18 ديسمبر، 2024 10:44 م

أسئلة القلوب في أمر الغالب والمغلوب

أسئلة القلوب في أمر الغالب والمغلوب

على بساط الأدب، قعد ذلك الواسعُ العينين طويلُ الرموش، تحت شجرة جوز تعرفه مذْ كان طفلا، مسندا ظهره الى جذع ذكرياتها المنقوش، حرف هنا ورقم هناك، قلبٌ أحَبَّ وسهمٌ رماك، ورموزٌ لم يستطع فك طلاسمها ذكّـرته بقصة حفيف أجنحة جبرائيل لشهاب الدين السهروردي الشهيد، بنصها العجيب الفريد، وفكرتها شديدة التعـقيـد.
على جانب الشجرة، نبعٌ تفجّـرَ من قلب صخرة، رغم جماله ومذاقه الذي يُـقسم سكان القرية أنّ له طعم الجوز، كان قد أرسل في نفس الفتى حسرة، أرأيتَ لو أخذتـك الى البصرة؟
أرأيت لو حُمِلـتَ بأيدي سَفَرَة، كرامٍ بررة، لتُعـمّد وجوها عزيزة عليها غَـبَرَة، فتعود ضاحكة مستبشرة؟

سألت صديقي الفارسي يوما عن مقطوعة اُحبّها للموسيقار الإيراني حسين علي زاده اسمها “نينوى” تكتب بالفارسية هكذا “ني نوا”، قال بأنّ هناك ثلاثة أوجه للمعنى، أمّا الأول فهو اسم المدينة العظمى، والثاني يقال عند المصيبة والبلوى، وأمّا الثالث فهو صوت أنينِ نايٍ معتقٍ بالهوى.

كأنّ الفتى سمع البصرة تصرخ: نينوى.. نينوى، وربما الكل يصرخ الصرخة نفسها دون أي يدري. أي زمان هذا الذي نعيشه؟ سؤالٌ أكاد اجزم أنّه سُئل في كل زمان ومكان، وربما سأله أحد أجداد الفتى في بستان الجوز نفسه أو تحت الشجرة نفسها. وتضحك شجرة الجوز ضحكة على شكل ثمرة أكلها القاتل والمقتول والسائل والمسؤول. فكرتها ثمرتها.

ما ثمرتك انت؟

دعا ريتشارد دوكنز في الفصل الأخير من كتابه وهم الإله والذي سماه ما ترجمته ” أم البراقع” المؤمنين بأن يخلعوا ما يعيق رؤيتهم للحقيقة. والحقيقة عنده أنْ لا إله، وإنْ كان ولابد، فالطبيعة ربتنا ودارون عليه السلام نبينا، وكتابنا “في أصل الأنواع” الذي تطرب له الأسماع ولا يمسه الا المحبون للإطلاع. ولكننا، والكلام لدوكنز، يجب أن نبقي احتمالاتنا مفتوحة، فالمستقبل قد يجود بحقائق ربما نسفت قصدنا المنشود.
هل خلع دوكنز البرقع؟ أم تخلى عن ثمرته؟
لا أدري لم تذكرت تحالفات القوائم الانتخابية في العراق. يدافع أحدهم عن قائمةٍ دفاع الصحابة وبعدها تتحالف قائمته مع نقيضها. هل هما متناقضان أصلا؟ هل رأيت شجرة جوز تتخلى عن فكرتها لتعطي باذنجانا أو بصلا؟ فلماذا اذن ننتظر من عملية سياسية أسسها الحاج بريمر أن تُنبتَ ريحانا؟
مصيبتنا برقع كبير غطى بلدا بأكمله من أعلى جباله الى جنوبه المتشقق كأرض عطشى تذكر عطش الحسين ولا تذكر عطش البصرة. قُــتـِلَ الأنسانُ ما أكْـفَرَه.
الصوت الذي لا يستخدم الكلمات أنصتْ اليه، قالها مولانا جلال الدين قبل سنين، أهذه دعوة الى الهروب؟

قرر الفتى أن يعلن تحت شجرة الجوز دولةً لا برقع عليها ولا غطاء، يكثر فيها العطاء، ومنفذها البحري نبع ماء، أمّا عن قوت شعبها فهو جوز مخلوط بالمحبة وبعض الكستناء، لا أحزاب فيها ولا فرقاء، أمّا عن الوزراء فوزيرة واحدة هي المرآة، فالمرآة لا تكذب وتصور لك الأشياء على حقيقتها، القاضي فيها ميزان وشعارها هل جزاء الإحسان إلا الإحسان.
استحسن الفتى فكرته وقرر أن يدعو اليها من يصافه، فالتفت عن يمينه فرأى زهرة، دعاها ففاح عبيرها فاعتبر ذلك قبولا، لم يعلم ذلك الغافل بأنّ الزهرة لا تغير فكرتها بتغير ما حولها.
سلامٌ على من أقتدى بزهرة.
وفعل الأمر نفسه مع عنزة كانت تأكل العشب، فسمع ثغاءها ـ صوتهاـ وفسره قبولا أيضا، كانت قصد العنزة، التي يعود نسبها الى تلك العنزة العرجاء التي حضرت جنازة الحلاج بعد أن قتله من لم يفهمه من البشر، أن تقول: لا تقاطعني وأنا استمتع بطعامي.
أذكر في غير مرة أني قلت للمريض أمرا ففهم عكسه تماما. فتعلمت أن اطلب من مرضاي أنْ يعيدوا ما ذكرته لهم. خطأ من؟ لا أدري.
خرج الفتى من بستان الجوز ماضيا في طريق دعوته بعد أن ظنّ أنه قد كسب زهرة وعنزة، فلما جنّ عليه الليل سمع همهمةً طَرِبَ لها، فالأذن تعشق قبل العين أحيانا، فلما اقترب وجد صومعة فيها قوم تتمايل رؤوسُهم كسنابل القمح قبل موسم الحصاد، هُمْ مصدرُ الإنشاد:

