23 ديسمبر، 2024 4:05 م

أساطير وقصص من مدينة  الناصرية

أساطير وقصص من مدينة  الناصرية

1/ غني سيزيف القصاب
المرحوم غني ظاهر القصاب ، يختفي مع ثمالة رأسه بخمرة المستكي  احدى عشر شهر في السنة ، ويبقي شهرا يصوم فيه لان لديه مهمة يعتز ولا يتازل عنها لغيره ، وهو انه طوال ايام محرم وعاشوراء يحمل هودجا حديدا مصنوع على شكل سفينة والمليء بالمصابيح الملونة بوزن اكثر من مئة كليو غرام .يحمله من خلال حديدة ترتبط بحزام حول بطمه وسير به ليلا امام كوكب اللطم او الزنجيل ، يمشي لأكثر من 200 متر ثم يتوقف ليستريح ويعاود السير بعد ان يعينه بعض الرجال على انزال الهودج الى الارض ، ثم العودة لمساعدته على حمله.
كنت اشعر ان غنياً في هذا الشهر يحمل طاقة سيزيف الذي حمل الارض في الاسطورة الاغريقية ، الفرق ان سيزيف حمل الارض عقابا له ، فيما حمل غني القصاب الهودج تطوعا.
وحدهم الاطفال اعطوا لغني اسمين مختلفين ، فطوال احدى عشر شهر حين يرون غني مترنحا مع ثمالته يقولون :هذا غني القصاب . وطوال شهر محرم ينادون عليه :هذا هرقل الجبار.
 
2/ موسيقى بيريات الجنود
في سبعينيات القرن الماضي ولسبب غامض سمحت الرقابة التي كانت تجيز عرض الافلام في دور السينما بعرض الافلام الاباحية اليونانية والايطالية والفرنسية ، وكانت الافلام اليونانية الاباحية اغلبها بالأسود والابيض هي اكثر الافلام التي تخصصت بعرضها سينما البطحاء الشتوي ومنها الفيلم اليوناني ( غريب في جزيرة المراهقات ). الذي استمر عرضه لأسابيع واغلب رواده هم الجنود الذين يخدمون في موقع ثكنة الناصرية وفي افواج اللواء الرابع عشر المرابط فيها. حيث يسمح لهم النزول بعد الساعة الثالثة ظهرا فيتسابقون للوقوف امام شباك قطع التذاكر للحصول على مكان قريب من الشاشة بالرغم من رائحة البول القادمة من المرافق الصحية الملاصقة للشاشة العرض.
حتى يتمتعوا برؤية اجساد الفتيات اليونانيات العارية عن قرب فتستلذ فيهم الذكورة وهم يتذكرون زوجاتهم وحبيباتهم في المدن البعيدة.
وقتها مع اشتداد حرارة اللقطة السينمائية على رمال الجزيرة بين بطل الفيلم وحبيبته وهم عراة ، تبدا مصاطب القاعة بالاهتزاز ، ويضع كل جندي بيرته على فخذيه لتعزف موسيقى التحرك موحدة صعودا ونزولا من خلال ايدي الجنود المختبئة داخل البيريات.
 
3/ طره كتبه
طره كتبه أول لعبة قمار كنا نمارسها في طفولتنا دون ان يطالنا القانون من خلال وضع قطعة نقد في راحة يد لاعبين ، بعد ان يتم رمي قطعة النقود في الهواء من قبل اللاعب الاول واسكانها راحة اليد ثم اطباقها على الارض واخفاءها ، فيما يتحكم الاعب الثاني براحته في وضع احدى وجوه قطعة النقد وحسب رؤيته وحدسته عن شكل وجه قطعة النقد مع اللاعب الاول ، ومتى تطابقت الوجوه عند رفع الايدي فأن اللاعب الثاني ربح قطعة النقد ، ويخسرها حين يختلف الوجهان .الطرة والكتبة .
دائما كنت أتفاءل بالطرة في العانة التي قيمتها اربع فلوس لأنها تحمل صورة الملك فيصل الاول ، فيما الكتبة كانت تحمل اسم المملكة العراقية وقيمة العملة وتاريخها .
لهذا كنت اراهن بوجه الملك في تلك اللعبة ، وما ان اربح لن املك سوى الابتسامة امام وجه جلالته واترحم عليه كما كان يفعل ابي.
 
