18 نوفمبر، 2024 1:21 ص
Search
Close this search box.

أزمة العلوم الشرعية في مقابل المنهجية العلمية الحديثة – 1 / التواتر وغيره من الأخبار النقلية

أزمة العلوم الشرعية في مقابل المنهجية العلمية الحديثة – 1 / التواتر وغيره من الأخبار النقلية

تطورت العلوم البشرية منذ بداية التاريخ المكتوب عن طريق التراكم المعرفي والخبراتي للبشر حيث أضاف كل عالِمٍ في كل عصر مالديه من اختراعات واكتشافات وخبرات وآراء إلى نتاج العلماء الذين سبقوه، من أجل الوصول إلى رؤىً قد تكون مماثلة لرؤاهم أو جديدة تقلب الفهم البشري رأساً على عقب وتفتح له آفاقاً جديدة. هذا التراكم المعرفي لم يقتصر على الآراء والنتائج والاكتشافات العلمية والإنسانية ولكنه شمل أيضاً منهجيات التعلم والبحث وأسس الاستنتاج والاستقراء وطرق تدوين العلوم وفلسفتها. مما أدى إلى تحول كبير في أساليب ومنهجيات البحث العلمي (Paradigm Shifts) وإلى تغيير نظرة البشر ذاتهم للعلوم وازدياد ثقتهم بها وبنتائجها خصوصاً في العصور التي تلت عصر النهضة الأوروبية.(1) هذا التحول المنهجي والفلسفي الأخير فيما يتعلق بالعلوم البشرية حمل في تصوري مقداراً أكبر من التأثير من التراكم المعتاد للنتائج والاكتشافات، لأنه فتح المجال واسعاً لإعادة النظر في كافة المعارف والمعتقدات السابقة بغض النظر عن درجة ثبوتها والتيقن منها، بما يتناسب مع آخر ما توصلت له البشرية من منهجيات علمية وأسس بحثية (Methodologies) من أجل إعادة التحقق من مجمل منظومتنا المعرفية.

المنهج العلمي:
قد يكون المنهج العلمي أو الطريقة العلمية (Scientific Method) أحد أكبر القفزات البشرية على مستوى البحث والتعلم والتي فتحت للبشرية آفاقاً واسعة لم تكن لتحلم بها أبداً. فقد استحدث على مر الزمن مجموعة من الوسائل التي يمكن عن طريقها استكشاف الظواهر واكتساب المزيد من المعارف وتصحيح المعارف السابقة.(2) ونتج عن ذلك تسارع رهيب للاكتشافات العلمية والاختراعات التقنية بشكلٍ غير مسبوق أبداً في التاريخ البشري. والتي فتحت المجال لأول مرة في التاريخ لفك الارتباط بين الرأي العلمي، وصاحبه، وسقطت بالتالي هالة القداسة الشخصية المحيطة بآراء العلماء والتي كانت لردح طويل من الزمن المعيار الوحيد لقبول الرأي أو رفضه، لدرجة أن يقول الناس: (إذا خالفت الجثة رأي جالينوس، فقد صدق جالينوس وكذبت الجثة)، بل وقال بعض الأطباء (لأن نكون على خطأ مع جالينوس، خير من أن نكون على حق مع هارڤي) (3) إذ كان التحقق العلمي وقتها منوطاً بذكاء وفراسة ونباهة العالِم وغزارة إنتاجه وتقدير المجتمع العلمي له وربما أيضاً شعبيته وبلاغة لسانه، بحيث لا يجرؤ أحدٌ بعده على مخالفة آرائه ونظرياته والتحقق من صحتها، إلا إذا استطاع أن يصنع له قبولاً اجتماعياً وشخصياً وهالة أخرى من القداسة العلمية توازي قداسة ذلك العالِم وهذا ما استمر طوال ١٣٠٠سنة بالنسبة لجالينوس بعد وفاته. مما تسبب في إعاقة تقدم العلم لقرون طويلة. ثم أتى قبول الناس، تدريجياً وبعد صراع شديد مع الكنيسة، للمنهج العلمي كوسيلة يمكن عن طريقها لأي شخص وإن كان باحثاً مغموراً التحقق من صحة ادعاءات كبار أساطين العلم والمعرفة ومن صدق نتائجهم وسلامة استنتاجاتهم، وبالتالي ربط النتائج والآراء العلمية بمنهجية الحصول عليها وليس بقداسة صاحبها أو القائل بها ومكانته العلمية، فآراء العلماء وفرضياتهم واستنتاجاتهم الشخصية تعتبر حججاً ضعيفة في مقابل ما يمكنهم إثباته بالتجربة (4)

 

أشباه العلوم:
كانت نتيجة ذلك التحول المنهجي الكبير في وسائل الحصول على المعلومة والتحقق منها، تطور الكثير من العلوم كالطب والهندسة والكيمياء والفيزياء، والتي احتاجت بعد تطبيق المنهجية العلمية عليها للتحقق من كثير من ادعاءاتها وإعادة بناء الكثير من نظرياتها ومراجعة حقائقها ومسلّماتها بغض النظر عن مكانة العلماء الذين آمنوا بها وقدسيتهم، كي تواكب هذه العلوم المتطلبات المتزايدة من الدقة والإثبات التي يفرضها المنهج العلمي. في المقابل فقد اندثرت الكثير من العلوم أو عجزت نظرياتها وأسسها عن الصمود أمام المنهج العلمي، ومنها علم الأبراج (Astrology) الذي قام على نظرية وجود علاقة بين حركات النجوم وبين طبائع وأمزجة البشر وهو ما عجز مدعوه عن إثباته بالمنهج العلمي(5). وكذلك علم الجماجم (Phrenology) والذي قام على ادعاء أن شكل جمجمة الإنسان يحدد شكل الدماغ الذي بداخلها وبالتالي يعكس شخصية صاحبها وميوله ومستقبله(6). ومنها أيضاً علم تفسير الأحلام (Dream Interpretation) و علم قراءة الخط (Graphology) والبرمجة اللغوية العصبية (NLP) وعلم التحليل النفسي (Psychoanalysis)، وغيرها. والتي تسمى في مجملها بأشباه العلوم (Pseudo-Sciences). وهذه تِعرّف كما في ويكيبيديا: بأنها هي أي مجموعة من المعارف والمناهج والمعتقدات أو الممارسات التي تدعي أنها علمية في حين انها لا تتبع طرائق المنهج العلمي. فالعلوم الزائفة يمكن أن تبدو علمية، لكنها في الواقع لا تخضع لقواعد قابلية الفحص “إمكانية التحقق” (Testability) المشروطة في المنهج العلمي. (7)

