يبدأ الكثير منا حياته محاولاً تطوير ذاته وتكثيف مجهوداته على تحصيله العلمي، سواءاً كان ذلك في سنوات تعليمه الأساسية أو دراسته الجامعية أو حتى فيما بعد ذلك من الدراسات العليا التي قد تتزامن مع عمله في نفس الوقت بحثاً عن مستقبلٍ أفضل، أو حتى مع اضطراره للعمل منذ الطفولة دون أن ينال حظه من التعليم، فيكافح ويقدم الكثير من التنازلات المادية أو حتى على حساب راحته أملاً في خلق واقعٍ مغاير..
وبالنظر لما نعيشه اليوم من واقع تنافسي معاييره المادية لا تستثني أحداً، ولا تميز بين أصحاب الخبرات والتجارب المخضرمة والنظرة الثاقبة المتوازنة وبين أي وجهٍ جديد في أي مجال ينقصه الخبرة، تلك الخبرة التي تأتي من تراكم السنوات والتنوع في الرؤى بعيداً عن النظريات التي يتم تدريسها في المناهج والتي لها أهميتها كإضافة لكنها ليست أساساً متيناً يبنى عليه أي عمل، كونها سيتم تخطيها لاحقاً من أصحاب الشركات والمنشآت ورؤوس الأموال أياً كان طابعها دون استثناء، مع استخدامهم لبعض عناوينها العريضة للإيحاء بوجود مناخ عمل جدي واحترافي (يختلف) عن البقية وهو ما ليس صحيحاً، حيث أن الربح المادي والكسب السريع هو الهدف الأوحد الذي يتم في سبيله تخطي كل المحظورات (من وراء الستار) والظهور بخطاب مشرق يتم شراء مساحات إعلانية له عبر وسائل الإعلام التقليدية ومواقع التواصل الإجتماعي من خلال خطط مستمرة لتسويقه..
وفي ظل وجود مناخ يتحول فيه أي إنسان إلى مجرد رقم يمكن استبداله بغيره وتحسب فيه قيمته وسنوات حياته وخبرته وسيرته ومسيرته (بالأرقام)، يستوعب البعض طبيعة هذا العصر فيجاريه ويصبح نسخةً عنه، أو يحاول الموازنة بينه وبين قناعاته (وهو ما ليس سهلاً أبداً)، لكنه يصطدم بأن آرائه وأفكاره وقناعاته وخبراته لا مكان لها على أرض الواقع وأنها غير مهمة أو مفيدة أو حتى ضرورية إلا إن كانت ستدر مالاً (بأي شكلٍ كان)، وهو ما يدفع أكثر الناس إلى التساؤل عن قيمة ما بذله من جهدٍ جسدي وفكري وقيمة الوقت الذي استغرقه في الدراسة وتطوير أدواته ليكون دوماً على مستوى التوقعات، وليقدم أفضل ما لديه إذا كان مطلوبًا منه على الدوام التعامل بنفس الطريقة مع مسائل مختلفة، وتفضيل منطق السوق على أي منطق آخر رغم تسويق واستخدام (شعارات إنسانية) للناس، وتعطيل العقل بشكل دائم وكأنه غير موجود ولا فائدة له، وهي حالة لا تعني فقط أجواء أي عمل بل تشكل صورة مصغرة عن الحياة في مختلف نواحيها..
وهو ما يثير الإستغراب والتساؤل معاً حول كوننا مجتمعات تعاني من مظاهر فساد لدى البعض (كحالات فردية)، أو أننا أصبحنا بأغلبيتنا متواطئين ومشاركين في هذا الأمر تحت ذرائع مختلفة ولا نريد استخدام عقولنا فيما نواجهه كل يوم بحثاً عن (الراحة)، وهل يمكن لأي إنسان أن يعيش في حالة من التوازن عندما يرى كل ما حوله أقرب إلى الوهم رغم وجوده بشكل فعلي، وهل سنعترف لمرة واحدة أن كل ما نعيشه هو نتيجة لما صنعناه بأنفسنا عندما غير الكثيرون جلدهم في حضرة المال وسايرهم الجميع تحت مسميات (الأعراف والأصول) التي لا تطبق على البسطاء كالعادة وتعني بكل وضوح (المصالح الشخصية) عندما يتم تعطيل العقل لأن أسئلته مزعجة..