ولدت وعشت لاكثر من سبعة عقود في بلد عربي ذو أغلبية مسلمة ، وأجد نفسي أحاول كتابة الكثير عن طبيعة هذا المجتمع وخصوصا فيما يتعلق بالجانب الاجتماعي والديني والذي يشابه نظيره في كافة البلدان العربية ذات الأغلبية المسلمة ، مثلما يشابه بنسب متفاوتة وضع مجتمعات اسلامية أخرى ليست عربية .
أحاول في سلسلة مقالاتي هذه ان أكون منطقيا ومحايدا في تحديد الكثير من واقع الثقافة الدينية التي كان وما يزال تأثيرها واضحا في تحديد اتجاه ونوعية الواقع الحضاري للمجتمع الذي أعيش فيه .
كتاباتي ستنطلق مستندة على أساسيات عديدة وأهمها :
اولا : من حق كل انسان اشهار اعتقاده او ايمانه بأي فكر او نظرية او معتقد فلسفي او ديني بحرية كاملة دون ان يفرض ذلك على الآخرين .
ثانيا : ان القيمة الانسانية والفكرية لأي كتابة تزداد كلما أقرب الكاتب من الحيادية والمنطقية في فهم وتحليل ومعالجة الموضوع الذي يتعامل به ، وهذا يعني ايضا في أحد جوانبه عدم معاداة او انحياز لأحد ضد آخر لمجرد الانتماء السياسي او الفكري او القومي او الديني .
ثالثا : ان الوقوف ضد فكرة او اعتقاد ما ، لا يجب ابدا ان يعني معاداة الانسان الذي يؤمن بتلك الفكرة او ذلك الاعتقاد طالما ان الجميع يسلك سلوكا حضاريا في عدم فرض الافكار او الاعتقادات على الآخرين ، وعليه فلا سقف ولا حدود تُقيّد حرية التبادل السلمي للآراء والافكار في شتى المجالات العامة ، وبما في ذلك حرية التحدث والاعلان عن الطوائف والاديان سلبا او ايجابا .رابعا : هناك تزايد مضطرد لعدد سكان الآرض الذين اصبحوا على يقين ( بسبب التطور الحضاري والعلمي في شتى المجالات ) بأنهم ما كانوا ليؤمنوا بأي من الأديان العديدة المنتشرة بين سكان الأرض لو أن هذه الأديان وجِدَتْ في عصرنا هذا ، فلا موسى كان سيستطيع أن يُكلّم الله او أن يشق البحر بعصا أمامنا مثلا ، ولا كانت مريم ستسطيع ان تدعي انها حبلت دون حيمن ، ولا كان عيسى سيستطيع شفاء المرضى او احياء الموتى امامنا مثلا ، ولا كان محمد سيستطيع ان يَطِير على ظهر حصان من دولة الى أخرى ذهابا وعودة دون طائرة او ان يدعي بأن الشمس تغيب نتيجة لانغماسها ببركة ماء حمئة او ان الجنين يتكون بداية بشكل عظام في رحم امه مثلا ، وكذا الأمر لعشرات او ربما مئات من الاديان والطوائف الاخرى المتواثرة لغاية يومنا هذا . .البشر في القرن الحادي والعشرين مُتّجِه باغلبية ساحقة الى اعتبار ان جميع اديان الارض هي مجرد ثقافة متوارثة ، ثقافة تعبر عن قيام افراد ( بعضهم حكماء وبعضهم محتالين ) على مديات التاريخ الانساني بأمتهان مهنة كان وما يزال الانسان يتمنى او يحلم بوجودها لتكون الرابطة بينه وبين الخالق المُفترَض للكون ، وقد أستغلت تلك الافراد الحكيمة او المحتالة فترات تخلف الانسان علميا واقتصاديا وحضاريا وما يولده ذلك من ظروف الاضطهاد والمرض والفقر للادعاء بكونها هي من تمثل حلم الانسان ، حيث ادعت انها تمثل الله على الارض ، وانها وُجِدَت لضمان الرفاهية والامن والعدل للانسان ولتنظيم علاقة الانسان بالآخرين ، كما ادعت بانها ستضمن حياة سعيدة أبدية بعد الموت لكل انسان يموت وهو خاضع لسلطتها .
الآن ، أصبحت المناسبات والاعياد الدينية في كافة المجتمعات المتحضرة الغير اسلامية مناسبات فلكلورية بما تحويه من راحة وفرح والتقاء وتفاعل اجتماعي أكثر من كونها مناسبات دينية بحتة .
خامسا : ان الاعتقاد بعدم صحة كل الاديان المتوارثة جيلا بعد آخر ، لا علاقة له اطلاقا بالايمان او عدم الايمان بالوجود المفترض لخالق للكون ، فعدم وجود اديان لا يعني بالضرورة عدم وجود خالق للكون ، مثلما لا يعنى ذلك ايضا بالضرورة وجود خالق للكون .