 

قابلية الفحص “إمكانية التحقق”:
تكمن أحد أساسيات المنهج العلمي في إمكانية التحقق من ادعاءات العلماء. فاستنتاجات عالم معين أو نتائجه أو آراؤه أو نظرياته تحصل على مكانتها العلمية بمقدار ما يمكن لباقي العلماء التحقق من صحتها بناءً على المنهج العلمي، وذلك بتجربتها على أرض الواقع أو إعادة التجربة أو مراجعة النتائج في محاولة لاكتشاف أي خلل أو خطأ فيها(8). وذلك ليس تشكيكاً في نزاهة العالم أو علمه وإنما لأن المنهج العلمي يهدف بالدرجة الأولى لمكافحة التحيز العلمي (Bias) وهو الأمر الذي يصعب أو ربما يستحيل فصله عن الأشخاص دون وجود منهج واضح يتيح ذلك (9). من رحم ذلك نشأت الدوريات العلمية التي تراجع مجالسها البحثية كل الأبحاث قبل نشرها لتتأكد من موافقتها لمنهجية النشر العلمي. أيضاً نشأت التجارب العمياء (Blind Experiments) والتي لا يعرف الباحثين، المشاركين فيها لجمع النتائج، أي شيء عن أفراد العينات التجريبية، وذلك لضمان حياديتهم في تسجيل النتائج وإزالة جميع النزعات المنحازة لنتيجة دون أخرى. وأيضاً نشأ إقرار تعارض المصالح (Conflict of Interests Declaration) والذي يفرض على العلماء بيان مصادر تمويل أبحاثهم من شركات أو هيئات وذلك لمعرفة أي تأثير قد يكون لذلك التمويل على حيادية البحث ونتائجه. ولم يقتصر ذلك على منهجيات البحث العلمي بل تعداه ليصبح في صميم العلوم السياسية والإدارية وأصبح أحد الممارسات الروتينية للكثير من الشركات والحكومات الديمقراطية والتي لا تشكك في نزاهة موظفيها بقدر ما أنها تهتم بحمايتهم من كل ما قد يؤثر في حيادية قراراتهم. فمنع التحيز هو مبدأ علمي أصيل، لا يهدف للتشكيك في نزاهة العلماء ولا اتهامهم بالهوى ولا الطعن في وثاقتهم بل يهدف لحماية نتائجهم العلمية من النقص والضعف البشريين وبالتالي حماية العلوم من الأهواء والأخطاء.(10)

العلوم الشرعية:
للأسف الشديد، بقيت العلوم الشرعية (علوم الحديث والرجال والفقه وغيرها)، منيعة أمام هذا التطور المنهجي العلمي بشكلٍ كبير. حيث لم يستطع روادها تبني المنهج العلمي (الطريقة العلمية) وتطبيقه على نظرياتها لأجل التحقق من سلامتها وصحة مبانيها لذلك بقيت تلك العلوم رهينة آراء الرجال وحبيسة مكانتهم العلمية. ويعود السبب في ذلك، من وجهة نظري، إلى أن الكثير من نظريات العلوم الشرعية لا تستطيع الصمود أمام متطلبات المنهج العلمي وقد لا يمكن التحقق من صحتها عن طريقه خصوصاً مع بناء جزء كبير منها على الإيمان المسبق بقداسة بعض الشخصيات الدينية كالأنبياء والآئمة. لذلك كان تجنب التصادم مع العلم المنهجي أدعى، فكان البديل هو ادعاء اختصاصها بالعلوم “الإلهية” في مقابل اختصاص المنهج العلمي بالعلوم “البشرية” وبذلك تتمكن العلوم الشرعية من السير بالتوازي مع المنهج العلمي دون تبنيه. بذلك تم سحب قداسة الدين ومفاهيمه الإيمانية ونصوصه وإيمان أتباعه بإلهيته وعصمة شخصياته، على العلوم الشرعية واعتبار نتائج هذه العلوم دالة بالضرورة على ما يجب الإيمان به والعمل به من التكاليف الدينية(11)، بل وزاد على ذلك اعتبار الاستدلال”عن طريق هذه العلوم” قطعياً أو ظنياً، منجزاً وواجب الاتباع كما أنه معذر ومقبول ومبرر دينياً ومبرئ للذمة بغض النظر عن مطابقته أو مخالفته للواقع المجهول وبدون النظر لنتائجه وآثاره على حياة الناس. (12) فكانت النتيجة، التغافل عن القدر الكبير من التأثير الذي قد تتركه نتائج اجتهادات “علماء” الدين سلباً أو إيجاباً على حياة المتدينين من أتباعهم التزاماً منهم بما يعتقدون أنه يرضي الله سبحانه وتعالى. وفي هذا مافيه من توقير للاستنباطات النظرية وإهمال للنتائج العملية. وقد يكون تبرير هذا النوع من الاجتهاد النظري مقبولاً “نسبياً” لو اعتمد المجتهد على أحدث ما توصلت له البشرية من علوم ومناهج في اجتهاده، ولو أمكن قياس فائدة كلاً من هذه الاجتهادات على متبعيها بشكل مباشر، كما يقاس أثر الدواء على المريض. أما إذا كان اجتهاد المجتهد مبنياً على أشباه علوم أو نظريات لم يتم التحقق منها أو أدلة ظنية (13)، دون التفات لما توصل له باقي البشر في هذا العصر من علوم، فكيف يكون معذوراً في ذلك؟؟ أيضاً كيف يمكن التعبد وبالتالي التقيد بمخرجات العلوم الشرعية بشكل إلزامي شرعي لا تبرأ الذمة أمام الله إلا بالتقيد به، بل وهناك عواقب دنيوية على مخالفته، وليس بشكلٍ اختياري عقلائي، كلجوء المريض للدواء، إذا لم تكن نتائجها مبنية على منهجٍ سليم أو على الأقل مبنية على أفضل المنهجيات العلمية الموجودة؟؟ فالشكل الإلزامي للتعبد يتطلب الوصول للقطع بنتائج العلم الذي يتم التعبد على أساسه خصوصاً في ظل الجهل بالمصلحة أو الفائدة المترتبة على هذا التعبد بينما الشكل العقلائي للتعبد يعني الاعتراف بإمكانية الخطأ في الاستنتاج وبالتالي يتحمل المكلف مسؤولية اختيار القيام بالعمل من عدمه بناء على الدافع العقلائي باتباع ما يقوم عليه الدليل والذهاب حيث تكون المصلحة. وقد كان نشوء مصطلح “المعلوم من الدين بالضرورة”، من وجهة نظري، طامة كبرى على العلوم الشرعية. فهو يمنع الناس من التشكيك في نظريات العلوم الشرعية الحالية، وبذلك يمنع إخضاعها للتحقق تحت طائلة التهديد بحكم الردة والاستتابة أو القتل. فالمعلوم بالضرورة يعرّف بأنه ما لا يسع المسلم أن يجهله وقال الفاضل المقداد: ” الكفر اصطلاحا هو إنكار ما علم ضرورة مجيء الرسول به ” (14). وبذلك يُنفى الإسلام تلقائياً عن من يتجرأ على مراجعة أدلة ذلك “المعلوم بالضرورة” أو مبانيه أو يصل لنتائج تخالفه وتُضفى بذلك هالة من القدسية على ما تعارف عليه عامة المسلمين بدون السماح بالتدقيق في منهجيات العلوم التي أنتجت تلك المعارف. وهذا “المعلوم بالضرورة” أو ما لا يسع الناس أن يجهلوه من أمور الدين حالياً يذكرنا بما لم يكن يسع الناس أن يجهلوه سابقاً من أن الأرض مسطحة، أو أن القلب هو محل الفكر، بناء على علومهم في ذلك الوقت، فهل نحن نبرر بذلك قتل جاليليو ونظرائه ممن تجرؤوا على تحدي “المعلوم بالضرورة” في عصورهم؟؟ بل هل يعقل أن نخرج من ينكر كروية الأرض في عصرنا هذامن الإنسانية ونحاكمه بحجة أنه أنكر “معلوماً بالضرورة” بناءً على علومنا الإنسانية الحالية؟! أم أن العلوم الدينية لها خصوصية معينة؟؟ بالإضافة لكل ما سبق، لم يبذل رواد العلوم الدينية أي جهد يذكر لإثبات نظرياتهم وأسس علومهم تجريبياً، بل بقيت تلك العلوم نظرية ومتطفلة على سواها من العلوم التجريبية مقتنصة ما يتوافق معها من نتائج أو تجارب وإثباتات يتوصل لها سواهم دون بذل أي مجهود حقيقي في سبيل تبني المنهج التجريبي في إثبات مبانيها وأسسها. لذلك فسنتطرق فيما يلي بشكل مختصر لبعض الإشكالات المعاصرة على بعض نظريات العلوم الشرعية، كي نفتح الباب للمزيد من البحث والمراجعة من قبال طلبة العلوم الشرعية.

