الوليد هو (سعيد) الذي اعتبر يهوديا حسب التقاليد الاسلامية ومسلما حسب اليهود لانه يتبع عقيدة امه وهنا اود ان ابين اوجه الشبه الكبير بين الروايتين من خلال الثيمة الرئيسية التي تبناها ضياء جبيلي وعلي المقري:
اسد البصرة تتحدث عن (موشي) اليهودي من ام ارمنية واب يهودي.وعلي المقري يتحدث عن (سعيد) الذي تزوجت امه فاطمة المسلمة من سالم (اليهودي) فانجبت (سعيد) وسعيد حسب تقاليد اليهود الحقوه بامه وهو ويهودي حسب المسلمين حيث يلحقونه بدين ابيه.
تسرد(رواية اليهودي الحالي) قصة حب وقعت بين سالم وفاطمة ، افضت الى زواجهما وانجابهما سعيد ، في حين تسرد رواية(اسد البصرة) قصة حب وقعت بين (والدموشي)(افائير ) اليهودي ووالدة موشي المسيحية الارمنية (نوفا) وقد تبرات منها اختها (ميساك) كما تبرا اهل فاطمة في رواية (اليهودي الحالي) منها لزواجها من (سالم) اليهودي.
تجسد الرواية لعلي المقري الظلم الذي تعرضت له الاقلية اليهودية في اليمن، وتجسد قصة (اسد البصرة) الظلم الذي تعرضت له الاقلية اليهودية في العراق عموما وفي البصرة خصوصا.
رفض(سعيد بن سالم) في رواية (اليهودي الحالي) ان يرى من طرف اهل والدته المسلمون كونه يهودي ،وكذلك رفض ان يربوه اليهود كونه مسلم حسب اليهود، و(موحي) في رواية (اسد البصرة) تم رفض تربيته من قبل (ميساك) خالته المسيحية كونه يهودي، وكذلك رفضت عمته تربيته كون اليهود قد اسقطت عنهم الجنسية ( صار من شبه المستحيل على البقية الباقية من اليهود تسجيل اولادهم كعراقيين) وهكذا.
اسد البصرة تتناول تهميش اليهودوكيف تمت محاربتهم في العراق واسقاط الجنسية عنهم، على الرغم من كونهم مواطنين اصلاء في البلد. كذلك يرى(علي المقري) في (اليهودي الحالي) ان المجتمع اليمني همش اليهود على الرغم من كونهم يمنيين ، حيث ان المجتمع في اليمن لا زال متمسكا بالاعراق والانسان والاصول.
ان التناص الذي وقع به (ضياء جبيلي) في اسد البصرة مع رواية (اليهودي الحالي) لعلي المقري يجعلنا امام اشكالية كبيرة في تحليل الموضوع في سبب هذا التناص في الفكرة ، فهل كان الاستاذ ضياء جبيلي متأثرا برواية (اليهودي الحالي) ام ان التناص جاء وقعا بالخاطر ليس الا.
تم تبني موشي من قبل (جمال وحنان) وهما مسلمان ولا يوجد لديهما اطفال .( موشي، خاجيك، أمل)هي الاسماء التي اطلقت على (موشي) وهي على التوالي (يهودية عبرية ، ارمنية مسيحية ،اسلامية عربية) فجمعت ثلاث قوميات مع ثلاثة اديان ، فهو موشي الذي يمثل كونه يهوديا من جهة الاب عبرانيا كقومية ، وخاجيك وهو الاسم الذي يمثل كونه مسيحيا كديانة ، وارمنيا كقومية من جهة الام، و(امل) وهو الاسم الذي يمثل كونه مسلما من جهة الديانة وعربيا كقومية من جهة التبني من قبل (جمال وحنان) فموحي اصبح معادلة صعبة في ظل متغيرات (قومية ، دينية) .
لقد عاش موحي وميساك تحاول تنصيره وجعله مسيحيا ، و(هيلا) عمته تحاول تهويده ، وهذا ما ظهر على كلماته الدينية التي استخدمها وهو في بدايات حياته، صغيرا، وايضا عاش مع جمال وحنان اللذان سخرا تمكانيات عدة لجعله مسلما، حيث عملا على تحفيظه قصار السور والمعوذات.وهنا نرى هوس الهوية والحديث عنها باشكالاتها المترامية ، فمن هوموحي ؟ خاجيك؟امل؟ وهكذا هوية متشظية ومتوزعة بين ثلاث قوميات او اديان ….
