من خلال عبارات متناثرة قليلة، وصور فوتوغرافية أقل، تجمع إيمانويل ماكرون الشاب بهما، يتبدى أن رئيس الجمهورية السابق فاليري جيسكار ديستان ورئيس الحكومة السابق ميشال روكار أستاذا الرئيس ماكرون.
فالخط الوسطي الذي يقول به، والذي بنى على أساسه حزب «إلى الأمام» (الذي صار لاحقاً «الجمهورية إلى الأمام»)، يلوح كأن ديستان وروكار مؤسّساه ومصدرا استلهامه: أولهما من موقعه في اليمين الليبرالي، والثاني من موقعه في اليسار الاشتراكي.
فديستان، البالغ اليوم 91 عاماً، هو الذي تولى رئاسة الجمهورية بين 1974 و1981، وقد سُمّي مذّاك «الرئيس الوسطي»، بعدما سُمي طويلاً «السياسي الوسطي». فقد تحالف مع الديغوليّين إلا أنه لم يكن منهم، كما كانت أشرس معاركه الانتخابية ضد المرشح الاشتراكي، والرئيس اللاحق، فرانسوا ميتران. الديغولي جاك شيراك والاشتراكي ميتران نافساه في جميع معاركه الرئاسية، وفي النهاية هزمه الأخير في انتخابات 1981.
عن اليسار الاشتراكي فصلت ديستان مسألة الحرية، وعن اليمين الديغولي تميز بليبرالية أكبر كثيراً في ما خص مسائل الطلاق ومنع الحمل والإجهاض.. الخ. وكان أكثر ما أثار الديغوليين ضده تمريره السماح بالإجهاض كما وضعت قانونه الوزيرة الليبرالية سيمون فايل. هذا فضلاً عن معارضته التصويت ديغولياً في استفتاء 1969 الذي رهن الجنرال استمراره في الحكم بنتيجته.
هذا التوجه الليبرالي حافظ عليه على الرغم من الأزمة الاقتصادية التي رافقت عهده، والتي افتتحها الارتفاع الهائل لأسعار النفط في 1973.
إلى ذلك، تتّضح تلمذة ماكرون على ديستان (المثقّف والعضو في «الأكاديمية الفرنسية» منذ 2003) في وجهين: تمثيله التكنوقراط والبورجوازية الصغرى الجديدة التي توسّعت في النصف الثاني من الستينيات، وباتت تضيق بأبوية شارل ديغول. وأوروبيته الحاسمة، حيث ارتبطت باسمه قمّة رامبوييه في 1975 التي انبثقت منها «مجموعة الستّة» (ثمّ بعد انضمام كندا، صارت «مجموعة السبعة»).
ميشال روكار، المتوفى في 2016، كان أيضاً مثقفاً. طوره اليساري الأول في عهد شبابه ليس أقل جذباً لشاب كماكرون من طوره الوسطي الثاني. فهو حينذاك خالف الاشتراكيين وقائدهم «غي موليه» بسبب سياستهم في الجزائر، وقد انشق ليشارك في تأسيس «الحزب الاشتراكي الموحد» الذي تولى قيادته في 1967. بعد عام واحد، نشط، هو وحزبه، في مناخ الثورة الطلابية التي باتت تعرف بـ«مايو 68»، بوصفها اعتراضاً على فرنسا الديغولية العتيقة والأبوية.
لكنه، منذ 1974، انضم إلى الحزب الاشتراكي الذي أعاد فرانسوا ميتران تأسيسه. مذاك ربطته علاقة متوترة مع ميتران، بعضها مصدره التنافس الشخصي، وبعضها متأتٍّ عن خلافات سياسية وإيديولوجية. فروكار صُنف قائد «الجناح اليميني» في الحزب الاشتراكي، وقد اعترض بشدة على برنامج التأميمات المشترك مع الشيوعيين الذي اعتمده العهد الميتراني في بدايته، مطالع الثمانينيات. كما لم يكفّ أيضاً عن الدعوة إلى تجاوز الانقسام القديم إلى يسار ويمين، مدافعاً عن الاشتراكية الديمقراطية الاسكندينافية واقتصاد السوق والحد من قوة الدولة لصالح لامركزية أكبر.
صحيح أنه تولى عدداً من المقاعد الوزارية في عهد ميتران، كما تولى رئاسة الحكومة بين 1988 و1991. لكن تلك التجارب لم تفعل سوى زيادة الجفاء بين الاثنين. لقد قيل بحق إن ميتران، وبكثير من الدهاء، فعل كل ما في وسعه لسد الطريق أمام روكار، بحيث لا يتزعم الحزب الاشتراكي ولا يتحول مرشحاً عنه إلى رئاسة الجمهورية.
ومما يُحفظ لروكار أنه، إبان رئاسته الحكومة، أوجد برنامج الحد الأدنى الاجتماعي من الرفاه، بما يساعد الفئات الاجتماعية الأفقر والأضعف، كما كان أوروبيّاً متشدداً، فشغل مبكراً عضوية البرلمان الأوروبي ورئاسة عدد من لجانه.
من دون هذين الوجهين السياسيين، ديستان وروكار، لن يكون سهلاً فهم ماكرون. هذا في النظرية، أما في التطبيق والقدرة عليه فقد تختلف الأمور.
* نقلا عن “الاتحاد”