علم الحديث والرجال:
إذا أخذنا علم الحديث وعلم الرجال كأمثلة، نجد أن أساليب التحقق الحالية فيهما محصورة بما يتوافق مع نظريات هذين العلمين ومحدودة بأطرهما، فالتحقق محصور حالياً بالبحث في أضيق صوره حول “صحة” الحديث و “ضعفه” وذلك بالرجوع لرجاله ودراسة من وثّقهم أو ضعّفهم في كتب الجرح والتعديل أو بدراسة متنه ومقارنته بالنصوص الأخرى المثبتة بنفس الطريقة (15) بينما لا نجد قبولاً في أوساط علماء الحديث والرجال للمراجعات المنهجية لعلم الأصول مثلاً. ومن ذلك النقد المنهجي لنظرية حجية التواتر واستحالة التواطؤ على الكذب، ونظرية حجية أخبار الثقات، ونظرية استحالة تعارض العقل الصريح مع النقل الصحيح، وغيرها. فإمكانية التنبؤ بدقة بصدق الأشخاص أو كذبهم من خلال الآراء والاجتهادات الشخصية والنقولات الفردية لأشخاص آخرين حول وثاقتهم أو ضعفهم، هو ادعاء يحتاج في ذاته للتحقق منه بشكل منهجي. إذ ليس هناك وسيلة عملية للتحقق من واقعية صدور النص من المعصوم  وبذلك يبقى كل اجتهاد نصوصي في إطار الظن. كما لا يمكن التحقق من “وثاقة” شخص توفي قبل مئات السنين وإن “وثّقه” فلان أو فلان. أيضاً لا نجد وسيلة معتبرة لمنع التحيز العلمي والسهو والخطأ في أخبار هؤلاء “الثقات” ولا طريقة للتحقق منها حتى ولو سلمنا نظرياً بـ”وثاقتهم”. كما لا توجد طريقة لمنع التحيز لدى الأشخاص الذين جمعوا الحديث في كتب ودونوه من “الثقات” أو من سواهم سواء في كتب الحديث الموسوعية أو في “الصحاح”. بل ولا توجد حتى طريقة واحدة لمنع التحيز في انتقاء الأحاديث التي يتم الاعتماد عليها في بناء العقائد والأحكام من هذه الكتب. بل على العكس من ذلك نرى أن كل طرفٍ من أطراف المسلمين يتهم الطرف الآخر بالتحيز والأخذ الانتقائي من التراث الديني بما يتناسب مع ميوله وتحيزاته وقناعاته بينما لا يملك هو نفسه منهجية تحميه وتعصمه من القيام بذلك. فالمعتمد “العلمي” الوحيد بناءً على علمي الحديث والرجال هو الأخذ برأي فلان حول فلان لأن فلان “موثوق” أو الأخذ بنقل فلان عن فلان لأن فلان “موثوق”، وهو ما استطاعت المنهجية العلمية إبطاله منذ عدة قرون، حيث قامت بفصل “موثوقية” الأشخاص عن صوابهم روايةً أو درايةً. بل وحتى المحاولات المتعددة للخروج من تلك الهيمنة اللامنهجية لواضعي نظريات علمي الحديث والرجال لم تلاقِ قبولاً وترحيباً بين رواد تلك العلوم. ومن ذلك القانون الكلي للفخر الرازي، والذي قال قبل ما يقارب الألف سنة، أن كل النقولات تفيد الظن إلا بشروطٍ عشرة يندر أو ربما يستحيل اجتماعها وبذلك كان من الممكن الخروج على الأقل من منظومة الدين الجبري الذي نعيشه الآن إلى منظومة الدين الاختياري السمح بناءً على القول بظنّية النقولات والاجتهادات المبنية عليها.