المكان له حضوره في رواية (اسد البصرة) حيث ان الاحداث تدور ما بين (البصرة القديمة، العشار ، منطقة العزيزية، شارع الوطن وبالتحديد اسد بابل) شط العررب ،وهكذا نرى (امل ، موحي، خاجيك) متنقلا بين اماكن البصرة وأزقتها.بمعنى ان الرواية اخذت طابع المكان وهو البصرة هنا، ابتداء من اسمها (اسد البصرة) الذي اشار الى هذه المدينة التي اغفلها الزمان.
والمكان هو الفضاء الذي تتحرك فيه الاحداث والشخصيات وتنصبغ بصبغته. فالزمان والمكان هما (مفعول الرواية الذي يتعدى اليه فعلها ليرصد تحولاته وهما الفاعل الذي يمارس فعله في الرواية في الوقت نفسه) وهكذا كان المكان في اسد البصرة .
كما ارى ان الروائي اخفق في حديثه عن (امل) في وصفه للنظام البعثي السابق، حيث يتحدث عن حرب الثمان سنوات مع ايران ومعاملة صدام لشعبه” محاولة تصدير تلك الثورة الى العراق، من خلال اية الله محمد باقر الصدر الذي قتل في اثرها، مع شقيقته في سجون السلطة ، التي شنت بعدها حملة اعتقالات وتصفيات وساعة ودامية في صفوف الشيوعيين والاسلاميين الشيعة” وهنا نؤاخذ الروائي على قضيتين اساسيتين:
ان ذكر نظام صدام اشبعنا واتخمنا منه، والروائي الذي لا يغادر هذه المنطقة الزمنية كمن يتحرك في حلقة مفرغةة ، وكمن يتجه نحو زمن، لن يعود أشبع كتابة وسوف لن يغير لنا شيء بذكره وذكر رموزه، واعجب من الاستاذ ضياء ان يشير الى (محمد باقر الصدر) وشقيقته فحسب اللذان اعدمهما النظام الطاغية ولم يشر الى غيرهما .
ان حملة التصفيات التي سنتها سلطة صدام لم تقتصر على الشيوعيين والاسلاميين الشيعة ، بل تعدتهما الى الجميع من كورد وسنةوان بدرجات متفاوتة ، بل حتى البعثيين ممن خالف نهجه وسياسته، وهذه مغالطة تحسب على الروائي اثناء حديثه عن استبداد ودكتاتورية الطاغية . كما ان ما طرحه في هذه القضية بالتحديد فيه مباشرة وتقريرية واضحة المعالم تماما، ولكانك تقرأ نصا في صحيفة وليس في رواية.
كما تلاحظ التكرار نتيجة الاسهاب في بعض الفقرات فمثلا يكرر صورة معينة مرتين في اقل من خمسة اسطر ، في نفس الصفحة وهذا ما نلحظه في ص84 من الرواية حين يكرر قضية احتماء البصريين تحت السلم في حرب الثماني سنوات مع ايران، اثناء القصف المباشر يقول جبيلي” بين احدى المرأتين اللتين لم تخالف عادات البصريين مجتمع لا تتوفر في بيوتهم السراديب والملاجئ بالاحتماء تحت السلم ”
ويرجع جبيلي مرة اخرى ليقول بعد ثلاثة اسطر ” حتى تهرع مسرعة وتختبئ تحت السلم الصاعد الى السطح ، المكان الذي طالما لاذ به البصريين كلما تعرضت المدينة الى القصف اثناء الحرب” (ص84، الرواية)
وهذا تكرار ينبغي الا يقع به الكاتب لانه يضعف من النص السردي عموما.
كما نلحظ في الرواية انها لا تركز على الحوار بين الشخصياتبل على الية الوصف ، على الرغممن وجود حواريات كثيرة نلتمسها في الرواية بين الحين والاخر.