4 / باص الروضة في أور
 
كان المطرب العراقي المرحوم جبار ونيسه الذي اشتهر بغناء الطور الصبي يعمل سائقا لباص روضة اطفال الناصرية.
ابناء الاغنياء والموظفون الكبار وحدهم من يذهبون الى تلك الروضة .
وكنا نحسد اؤلئك الصغار عندما كنا نذهب بملابس الفقراء الرثة الى مدارسنا ونشاهدهم ينظرون الينا بعطف وكبرياء وهم يجلسون داخل الباص بأناقتهم وقمصانهم البيضاء بأربطتها الحمراء.
ذات يوم كانت مدرستنا ( الكاظمي الابتدائية ) في سفرة مدرسية الى مدينة أور الأثرية ، وصادف ايضا ان اطفال الروضة كانوا في سفرة الى ذات المكان .وحين نزلوا من الباص ، بدأنا بالضحك عليهم عندما شاهدنا غضبهم وانزعاجهم من التراب الذي علق بكثيرة بأذيال بناطليهم الموحدة الزرقاء.
سائق الباص المرحوم جبار ونيسه ترك التلاميذ ومعلماتهم في حيرتهم مع التراب والحُفر بين المناطق الاثرية .ونصحهم بالصعود فوق الزقورة والاحتماء بها بالرغم من حرارة الشمس . ثم التحق بمعلمي مدرستنا .
لقد فضل ان ينتظم معنا حين سمع صوتا جميلا لغناء شطراوي كان يؤديه تلميذ في الصف السادس ، فلم يتمالك نفسه سوى ان يناغيه غناء بالطور الصبي .
وبين الصبي والشطراوي كنت اشاهد معلمات الروضة وتلاميذهم ينظرون بغضب لسائقهم من فوق الزقورة وقد قرر التخلي عن الالتحاق به.
 
5/ أطار التراكتور
جارنا المرحوم الحاج خضير الحداد كان يمتلك ورشة حدادة في الصفاة ومقابل مركز الخيالة في سوق الناصرية القديم ،ولم تكن الورشة تبتعد عن بيته سوى مئة متر حيث تعود نقل السكراب والاطارات الكبيرة للشاحنات والتراكتورات ليضعها قرب باب البيت .
ذات يوم تشاجر الطفلان رحمن طلب مسير وكريم حسين عيسى ، ويبدو ان رحمن انتصر بالشجار ( دونكيات ) على كريم ، فاختفى كريم وتم البحث عنه من قبل امه فلم تجده لتتهم ال طلب مسير بانهم قتلوا ولدها او اختطفوه.
هب الشارع كله يبحث عن كريم في الشوارع كلها ، فيما نفى ال طلب معرفتهم بمصيره ، ووصل بها الامر ان تذهب المرحومة رسمية ام كريم لشرطة الخيالة لتقيم دعوة ..
تجمع الشارع كله وهو يستمع الى تهديداتها والذهاب الى مخفر الشرطة القريب ، وقد شجعنها بناتها المرحومات ماجدة وليلى على المطالبة بأخيهم المفقود من خلال القانون ، وفيما كان الناس يحاولون منع المرحومة ام كريم من الذهاب الى المخفر ، ظهر كريم فجأة من داخل اطار التراكتور ولم يزل النعاس يملئ وجهه .ويبدو انه اختبئ من خوفا ضربات رحمن ولجا الى الاطار ونام في داخله دون ان يعلم.
 
 6 / الحسين في المرايا
 
بعد عام 2003 ، حيث اعتقد الناس ان العقول قد تحررت حتى في معتقداتها المذهبية اخبرتنا جارتنا ام وليد وقد رأيناها تهم مسرعة :
انها ذاهبة الى بيت في منطقة الاسكان الواقعة في صوب الشامية يقال ان وجه الحسين ع ظهر في مرايا ميز التواليت في هذا البيت ، وان النساء هبت الى هذا البيت بالمئات للتبرك بوجه الامام.
سكن الالم جارتنا الاخرى العجوز ام قاسم انها لم تستطع الذهاب مع الناس الى هذا البيت لأنها عاجزة عن السير بسبب كبر سنها للتبرك بمسح المرايا بيدها ثم مسح وجهها وقدميها لتشفى من مرض الروماتيزم.
تكورت حزينة على السرير وصارت تندب حظها بمرارة .
سمعها الصبي ابن ولدها ذو العمر ستة عشر عاما الذي كان محبوب جدته .اقترب منها ، قبل رأسها وهدا من حزنها قائلا:
جدتي لا تصدقي كل هذا ، انها خرافات ، فالحسين وجهه مرسوم في قلوبنا وليس في المرايا.
 