التواتر وخبر الثقة:
نظرية التواتر تقوم، بحسب الشهيد الصدر، على أن تعدد المخبرين يقلل احتمالات الكذب والخطأ إلى درجة القطع أو العلم بموافقة أخبارهم للواقع. حيث يقول في باب حجيّة الأخبار “الخبر ينقسم إلى خبر علمي مفيد لليقين الحقيقي أو العرفي والاطمئنان ، وخبر غير علمي ، والأول أوضح مصاديقه الخبر المتواتر” (16) ويقول أيضاً “قيمة الاحتمال تمثل دائما كسرا محددا من رقم اليقين. فإذا رمزنا إلى رقم اليقين بواحد ، فقيمة الاحتمال هى ٢/١ أو ٣/١ أو أى كسر آخر من هذا القبيل ، وكلما ضربنا كسرا بكسر آخر خرجنا بكسر أشد ضالة كما هو واضح. وفى حالة وجود مخبرين كثيرين لابد من تكرار الضرب بعدد إخبارات المخبرين لكى نصل إلى قيمة احتمال كذبهم جميعا ، ويصبح هذ الاحتمال ضئيلا جدا ، ويزداد ضالة كلما ازداد المخبرون حتى يزول عمليا ، بل واقعيا لضآلته وعدم إمكان احتفاظ الذهن البشري بالاحتمالات الضئيلة جدا. ويسمى حينئذ ذلك العدد من الاخبارات التى يزول معها هذا الاحتمال عمليا أو واقعيا بالتواتر ، ويسمى الخبر بالخبر المتواتر. ولا توجد هناك درجة معينة للعدد الذى يحصل به ذلك. لان هذا يتأثر إلى جانب الكم بنوعية المخبرين ، ومدى وثاقتهم ونباهتهم وسائر العوامل الدخيلة فى تكوين الاحتمال. وبهذا يظهر أن الاحراز فى الخبر المتواتر يقوم على أساس حساب الاحتمالات.” (17)

وهي، كما ترون، نظرية جميلة إلى أن تصل لادعاء الوصول لليقين أو القطع بواقعية الخبر بناءً على هذا التواتر دون التفصيل في درجته. فبالرغم من كونه يقوم نظرياً على حساب الاحتمالات إلا أن هذا لا يعطي التواتر أي قيمة إحصائية، طالما كان حساب احتمالات الخطأ والصواب فيها يتم ذهنياً ودون البرهنة عليه وإيضاحه رياضياً. فذلك مخالف لكل الاستعمالات الإحصائية في العلوم الحديثة، حيث لا يكفي في عصرنا الحاضر أن نقول أن نسبة فاعلية دواء معين “عالية” دون تعيينها وتبيانها رقماً (18). لذلك راعني استشهاد الشهيد الصدر في ذات الكتاب بثبوت فاعلية الأسبرين بناءً على الإحصاء وحساب الاحتمالات من أجل إثبات انطباق حساب الاحتمالات على التواتر مع الفارق الكبير والذي لا يجهله بكل تأكيد، حيث أن الأسبرين قد تم إثبات فاعليته بالتجربة وتم حساب النسبة الدقيقة لاحتمال قدرته على التأثير، بحيث يستطيع كل إنسان اختيار العلاج به من عدمه بناءً على قبوله لنسبة الفاعلية هذه، بينما لم يذكر أي من رجال الأصول قيام أحد منهم بإجراء التجارب لإثبات مصداقية كل مستوى من مستويات التواتر كما لم يذكر الشهيد الصدر ولا غيره، على حد علمي وسيلة لتعيين نسبة محددة لاحتمال الكذب أو الخطأ لدى كل عدد من المخبرين عند قياس تواتر نص شرعي معين، مع ذلك فقد حكموا بقطعية نتيجة التواتر بحجة تضاؤل نسبة الكذب (الغير معلومة أصلا) وبذلك فقد حصنوا الرأي الشخصي للمجتهد وجعلوه حاكماً على آراء المكلَّفين. أيضاً فإن تعميم الصدق عند التوثيق بناءً على جهل السامع بدواعي الكذب لدى الناقل أو بما يخدش صحة نقله، في مقابل تقييد الكذب بنسبة أو كسر محدد هو أمر غريب ويحتاج إلى برهان. وإلا فكيف ينبني العلم على الجهل؟ فالشهيد الصدر رمَز لليقين بالواحد وجعل احتمال الكذب نسبة أو كسراً منه. ويبدو لي أنه بذلك غفل أو تغافل عن أن توقع الكذب أو رؤية دوافعه هو أمر شخصي وغير موضوعي، فكل إنسان يُغفِل بشكل إرادي أو لا إرادي احتمال الكذب من رجال طائفته أو معارفه أو من هم على عقيدته ولا ينتبه إلا لاحتمال الكذب من الآخرين، وهو ما يسمى بالتحيز التأكيدي (Confirmation Bias)، فعلى أي أساس يكون تعيين هذا الكسر؟؟ (19), خصوصاً وأن أحوال الرجال ليست يقينية فمنها الظاهر ومنها الخفي ولا يمكن التحقق من ظروف حياتهم ومعيشتهم والدوافع النفسية لهم وحيثيات شهادتهم والمنافع التي قد تعود عليهم وغيرها من الأمور التي قد تدفعهم للكذب أو السهو أو الخطأ. لذلك كان من المستغرب، أن يقرن الشهيد الصدر التواتر بالإخبارات الحسية في قوله بـ “عدم وجود نكتة مشتركة للخطأ في التواتر والإخبارات الحسية عادة ، بخلاف ذلك في الإجماع والفتاوى الحدسية ، ووجود نكتة مشتركة للخطأ له أثر كبير في إبطال حسابات الاحتمال ، فمثلاً إذا أخبر عشرة عن وجود الهلال وكانوا في نقطة فيها نصب يشبه بالهلال فلا يحصل العلم من إخباراتهم وهذا بخلاف ما إذا لم يكن ذلك النصب موجوداً ” (20) فهنا يقر بأن العلم لا يتحصل من إخبارات الجماعة من الأشخاص بسبب وجود هذا النصب والذي يحتمل بسببه اشتباههم، ولكنه لا يحتمل أن يوجد مثل هذا النصب وعدم علمنا به لبعدهم الزمني أو المكاني، مع أنهم عشرة أشخاص وبالتالي فقد كان من الممكن أن ينطبق على خبرهم مسمى المتواتر. فهل في حال الجهل بوجود النكتة المشتركة للخطأ يصبح خبرهم حسياً يورث العلم أو القطع؟؟ في رأيي، فإن الأنسب هنا أن نصل لنتيجة مفادها أن أخبار الرجال لا تجلب العلم إلا بالمقدار الذي يمكن معه “التحقق” من صحتها بوسيلة حسية أو عقلية غير الخبر نفسه، وذلك لوجود الاحتمال المستمر بوجود دوافع مجهولة للكذب أو الخطأ أو الاشتباه لمجرد كونهم بشراً غير معصومين.  فهي تفيد الظن بدرجات تتناسب مع عدد المخبرين ووثاقتهم وظروف شهادتهم ووجود قرائن على صدقهم أو كذبهم.