ويناقش الكاتب مناقشة رائعة في بابها موضوعة ( صراع وصدام الاديان )عبر حوارية بين (ميساك وهيلا) حيث تتهم(هيلا) المسيح بادعاء التسامح وتذكر (ميساك) باية السيف في الانجيل ،وتذكر (ميساك) (هيلا) بأن العهد القديم ممتلئ بالغاء الاخر وانه يعتبر اليهود هم افضل الخلق.
اما (جنان) المتبنية ل(موحي) فعندما كانت تستمع للحوار فانها تدافع عن القران وذلك لان (ميساك وهيلا) تشرحان ل(امل=موحي) ان القران والاسلام هو دين عنف والدليل على ذلك : ايات القتل والجهاد التي تملؤه ، بالتالي فان (صدام الاديان) يبينه (ضياء جبيلي) بصورة واقعية وبوصف دقيق لنظرة اصحاب كل دين للاخر ، اننا امام رؤية مخيفة لصدام الاديان، داخل البيوت نفسها فكيف اذا تحول نحو المجتمعات وكل هذه الافكار تحددها المصطلحات التالية :
(التحدي، المباهاة، الطعن، القدح، التبرير ، التأويل، التهويل، الانكار، التفنيد، تبادل الاتهامات التاريخية ) فعلا فان جميع الاديان، تقف على هذه الرؤى وتستلهم منها الافكار، فالتحدي موجود لدى جميع اتباع الديانات والمباهاة ايضا، والطعن والقدح بالاخر المختلف، وكل هذه المصطلحات تؤدي الى الغاء الاخر ورفضه رفضا قاطعا مستمرا . (امل ) اليوم حسب الرواية هو شاب ممزق فكريا تلاحقه الافكار يمينا وشمالا جاعلة منه احجية تتناقلها الايام نتيجة ظلمة وعتمة الافكار الذي اخلنه فيه(ميساك،هيلا، حنان) وجعلا منه (خاجي، موحي، امل) وكل منهم ليس على خط واحد، كما ان الخطر الاخر هو حب(نسرين) اخته في الرضاعة اليه، فهي تعشقه وتريد ممارسة الجنس معه، الا انه يرفض لانه يعتقد انها اخته، حسب التعاليم الدينية الاسلامية ، حيث رضع معها نفسها، اللبن فهي اخته ، ويحاول بشتى الطرق ان يهرب منها، ولكنها تطوقه وتستمر بفعلتها وها هو يقاوم الاغراء في كل مرة ، بالتالي يعرض الروائي حالة اجتماعية ، فمع ثقافته العالية ولا ادريته وعدميته، وعلمانيته الا انه متمسك بأنها اختهمن الرضاعة الى ان قالت له يوما (انها كافرة) بمعنى كافرة بهذا التحريم وبالدين ودعته لممارسة الجنس معه حتى اذا وقعت اللحظة وحانت رفضها وبشدة وضربها واهانها وفي باله اسطورة الاسد(اسد بابل) التي سمعها في صغره ، فالاسد قد تحول الى حجر لانه مارس الجنس مع اخته وهو لا يريد ان يكون مصيره حجرا .
ان مزاوجة الاسطورة مع الدين ضمن هذا المخيال يعطي انطباعات معنى الخيال الجامح الذي يبحر فيه (جبيلي) لاعطاء الرواية بعدا معرفيا اخر ويجعل منها ذات مناخ خيالي.بانطباعات اخر.