أهلَ حزبِ الديّـان حارَ العقلُ مني … إنّي هائـم ولهـان غائـبٌ عن أيني
كُنّـا وأمّـا الآن تُـهـنا عـن الـكـونِ … لا جهةٌ لا مكان ندري فيها وطني

فصاح الفتى: سأدعو هؤلاء الحيارى الى دولتي.
يقول البروفيسور الإسرائيلي هراري في كتابه الذي ترجمته (٢١ درس للقرن ٢١) الذي صدر قبل أيام قليلة بأنّ خمسين بالمائة من اليهود الأرثوذوكس المتشددين في إسرائيل اختاروا أنْ لا يعملون، ويقضون وقتهم في العبادة وتعلّم التلمود وتوفر الحكومة الإسرائيلية معاشاتهم، وتحمي الحكومة الأمريكية طائفة الآميش ولا يُسمح لقوانين الدولة التي تحكم الجميع بأن تنال من خصوصيتهم رغم أن طريقة عيش أتباع الطائفة تعود الى القرون الوسطى. وهنا أسأل: لماذا يُفرض علينا أسلوب حياة غيرنا ونوصف بما فينا وما ليس فينا وفي الوقت نفسه لا يتدخل أحد بأسلوب حياة مواطني الدول القوية التي تستطيع أن تحمي نفسها حتى من شر حاسد إذا حسد؟ ويتعدى الأمر بأن ينكر بعضٌ من بني جلدتنا حالنا ونكون عندهم من المتخلفين. لم تكون مرقة الجيران أطيب مذاقا من مرقتنا؟
لماذا تكون الأعذار حاضرة ومقنعة عندما يصدر الخطأ من دولة قوية، وفي الوقت نفسه تقوم الدنيا ولا تقعد إن عثرت بغلة في أرض العراق أو الشام؟
من حسنت لغته ارتقت أفكاره ومن ارتقت أفكاره حسن تدبيره. هل تَرَكَـنا أهل حقوق الانسان الذين تفتعل دولُهم الحروبَ لكي يتسنى لشركات الأسلحة أن تصرف بضاعتها بحالنا لنفكر كما يفكر خلق الله على هذا الكوكب؟
لماذا يُطلب من أهل البصرة أن يتصرفوا كما يفعل سكان الدول الأسكندنافية وتعاملهم حكومتهم التي حرمتهم مصادر الحياة كمساجين في أكثر الدول تخلفا وفسادا؟
هل تحققت العدالة في قضية بلاك ووتر المعروفة التي صدر الحكم فيها قبل أيام؟
هل نجح صديقي السمين أن ينقص من وزنه؟ أجابني صديق آخر يخاف زوجته: يا أحمق! ألم تعلم بأنّ الكرش هيبة.
الأسئلة تفور كما تفعل النار بالتنور، ولأنّـنا حطبُ هذا الزمان وذنوبُه، فلا نهاية لها، لنعد يا صاحبي الى قصة الفتى مع رجال الصومعة، فلما أراد الفتى أنْ يدعو رجال الطريقة الى دولته، قصَّ على كبيرهم خبرَ شجرة الجوز وحاله مع الزهرة والعنزة، فقال كبيرهم الذي أشرقت من وجهه مظاهرُ الوقار الرائعة: دع عنك يا ولدي هذه الجعجعة، ولتخلع البرقع عن قلبك وعقلك واخرج من القوقعة، فلمـّا أنكر الفتى قول الشيخ وأحسّ أنّ المسافة بينهما شاسعة، قال الشيخ:
يا عذولي لا تلمني ما على العاشق ملام … ادنو مني واروي عني أنا في العشق إمام

تبدل حال الفتى من مقام الخيبة الى مقام الهيبة مما سمع، ولأنّ الطيورَ على أشكالها تقع، أصبح واحدا من رجال الصومعة لمّا بارق العشق في قلبه لمع، شرب كأس المحبة جهارا ولم يرَ في الحب عارا، وصار الجميع ينشدون:

يا سعدَ قومٍ بالله فازوا … ولم يروا في الورى سواه
قرّبهم منه واجتباهم … فنزهوا الفكر في علاه

هذا بعضٌ من حديث أسئلة القلوب. من الغالب؟ من المغلوب؟ ضَعُفَ الطالبُ والمطلوب، وقد فاز من دخل حمى علّام الغيوب.