 ومن الطريف أن رجال الأصول قد انتبهوا إلى أن الكثرة في ذاتها لا تكفي للقول باستحالة التواطؤ على الكذب أو امتناعه وبالتالي القطع بصحة نقلهم وحصول العلم والقطع منه، بل اشترطوا شرطاً آخر بالتوازي وهو الوثاقة وبذلك نكون قد عدنا للمربع الأول وهو تحقيق أحوال رجال التواتر بناءً على أقوال الرجال والنظر في دوافعه المعلنة للكذب واحتمالات خطئه واشتباهه وهو مالا يمكن التحقق منه بشكلٍ تام. ومن ذلك ما قاله الدكتور عبدالهادي الفضلي “أن العلم بامتناع تواطئهم على الكذب، أو العلم بعدم تواطئهم عليه، لا يكون دليلا على صدق الخبر، وعدم تعمد المخبرين بالكذب، لأن للكذب أسبابا ودواعي أخر غير التواطئ عليه، فإن الحب والبغض في الأفراد ربما يجران إلى التقول في الأفراد الكثيرة بلا تواطئ، خصوصا إذا كانوا أصحاب هوى ودعاية. وهذه هي القوى الكبرى العالمية الذين تلعب أيديهم تحت الستار في مجال الإعلام العالمي، فربما تنطق جماعة كثيرة في أرجاء مختلفة بكلام واحد بإشارة من السلطات، من دون أن يطلع واحد منهم على الآخر. فمجرد علمه بعدم التواطئ لا يكفي في رفع الشك في التعمد بالكذب.” ونقل العلامة الفضلي أيضاً قول الشهيد الثاني “ولا ينحصر ذلك يعني كثرة الرواة المفيدة للعلم في عدد خاص – على الأصح – بل المعتبر العدد المحصل للوصف وهو إحالة العادة اتفاقهم على الكذب فقد يحصل في بعض المخبرين بعشرة وأقل، وقد لا يحصل بمائة، بسبب قربهم إلى وصف الصدق وعدمه”.
كما نقل قول الشيخ المامقاني “وهذه الأقوال كلها باطلة [يقصد تحديد عدد معين من المخبرين]، لأن كل واحد من هذه الأعداد قد يحصل العلم معه، وقد يتخلف عنه، فلا يكون ضابطا ” إلا أن الدكتور الفضلي رحمه الله افترض وجود طريقة نأمن معها من عدم الكذب “فالأولى أن يضاف إلى التعريف قولنا: يؤمن معه من عمدهم على الكذب. ويحرز ذلك بكثرة المخبرين ووثاقتهم، أو كون الموضوع مصروفا عنه دواعي الكذب، أو غير ذلك” (21) ولكنه لم يتطرق لآلية ومنهجية واضحة تتناسب مع منهج وآليات علم الإحصاء الحديث وباقي العلوم التجريبية الحديثة.

فنحن بحاجة لإثبات إحصائي أن الوثوق النفسي بالمخبرين، بالإضافة إلى كثرتهم، دال بشكل واقعي على صدق كلامهم وصحته وسلامته من التحيز والوهم والاشتباه، كي نستطيع استخدامه كبرهان. أيضاً نحن بحاجة لإثباتٍ على أن المطلوب هو التحرز من الكذب دون الخطأ والسهو والاشتباه والتي يتزايد احتمالها كلما زاد طول الواسطة بين عصر التواتر المدعى وعصرنا الحالي أو عصر التدوين على الأقل والتي شكّلت سبباً لاعتراض بعض الأصوليين بأن التواتر غير ممكن وربما يكون مستحيل التحقق. أما بالنسبة لمطالبتي باستخدام المنهجية العلمية، فهي من أجل تقوية الادعاءات الظنية التي ذكرت أمثلة عليها أعلاه، والتي قامت بمجملها على منطق نظري يرى منجزية التواتر وغيره من الأخبار الظنية، وهو وإن كان يمثل في يوم من الأيام قمة ما توصلت له البشرية من منهجيات ووسائل تحقق. إلا أنني أتوقع من رجل الأصول في العصر الحاضر أن يقوم بالتحقق من المرتبة البرهانية للتواتر. على سبيل المثال بالتحقق الحسي والتجريبي من حقيقة عددٍ من الأحداث التي تنطبق عليها شروط التواتر النقلي في عصرنا الحالي بأعداد مختلفة، ثم يذكر لنا نسبة الأحداث المتواترة نقلاً والتي طابقت الواقع الحسي والتجريبي مقارنة مع ما اتضح بطلانه منها، ويحدد لنا عدد الناقلين والبعد الزمني في كل حال منها، بحيث نصل إلى نتيجة إحصائية بشأن العدد اللازم من رجال التواتر والبعد الزمني المناسب من أجل تقليل احتمال الكذب والخطأ بشكلٍ كافٍ للعمل بنقلهم، ثم مقارنة ذلك بعدد الناقلين لكل من لأحداث أو النصوص التاريخية “المتواترة” مما يعطينا مؤشراً على احتمال الكذب والخطأ في كل حدث منها.