ثم تنتقل الرواية الى مفهوم (اللاوعي الجمعي) وهذه اشارة مهمة يوجه من خلالها جبيلي ان السير مع الجمع ضمن اللاوعي هو اسوء مؤشر في تخلف المجتمعات وهذه معالجة اجتماعية يقدمها ضمن رؤيته (كان امل من جملة اولئك الذين لا يملكون لانفسهم على الرغم من رفضهم الحرب، سوى المضي مع القطيع محبطين، يائسين ومسلوبي الارادة يقودهم موت وشيك، شيوعيون ، اسلاميون ملحدون ، وجوديون، عدميون، لا ادريون)والسير مع القطيع مشكلة كبرى ، الا انني ارى ان وصف (ضياء جبيلي) لقضية السير مع القطيع وتسقيطها على الحرب العراقية الايرانية لم يكن جبيلي موفقا فيه ،فالحرب ارادة الدكتاتور ،وما كان للناس قدرة على الوقوف بوجهه، فما كان منهم الا ان ينصاعوا لها بقضها وقضيضها ، بالخوف والوجل ، وليس الانقياد الاعمر كما صوره جبيلي، فالسير مع القطيع يتوجب ان يكون من شروطه فكر ويسير الجميع خلفه دون ضغوط معينة ، ليس حرب سجرها لهم طاغية وامر بجلاوزته الناس الانصياع لها ولشروطها، فهذه ليست مسيرة قطيع بل حرب مفروضة فرضها الدكتاتور واوجب على الجميع (شيوعيون، عدميون، وجوديون، اسلاميون ) ان يدخلوا فيها والا سيكون مصير المتخلف القتلب (جبيلي ) هنا لم يكن موفقا ابدا في وصفه ل(امل) بانه يسير مع القطيع ضمن مشاركته في الحرب العراقية الايرانية ، فالحرب المفروضة ، والسير مع القطيع يستوجب فكرا لا يقاومه امل وهذا ما لم يحصل ، اي ان قضية اللاوعي الجمعي التي ارادان يلمح لها ضياء لم يكن لها وجود اصلا.
تبقى الرواية منشدة تماما الى مناطق البصرة وازقتها ، هذه المرة ( كنيسة مريم العذراء) للارمن الارثذوكس في البصرة القديمة اذ تذهب ميساك تصلي لاجل (خاجيك) .وبهو الادارة المحلية ، الكورنيش حيث تلتقي نسرين مع مشغل الافلام(وليد) الذي وسمته امها (الاعور) وهو لم يكن كذلك لان مشغل السينما في مخيلة الناس جميعهم اعور وهذا ما لم يك صحيحا فالوضع يشبه ان جميع انواع الرز بنظر العراقيين (تمن) في حين ان (تمن) هي (TEN MEN) عشرة رجال ،
(ماركة) .
كانت (نسرين) تذهب للسينما دون ان يكون ذلك مدعاة لاستغراب الرجال، ممن لم تفقدهم الحرب وعسكرة المجتمع والثقافة سمات الستينيين والسبعينيين وانفتاحهم، وهذه اشارة مهمة ، اذ فقد المجتمع انفتاحه بسبب الحرب وعسكرة المجتمع والثقافة الدينية بنظري هي التي يقصدها الروائي لانه لم يشر الى الثقافة التي افقدت الناس انفتاحهم وبالتحديد ما كان يحصل في عام 1960 والسبعينيات من القرن الماضي.
وللذكرى وصف دقيق لدى الجبيلي ، ف(نسرين) ماذا تتذكر من (امل) عندما رأت جثته عندما جاؤوا به من الجبهة ظنا منهم بموته” طفولتها معه ، عشقها الصبياني المحرم، صدره، دفئه ، ملمسه، نبضات قلبه المتسارعة ، قرقرة امعائه، تمتماته بالادعية العربية واليهودية والارمنية ، طعم لحمه، رائحة قمصانه، فراشه، خربشاته، خشخشة الصور الاباحية تحت وسادته” الملاحظ لهذه الصور فالروائي لم يترك مجالا للتذكر الا ووضعه ابتداء من ملمسه، وليس انتهاء بالاديان الثلاثة التي اعتنقها (اليهودية ، المسيحية ، الاسلامية) ومع هذه الاستذكارات فان (نسرين) تهرب بطريقة واقعية تماما مع وليد، ويسهب (جبيلي) في وصف الحرب(العراقية – الايرانية) حيث تأخذ الحرب مكانة كبيرة في الرواية ، علما ان الحرب العراقية الايرانية تناولتها الكثير من الروايات فلذلك يعد الخوض بها تجربة تصب في التكرار.