7/ الجامليات زبونات امي
 
حتى تساعد امي ابي لتحمل اعباء الحياة الصعبة مارست امي مهنة خياطة العباءات النسائية
كنت اراقبها وهي تعصر اجفانها وهي تلظم الخيط في الابرة ، او تدعوني لأساعدها في اللظم . او ترسلني الى محل العبايجي المرحوم الحاج يوسف جساس في سوق العبايجية لأشتري منه خيوط البريسم السوداء والخيوط التي تدرز وتطرز حواف العباءة. 
 اغلب زبونات امي هن من الجامليات اللائي يفترضن الرصيف في الصفاة ويبعن الخضار ، وبعضهن كن حمالات يجاهدن في العيش في هذه المهنة الشريفة.
ما زلت اتذكر وجوههن في البيت وهن يطلبن من والدتي تقصيف طول العباءة او تعريضها في نقاش محتدم بضرورة الاسراع بإنجاز العباءة لان العيد اقترب او مناسبة زواج لأحدى بناتهن.
مرت سنوات طويلة على ترك امي لمهنتها بسبب اني ذهبت الى الجندية ثم الوظيفة وضعف نظرها ولم تعد تستطيع لظم الابرة .
الذي بقي من عطر مهنتها الجميلة أن النساء الجامليات زبونات امي لم يزلن الى اليوم يفترشن الشارع ويبعن الفاكهة والخضار ، واتسوق منهن وهن يتذكرن وجه امي ويتهامسن فيما بينهن :لقد كبر الطفل الذي كان يساعد امه في لظم الابرة لتخيط عباءاتنا.
 
8/ مقبرة الصابئة وكأس العالم.
كان صديقي المرحوم المندائي عبد الكريم كامل ( زعومي ) في الخامس الابتدائي عندما وصلت البرازيل وايطاليا الى نهائي كأس العالم والتي جرت في ملعب ازتيكا في مكسيكو وانتهت بفوز البرازيل ، وكان بارعا في لعبة كرة القدم منذ طفولته.
قبل بدء المباراة قررنا نحن فريق اطفال شارع اسديناوية وفريق اطفال الصبة التباري فيما بيننا مساء ، لان اللعبة التي سنراها في مقهى الحاج جمعة تبدأ ليلا.
فجرت اللعبة في ملعب ساحة الصبة حيث تقع مقبرة المندائيين مقابل متوسطة الناصرية
يومها غلبنا فريق الصابئة 4 / 1 .
الذي فعله ( زعومي ) انه ذهب الى احد قبور اجداده وخط عليه تلك الذكرى . اليوم غلبنا فريق شارع اسديناوية 4 /1 .وهي ذات النتيجة التي ستفوز بها البرازيل على ايطاليا .
وفعلا تحققت نبوءة المرحوم ( زعومي ) في الليل وفازت البرازيل بنفس النتيجة التي خسرنا بها مع فريق الصابئة.
 
9 / هشاً بشاً
هاتان المفردتان المتناغمتان بوزنها الصوتي سمعتهما لأول مرة في حياتي اثناء محاضرة تربوية القاها علينا الاستاذ حسن طالب خشان وكان مديرا لمتوسطة الناصرية وكنا طلابا في الاول متوسط .
استغربت عندما عرفت ان الاستاذ ابو سجال كان يقصد من هذه المفردتين هو الانشراح والسعادة في الوجه ، فيما فسرتهما انا عكس ذلك ، فجعلت الهش هو ما نطرد به الحيوان الاليف من امامنا من خلال عصا او بأيدنا ، والبش هو ما نطلقه على ذكور بعض الطيور من فصيلة البط .
بقيت تلك المفردتان ملازمتان لذاكرتي بعد ان عرفت المعنى الحقيقي لهما من مدرس اللغة العربية ، وعندما تم سوقنا للجيش بعد التخرج صرت امازح بهما عرفاء السرايا والفصائل واغلبهم لم يدخلوا المدرسة فكانوا يعتقدون ان معنى الكلمات كما اعتقدت انا في الصف الاول ، فيستنكرون اطلاق تلك الصفات عليهم ، ولكن في النهاية اعاني الكثير من اجل اقناعهم بالمعاني الحقيقي لمفردتي ( هشاً ، بشاً ).
توظفت ، وتدرجت بالوظيفة وصرت مديرا لقسم النشاط المدرسي في التربية ، واصبح مديري السابق الاستاذ حسن طالب خشان مديرا لقسم الاشراف الاختصاصي ، لأتذكر مفردته ثانية عندما كان يدير اجتماعا تربويا في قاعة النشاط المدرسي عندما قال للمشرفين :عندما تدخل المدرسة لتزورها ، ليكن وجهك هشاً ، بشاً .
ضحكت وقلت :يا الهي ، لأكثر من ثلاثين عام لم تفارق المفردتين لسان الرجل وذاكرته؟