الخاتمة:
نعم من المسلّم به أن العلوم الشرعية نشأت في عصور كانت الغلبة فيها للعلوم النظرية، وبالتالي لم يكن من الشائع مطالبة العلماء في ذلك الوقت بإثبات نظرياتهم وادعاءاتهم تجريبياً، أما الآن ونحن نرى الكثير من الادعاءات النظرية تبدي فشلها الذريع أمام المناهج العلمية التجريبية فينبغي علينا أن نحذر من الأخذ بتلك النظريات كمسلمات، خصوصاً وأن المترتبات عليها كبيرة جداً وصلت في كثير من الأحيان لقتل مخالفيها أو إهدار دمهم. فالدين بشكله الحالي والذي يستهلك حيزاً كبيراً من حياتنا اليومية ما هو إلا نتاج تلك العلوم الشرعية مهما شاعت طقوسه بين الناس لدرجة وصف نظرياته بأنها من “المعلوم من الدين بالضرورة”. أفلا يحق لنا بعد ذلك مطالبة رجال الدين بتحديث منهجياتهم البحثية والتحقق من صحة نظرياتهم وادعاءاتهم قبل توجيهها للناس كمسلّمات يجب التعبد بها؟؟ طبعاً من المتوقع أن ينبري البعض للدفاع عن العلوم الشرعية بشكلها الحالي، وقد كانت الوسيلة الشائعة لذلك هي ادعاء الاختصاص بالعلوم الشرعية ومن ثم ضرب الأمثلة بعدم صحة بعض النظريات العلمية، ولكن من غير اللائق، في رأيي، أن نرى الشوكة في عيون الآخرين ولا نرى الجذع في أعيننا. فضرب الأمثلة ببعض النظريات المختلف حولها علمياً، هو تجاهل متعمد للبحر الذي نعيش في وسطه من العلوم الحديثة ومنتجاتها التي فرضت نفسها واكتسبت ثقة الناس بها. نعم لا يدعي فلاسفة العلوم أو روادها أن المنهج العلمي وصل لكماله أو أن المنهج العلمي الحالي لا يمكن أن يتطور أكثر. ولكن هذا الاعتراف باستمرارية تطور العلم الحديث والمنهج العلمي يفتح المجال للمزيد من الجهود البشرية من أجل تطويره. فهو لايعدو في عصرنا هذا كونه أفضل المنهجيات الموجودة. ولكن العيب كل العيب في العلوم اللامنهجية التي لا تريد مواكبة هذا التطور لأنها تعتقد بكمالها. تبقى الإشارة إلى أن الحقيقة مستقلة عن ما نعتقد أنه الحقيقة بناءً على علومنا الحالية، وكذلك الدين مستقل عن ما نعتقد أنه الدين بناءً على علومنا الحالية. لذلك، وكما أن تطور منهجية العلوم الحياتية كشف لنا فهماً أعمق وأكثر واقعية للحياة، فكذلك لا بد من تطور منهجية العلوم الدينية كي نتمكن من الوصول إلى فهمٍ أعمق وأكثر واقعية للدين.

علي بن محمد الحمد
طبيب وباحث سعودي

 

المصادر:
(1) Peirce 1877; The Fixation of Belief; Pop Sci Mo, v.12, pp 1-15 ”         It is not in the least the question whether, when the premisses are accepted by the mind, we feel an impulse to accept the conclusion also. It is true that we do generally reason correctly by nature. But that is an accident; the true conclusion would remain true if we had no impulse to accept it; and the false one would remain false, though we could not resist the tendency to believe in it. “
(2) Goldhaber & Nieto 2010; p. 940
(3) Brodhead & Paris 1831; Pharmacologia; p. 27
(4) Ian Maclean; Logic, Signs and Nature of the Renaissance 2002; p. 207
(5) Pollak, Melissa 2002; Sci & Eng Inicators; Public Attitudes and Public Understanding:Science Fiction and Pseudoscience, pp. ch. 7
(6) Magendie 1843; An Elementary Treatise on Human Physiology; p. 150
(7) Shermer 1997; Why People Believe Weired Things, Superstition, and Other Confusions of our time; p. 17-33
(8) Kuhn 1996; The Structure of Scientific Revolutions. 3rd ed.
(9) Cain, D.M. and Detsky, A.S. Everyone’s a Little Bit Biased (Even Physicians) JAMA 2008;299(24):2893-289.
(10) Ruth Fischbach and Joyce Plaza; Columbia Center for New Media Teaching & Learning (CCNMTL) in collaboration with the Columbia University Center for Bioethics and the Columbia University Office for Responsible Conduct of Research.
http://ccnmtl.columbia.edu/projects/rcr/rcr_conflicts/foundation/

(11) السبحاني؛ الرسائل الأربع؛ ص. 66
” يشترط في جواز العمل بالرّأي فضلاً عن رجوع الغير إلى من يجوز له العمل به، استنباط الحكم عن أدلّته الشرعيّة، وهذا موقوف على تحصيل مقدمات إليك بيانها”

(12) دروس في علم الأصول- ج١ ص١٧٤
“والذى ندركه بعقولنا أن مولانا سبحانه وتعالى له حق الطاعة فى كل ما ينكشف لنا من تكاليفه بالقطع أو بالظن أو بالاحتمال ما لم يرخص هو نفسه فى عدم التحفظ ، وهذا يعنى أن المنجزية ليست ثابتة للقطع بما هو قطع بل بما هو انكشاف ، وأن كل انكشاف منجز مهما كانت درجته ما لم يحرز ترخيص الشارع نفسه فى عدم الاهتمام به.”

(13) دروس في علم الأصول- ج١ ص٧٢
والدليل الناقص إذا حكم الشارع بحجّيته” وأمر بالاستناد إليه في عملية الاستنباط على الرغم من نقصانه أصبح كالدليل القطعيّ وتحتّم على الفقيه الاعتماد عليه. ومن نماذج الدليل الناقص الذي جعله الشارع حجّةً : خبر الثقة ، فإنّ خبر الثقة لا يؤدّي إلى العلم ؛ لاحتمال الخطأ فيه أو الشذوذ ، فهو دليل ظنّيّ ناقص وقد جعله الشارع حجّةً وأمر باتّباعه وتصديقه ، فارتفع بذلك في عملية الاستنباط إلى مستوى الدليل القطعي.”

(14) الإيمان والكفر، الشيخ جعفر سبحاني، ص٥٠

(15) كمثال، راجع
الوضع في الحديث الشريف : دراسة في المواجهة وأساليبها – د. حيدر حب الله
“ظهر من مطاوي ما أسلفناه أهمية دراسة الوضع والحديث الموضوع، ورأينا كيف أنّ هذا الأمر يكاد لا يخلو منه كتاب في الحديث، وأنّ الأهم من كل شيء أن يملك المشتغل بالحديث ثقافةً وخبرة وحسًّا تسمح له مع اجتماعها بالتقاط عناصر القوة والضعف في هذه الرواية أو تلك، كي لا يطيح بحديث قد صدر واقعاً، نتيجة استعجاله الأمور أو حرقه المراحل، ولا تنطلي عليه كذبة كاذب فيُدخل في الدين ما ليس منه”

(16) بحوث في علم الأصول ج٤ ص٢٧٠

(17)دروس في علم الأصول – ص٢٧٠

(18) Feingold, M. (1999), The measure of reality: Quantification and western society, 1250–1600. J. Hist. Behav. Sci., 35: 423.