ويناقش الروائي جبيلي مرة اخرى بعض مساوئ نظام صدام حسين هذا الموضوع الذي اشبع بحثا وكتابة ووصفا، وكأنه لم تعد هنالك مواضيع يناقشها الروائيون الا نظام البعث وحزبه ورموزه ، فهو يناقش عبر نسرين كيف راها عدي صدام في احد الحفلات وكيف دعاها لاحياء احدى الحفلات في (نادي الصيد) ببغداد وارى ان الخوض في هذه المواضيع انما هو تقرير مباشر لما حصل في تلك الايام ، فالجبيلي يذكر حرب العراق وايران ثم يعرج على حكم صدام وابنائه ثم يعرج على حرب الكويت ويتحدث عن كل هذه الامور بصورة تقريرية مباشرة ليس فيها اي خيال ادبي او صورة اذ يذكرها كما تقرا خبرا في صحيفةة ” تزامنا مع اعلان صدام حسين اعتبار الكويت المحافظة التاسعة عشر” ويبدأ بشرح تقريري مباشر احداث حرب الكويت وبشكل واقعي يخلو من الاسلوب الادبي الابداعي ، ثم يرجع ليسرد الحصار الاقتصادي وبمرارةجربها جميع العراقيين(جوع، عوز، حرمان، موت) ويسردها كأنما تقرأها في صحيفة وليس رواية ” منذ الافراج النسبي الذي حصل في عام 1996م، بعد توقيع مذكرة التفاهم بين العراق والامم المتحدة –النفط مقابل الغذاء والدواء- حتى بدأ معاودة نشاطه الادماني تدريجيا” فهذه صورة واضحة مباشرة ليس فيها خيال او تقديم بصورة اخرى .
حتى في وصفه للبصرة في رسالته المعنونة الى (نيتاليتاريس) فهو يصفها وصفا ليست فيه رؤية خيالية (انها ببساطة مدينة استراتيجية والمرفأ العراقي الوحيد المطل على الخليج…الخ.)
يورد ضياء جبيلي بعض الكلمات والتراتيل على لسان (نوفا) يقول عن هذه التراتيل(يبدو انها سريانية) (سود هويلخ)(اسوانه الهي هويلخ) وفي اعتقادي انه سيكون موفقا لو كان قد قال (يبدو انها كلمات ارمنية) ويختار كلمات ارمنية ، لان السريان بعيدين كل البعد عن الارمن فليس من المعقول ان (نوفا) الارمنية وان كان في الحلم تترنم بصلوات سريانية ، بل المفروض انها تترنم بصلواتها بلغتها الارمنية . بعد فترة ايضا يبين الروائي ان ابوا (موشي) بالتبني جمال : سني مدفون في مقبرة الزبير وحنان : شيعية مدفونة في مقبرة النجف. وفي رد الممثلة الشمهورة على رسالة موحي لها يهيء لي ان في الرسالة اشكالية كبيرة ، انها رسالة بريدية بالبريد الاعتيادي حسب الزمن الذي ارسلت به في التسعينيات وليس من المعقول ان يكتب شخص رسالة في البريد الاعتيادي ويضمنها عبارة (حسنا ، اشعر بالاعياء ، علي ان اخلد للراحة الان) هذه العبارة يصح ان يكتبها شخص في الماسنجر عبر الفيس بوك او الواتس اب ، لان الانسان عندما يكتب عبرهما يكون بشكل مباشر مع الطرف الاخر وفي بعض الاحيان يعتذر للطرف الاخر الذي يكلمه عن الاستمرار بالكتابة لهم بمثل هذه العبارات التي يبدو ان ضياء جبيلي لم يستطع التخلص منها وهو يتحدث عن رسالة مرسلة بشكل بريدي ومكتوبة على ورق في كانون الثاني/2001 ، حيث لا انترنت واضح المعالم انذاك، وحتى مع وجود الانترنت الا انه لا توجد برامج تراسل مباشرة في العراق انذاك ، وكذلك الرسالة مكتوبة على ورق ، لذلك يهيء لي ان الجبيلي عندما كتب هذه العبارة خلط بين المشاعر التي يكتبها الكثير منا اليوم عبر الماسنجر في عصر الانترنت وليس من الصحيح استخدامها في رسالة مكتوبة على الورق(علي ان اخلد للراحة الان) وهي مرسلة في البريد الاعتيادي فهي تصل بعد عشرين يوما الى الطرف الاخر فالطرف المقابل ليس معنيا بهذه التفاصيل البسيطة التي تحدث له اثناء كتابة الرسالة ، فهو يكتبها براحته وبالزمن الذي يريد فما معنى (علي ان اخلد للراحة الان) هذه العبارة زجت في الرسالة ولم يكن الروائي موفقا في ايرادها. وعموما انك عندما تقرا هذه العبارة لموحي فكأنك تقرا رسالة واردة عبر الفيس بوك وليس عبر رسالة ورقية سترسل بالبريد الاعتيادي.