سادسا : ان تزايد التوجه البشري ( منذ أكثر من قرن مضى ) نحو اليقين بعدم صحة الاديان ادى تدريجيا الى تحكيم العقل والمنطق وبالتالي زحزحة الكثير من القيود التي كانت تَحْرُم الانسان من العديد من حقوقه الاساسية ، وقد تجسد هذا التوجه في المجتمعات المتحضرة علميا واقتصاديا بفصل ادارة الدولة والمجتمع عن الاديان ، وليكون الدين في تلك المجتمعات هو مجرد حق يُمارَسُ على مستوى القناعة الفردية للانسان .سابعا : على مدى التاريخ البشري كانت صراعات ( الأنا ) فيما بينها من أجل المزيد من المكاسب سواءا على الصعيد المادي والسلطوي ( وما يتبعها من مكاسب جنسية ) ، وتلك الصرعات هي التي جعلت ( الأنا ) تبتكر وتولّدَ النظم والاعراف والقوانين والاديان للأحتكام اليها ، لذا فان قمة النجاح الذي تتطلع اليه الانسانية المتحضرة حاليا هو ان تبلغ كل ( أنا ) ادراك ما لها وما عليها دون سلطة ، وقد يبدو مثل هذا التطلّع بعيد المنال حاليا ، الا ان السير بأتجاهه يُقّرب المسافات على المدى البعيد ، لأن بشر الأرض ما زال امامهم الكثير من التحديات للتعاضد في مقاومة الطبيعة بكافة متاعبها ، وكذا لكشف أسرار الكون وبضمنها اسرار الحياة والموت .
ثامنا : ان أغلبية المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة ( لاسيما العربية منها ) هي أكثر شعوبا الارض اضطهدا لحقوق لحقوق الانسان فيها ، دون وجود أمل يلوح في الأفق باحتمال حصول تحسن في اوضاع هذه المجتمعات ليس بسبب الانظمة السياسية الحاكمة لتلك الشعوب حسب ، وانما نظرا لأستمرارتوارث الثقافة الدينية الاسلامية (المكتوبة أصلا باللغة العربية ) بين افراد هذه المجتمعات ، حيث التواصل المتنامي للصراع ، واحيانا الاحتراب الدموي بين الفرق والطوائف الاسلامية ، والممتد تأريخيا منذ ولادة الاسلام ولحد يومنا هذا ، اضافة الى استمرار خلو جميع هذه المجتمعات ( بدون استثناء ) من كافة ذوي الاديان الاخرى بسبب عدم ملائمة هذه الثقافة المتوارثة مع ما يتطلبه الفهم الحديث لحقوق الانسان من المساواة بين البشر ومن القبول للآخر المختلف عنا في الآراء والمعتقدات ، ناهيك ان عن الانسان المسلم نفسه مهدد طيلة الاربعة عشر قرنا الماضية ولحد يومنا هذا بفقدان حياته لو تجرأ على تَرْكْ أو انتقاد دينه او طائفته .
تاسعا : باستمرار التطور المتسارع عالميا في مجال الاتصالات والطب والهندسة والادارة والاقتصاد وكذا في مجال فهم واقرار المزيد من حقوق الانسان بما في ذلك حريته في حياته الجنسية الخاصة ، فان كافة مثقفي وسياسي العالم مطالبون بمساندة المجتمعات الاسلامية بشتى الوسائل المتاحة لمساعدتهم في تخطي هذه الازمة التاريخية والاجتماعية الكبيرة الناجمة من تواصل توارث هذه المجتمعات لقيم ومفاهيم دينية لا تسيء الى الانسان المسلم في هذه المجتمعات حسب ، وانما تشكل خطرا جديا على كل المجتمعات المتطورة في العالم ، حيث يرى الاسلاميون ان اقرار المزيد من حقوق الانسان في العالم يشكل خطرا جديا على الشريعة الاسلامية المتوارثة وان ذبح وتفجير انسان المجتمعات المتحضرة هو الاسلوب الوحيد لضمان تواصل بقاء المفاهيم الدينية في المجتمعات الاسلامية .
عاشرا : الانسان المسلم هو كبقية بشر الارض ، يسعى بطبيعته الانسانية والاجتماعية الى التفكير وقبول الآخر، ولكن هذا الانسان يولد وهو مكبل بقيود دينية ثقيلة متوارثة اجتماعيا ، أهمها عدم قبول الآخرين ، بكل ما يعنيه ذلك من ازدياد التخلف يوما بعد آخر بسبب ايقاف استخدام العقل والمنطق في التعامل ، وغالبا ما يكون مصير الانسان المسلم هو الانصياع الاجباري أو اللا أرادي لشروط ومتطلبات الثقافة الدينية المتوارثة وبالتالي التمسك بذريعة القاء سبب استمرار تزايد التخلف في مجتمعه طيلة الاربعة عشر قرنا الماضية ولحد يومنا هذا على الآخرين ، بينما يفر البعض الى المجتمعات الاخرى الغير اسلامية تحقيقا لمتطلبات ( الأنا ) لديه ، ورغم كل ذلك فانك ترى ان قسما من هؤلاء الفارين من جحيم قيود ثقافتهم الدينية المتوارثة يتحولون في الظروف المؤاتية الى مجرمي قتل وذبح للانتقام من المجتمع المتحضر الذي احتضنهم لاجئين فيه ، وتلك هي واحدة من عشرات صور أزمات الانسان المسلم والتي سنتاول كافة تفاصيلها الدقيقة في مقالاتنا المقبلة .