(19) Personal Biases – Barriers to Decision Making
Boundless Open Textbooks
https://www.boundless.com/management/decision-making/barriers-to-decision-making/personal-biases/

(20) بحوث في علم الأصول ج٤ ص٣١١

(21) أصول الحديث ص٧٣ – ٧٥

 
—————————————————-

أزمة العلوم الشرعية في مقابل المنهجية العلمية الحديثة
الجزء الثاني: الخمس والمرجعية والتقليد وتعارض المصالح لدى فقهاء الشيعة

مقدمة:
تمثل المنهجية العلمية (Scientific Method) آخر ما توصل إليه الجنس البشري من قواعد تنظم سبل اكتسابه للمعرفة وتنظم آليات تداولها واستخدامها بين أفراده. فهي تتيح للعلماء والباحثين وسواهم إمكانية التحقق من صحة نظريات وتجارب واستنتاجات واستقراءات بعضهم البعض. بحيث لا يصبح الأخذ بأقوال بعضهم رهناً بالمكانة العلمية أو الاجتماعية لهؤلاء بل يكون رهنا بالآلية والمنهجية التي اعتمدوا عليها من أجل الوصول لما توصلوا إليه. هذه المنهجية التشكيكية الحذرة تقوم بشكل رئيسي على تحييد جانب الهوى الشخصي وتعزيز جانب التحقق العلمي لأجل الوصول للحقيقة المجردة كما نعتقدها.(١) فمنذ منتصف القرن التاسع عشر دخلت الموضوعية (Objectivity) في البحوث العلمية كقيمة أخلاقية تعطي النتائج العلمية والبحثية المكانة التي تستحقها من التقدير والقبول وذلك بالتناسب مع مقدار الموضوعية وعدم التحيز لدى الباحث أو الباحثين الذين توصلوا إليها.

الموضوعية في مقابل التحيز:
الموضوعية (Objectivity)، في تعريفها هي ضرورة أن يسعى العلماء، أثناء بحثهم عن الحقيقة، للتخلص من كل التحيزات الشخصية والأحكام المسبقة والضغوط العاطفية وما شابهها. (٢) والتي قد تحرف نتائج بحثهم بشكل متعمد أو غير متعمد إلى نتيجة معينة يحتمل أن تكون مخالفة للواقع. فالموضوعية هي حالة من الصراع المستمر والواعي على المستوى الشخصي بين كل عالِم أو باحث وبين خصائصه البشرية من أهواء ورغبات وطموح ومغريات ودوافع نفسية والتي تسمى إجمالاً بالتحيزات الشخصية (Personal Biases). هذه التحيزات الشخصية هي طبائع بشرية لا يمكن فصلها تماماً عن البشر، فهي لا تعتبر نقائص على المستوى الشخصي. ولكنها تعتبر نقائص على المستوى العلمي، فعندما تطرح ادعاءات معينة كحقائق فإن العالِم نفسه يصبح على المحك (من الناحية العلمية) بالإضافة إلى الوسيلة التي اتبعها للوصول لتلك الحقائق. (٣) لذلك فمن الضروري التقليل من أثر هذه التحيزات على النتائج العلمية، وذلك باللجوء إلى عدد من الوسائل المنهجية والتي تمكن الباحث نفسه من منع تحيزاته الخاصة من التأثير على نتائجه العلمية، على عدد من المستويات، كما أنها تمكن زملاءه الباحثين من تقييمها بشكل موضوعي والتحقق من صحتها أو تحديد مكمن التحيز في بعض الأحيان. أشهر هذه التحيزات وأكثرها شيوعاً، هو ما يسمى بالتحيز التأكيدي (Confirmation Bias) والذي يجعل الباحثين يبحثون عن الأدلة التي تثبت وجهات نظرهم أو ما يؤمنون به مسبقاً دون النظر بشكلٍ جاد في الأدلة المناهضة له. (٤) وحيث أن الحقيقة المجردة هي مطلب كل الباحثين، فإنه من المفترض، نظرياً على الأقل، سعيهم لاتباع كل الوسائل التي تضمن المحافظة على حياديتهم وعدم تحيزهم والحفاظ قدر المستطاع على سلامة نتائجهم.
هذا وبالإضافة إلى منع التحيز على المستوى الشخصي، فإن الموضوعية، كقيمة أخلاقية، تشكل حالة من الصراع المستمر والواعي على المستوى العام بين المؤسسات أو الأفراد المستهلكين للنتائج العلمية والأبحاث، وبين المؤسسات أو الأفراد المنتجين لها. فالجهات التي تستخدم النتائج العلمية تحتاج لمعرفة أن هذه النتائج تمثل، بقدر الإمكان، الواقع كما يمكن قياسه، وذلك حتى تتمكن من الاعتماد عليها وتضمن، إلى أقصى حد ممكن، سلامة ما يترتب عليها من قرارات. تماماً كما أن المريض على سبيل المثال يحتاج للتأكد من أن الطبيب يصف له الدواء الذي تم التحقق من فاعليته تجريبياً وليس الدواء الذي يؤمن به الطبيب نظرياً، لما يصاحب ذلك من احتمال أكبر للخطأ، أو الدواء المستفيد من صنعه وبيعه مادياً. من أجل ذلك فرضت الهيئات الصحية في العالم والتي تمثل الجهات المستهلكة، على شركات الأدوية، والتي تمثل الجهات المنتجة، مجموعة كبيرة من الضوابط والقوانين والتي تضع عليها قيوداً دقيقة جداً فيما يتعلق بجودة الأبحاث التي تقوم بها وسلامتها، كما اشترطت عليها تقديم كامل تفاصيل الأبحاث التي قامت بها على الأدوية كي يتسنى للباحثين المستقلين التحقق من فاعليتها وسلامتها. بالإضافة إلى ذلك فقد منعتها من التسويق لأي دواء أو الترويج له أو ادعاء منفعته أمام الناس قبل التحقق من هذه الادعاءات من قبل هذه الهيئات الصحية.(٥) وذلك كله لأن لشركات الأدوية مصلحة مباشرة في التوصل لنتائج علمية تؤكد فاعلية الأدوية التي تنتجها وبالتالي فمن الصعب الجزم بسلامة ودقة وحيادية نتائج الأبحاث التي تقوم بها أو تمولها. وينطبق هذا النموذج التشكيكي العلمي الدقيق على العديد من العلاقات الأخرى بين جهات منتجة للعلوم وجهات مستهلكة لها. والذي يهدف في النهاية لحماية المستهلكين لهذه العلوم من أخطاء الجهات المنتجة لها وتحيزاتها العلمية أو الشخصية والتي قد تؤثر في سلامة نتائجها وحيادها. من أجل ذلك أصبح من المهم وجود مختبرات وهيئات علمية وبحثية مستقلة للتحقق من صحة نتائج الجهات المنتجة والمسوِّقة للعلوم وادعاءاتها، كما أصبح من المهم ضمان استقلاليتها وعدم تأثرها بمصالح الجهات المنتجة وذلك من خلال عدد من الآليات ومنها ضمان عدم تعارض المصالح.