اما في القسم الثالث من الرواية نقرأ مجموعة من الاخبار التي سبق، وان رايناها في شاشات التلفزة او قرأناها في الصحافة او وردت على اسماعنا اثناء حدوثها ، يكتبها جبيلي بصورة تسجيلية حيث يبين بالتاريخ ما حصل من حرب 2003م (الخميس 20/3/2003) انتهاء مهلة ال48 ساعة التي حددها الرئيس الامريكي جورج بوش، بعد كل خبر من هذه الاخبار التي بالامكان اعتبارها اخبار غيرت من مسار الرواية الى رواية تسجيلية سجل من خلالها الجبيلي ما حصل في تلك الايام العصيبة على العراقيين، يتخلل هذا التسجيل الواقعي التقريري حوارات وصور يوميات ميساك وهيلا اثناء الحرب وباللهجة العامية والحوارات مرة بينه وبين هيلا، ومرة مع ميساك وكلها تدور بمدارات حرب 2003 ، وهذه التسجيلية التي ختمت بها الرواية تتسم باقحام التواريخ الزمنية والمزاوجة بينها ، فمثلا نراه يتحدث عن اقتحام الامريكان للعراق في 2003 وفي نفس الوقت يقرأ رسالة كانت قد كتبتها اخته بالرضاعة بتاريخ 3/4/1991 ويعيش تفاصيلها اثناء سرد الروائي وتسجيله لوقائع حرب 2003 ، فيما عدا ذلك تتقافز حواريات من جانب عمته هيلا له ولا تجد لها جوابا بسبب انشغاله بالقراءة لهذه الرسالة القديمة، والجميل بعد هذا يتبين ان التي كان يراسلها (نيتا المقنعة) هي نفسها نسرين هذه المرة يكتب لها رسالة ولكن بصورة مباشرة وبأسمها الصريح(نيتا) هي( نسرين) ويستمر في التسجيل للاحداث التي حصلت ، حيث نجد الخبر التالي:
(ديك هراتي عراقي ينقر عين جندي امريكي ويقتلعها اثناء التقاط صورة تذكارية معه ، بعد تغلبه على ديك اخر في احدى حلبات مهارشة الديكة في سوق الغزل) وهذا الخبر نفسه الذي اورده جبيلي في روايته ، بنى عليه القاص وحيد غانم نصف روايته (الحلو الهارب الى مصيره) حيث استعمل الديك الهراتي كونه ديك عباس الاعور وهو الذي قلع عين المجند الامريكي وعلى اثره هرب (عباس الاعور) من اعين المجندين ونسج وحيد روايته على الحادثة ، وهو نفسه الخبر الذي قراه امل في الانترنت في رواية (اسد البصرة) .
وترد اشارات بسيطة في نهاية الرواية عن احداث 1991 التي اعقبت احتلال العراق للكويت اذ يصف بعضا من احداث(الغوغاء) او(الانتفاضة) حسب تسميات اخر.
في ختام الرواية نجد ان الجبيلي:
ينهيها بما ابتدأه من ان امل يريد مقابلة غارسيا.
المشادات والحوارات مع عمته(هيلا) ما زالت كما ابتدا الرواية (اغوح على ماريو هو الوحيد يفهمني)
غوح على جهنم.
لا يخفي ضياء جبيلي معاداته لاسرائيل : اي اغوح على جهنم يرد على عمته بمزيد من الغضب (هذا احسن من ما اغوح على اسرائيل)
نسرين ليست لها وجود في حياته بعد اختفائها المفاجئ حيث انتهى به الامر في بيت عمته هيلا وما رؤيته لنسرين فيما بعد الا محض خيالات كانت تشوبه فهي ليست المقنعة كما ظن هو (بيتا) بل انها كانت في طريقها للهروب مع زوجها وليد الا انه اختفى في احداث 1991
يستمر حتى نهاية كتابته للرواية بالتسجيل التقريري لما ال اليه الوضع العراقي بعد احداث 2003.