عدم تعارض المصالح:
ضمان عدم تعارض المصالح (Declaration of Conflict of Interests) هو مفهوم إداري وسياسي يشكل في إطار المؤسسات العلمية مجموعة من الضوابط الأخلاقية والإدارية التي تهدف لـِ “المحافظة على الموضوعية في البحوث العلمية عن طريق التزام المؤسسات البحثية وباحثيها بالكشف الكامل عن وجود أي تعارض للمصالح لديهم ووضع الآليات اللازمة للتعامل معه أو تقليله أو إلغائه”.(٦) هذا التعارض بين مصلحة الباحثين المادية أو المهنية أو الاجتماعية وبين متطلبات الأمانة والموضوعية العلمية، يشكل سبباً مهماً من أسباب انحراف نتائج البحوث بشكلٍ إرادي أو لا إرادي نحو النتائج التي تتفق مع تلك المصالح. لذلك فقد أصبح من المهم بالنسبة للجهات المستهلكة للبحوث العلمية، الكشف عن كل التعارضات ومحاربتها بتقليلها أو إلغائها لدى المؤسسات العلمية المنتجة لها. بالإضافة لذلك فإن المعرفة الكاملة بمدى تعارض المصالح الموجود في كل حالة بعينها، في حال لم يتم منع ذلك التعارض، يُمكّن الجهة المستهلكة من تحديد موقفها منها وذلك بقبول مستوى أقل من البرهان عليها أو بإعادة التحقق منها من قبل طرف مستقل آخر. بل ولم يقتصر هذا النوع  من الحذر المنهجي على التعارض المصلحي في النتائج العلمية، بل لقد سعت العديد من الشركات التجارية والمنظومات السياسية لتطبيقه على موظفيها ومسؤوليها خصوصاً من يتطلب عملهم اتخاذ بعض القرارات المهمة، وذلك لضمان أن تكون تلك القرارات منهجية وموضوعية ومحايدة ولا تخدم مصلحة أخرى تتعارض مع المصلحة العامة للشركة أو المنظومة السياسية. هذا النوع من الحذر المنهجي، لا يهدف للتشكيك في أمانة الباحثين ولا الموظفين المؤتمنين بقدر ما يهدف لحماية نتائجهم العلمية وقراراتهم الإدارية من أنفسهم البشرية وتحصينها من التأثيرات الخارجية عليها، والتي يمكنها أن تتخذ العديد من الأشكال. فبعضها بسيط وواضح كالهدايا والهبات والحوافز وعروض تمويل الأبحاث لدى الجامعات أو الشركات أو البنوك، وبعضها أكثر تعقيداً مثل الجمع بين وظيفتين أو مهمتين متعارضتين إحداهما علمية بحثية أو تشريعية والأخرى تنفيذية أو تجارية أو سياسية.

الخمس الشيعي:
يشكل الخمس (الحق الشرعي) لدى الشيعة مورداً مالياً مهماً من موارد الطائفة، استطاعت من خلاله مؤسستها الدينية وحوزتها العلمية أن تبقى مستقلة مادياً وسياسياً لفترة طويلة من الزمن(٧)، كما قامت عليه الكثير من المؤسسات الخيرية الشيعية في جميع أنحاء العالم. ولا يعنيني هنا مناقشة الجانب الفقهي والاستدلال على وجوب دفع الخمس من عدمه بقدر ما أنا معني بمناقشة الظروف العلمية والمنهجية للمؤسسات التي تقوم بالإشراف على تنفيذه وفي نفس الوقت الإفتاء بوجوبه وبما يتعلق به من أحكام وهي مؤسسات المرجعيات الشيعية. إذ لم تقم غالبية هذه المؤسسات، كما يظهر في تقاريرهم وبياناتهم، بأي مجهود يذكر للفصل بين الدور العلمي للمرجع الديني والذي يقوم على التدريس والاجتهاد والبحث العلميين من أجل استنباط الأحكام الفقهية ونشرها بين الناس. وبين الدور التنفيذي له في تحصيل الخمس من المؤمنين وتقرير وجوه التصرف فيه(٨)(٩). فهذا الدور العلمي للمؤسسة المرجعية يتطلب منها أقصى معايير الموضوعية والإقرار بوجود أي تعارض للمصالح يتم اكتشافه بل ومحاولة إلغائه لما في ذلك من احتمال التأثير على سلامة ما يتعبد به الملايين في أنحاء الكرة الأرضية بالإضافة إلى الحقوق المالية والقانونية المترتبة عليه، بينما الواقع هو أن المؤسسة المرجعية بأكملها تعتمد في تمويل أنشطتها ورواتب طلابها وأعضائها وطباعة كتبها ونشر نتائج بحوثها على هذا الخمس بل ويعتبر رأس هذه المؤسسة ممثلاً بالمرجع، الولي المطلق فيما يتعلق بمصارف الخمس والذي يدفعه المؤمنون بناء على الأحكام الفقهية التي تستنبطها وتتبناها ذات المؤسسة المرجعية. هنا لا يسعنا إلا أن نقول أنه ما دامت مؤسسة المرجعية تعتمد مالياً على أموال الخمس، فإن باب أحكام الخمس في الرسائل العملية للمجتهدين لا يمكن بحالٍ أن يخلو من أوجه تعارض المصالح. ابتداءً من تبني تفسير الغنائم في سورة الأنفال {وَاعلَموا أَنَّما غَنِمتُم مِن شَيءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسولِ وَلِذِى القُربىٰ وَاليَتٰمىٰ وَالمَسٰكينِ وَابنِ السَّبيلِ} بأنها مجمل الفائض عن المؤونة وليس خصوص غنائم الحرب مروراً بتفسير ذوي القربى على أنهم خصوص أهل بيت الرسول (ع) والمنحدرون من نسلهم وانتهاءً بتخصيص اليتامى والمساكين وابن السبيل بأيتامهم ومساكينهم وابن السبيل منهم(١٠). هذا بالإضافة إلى إعطاء الفقيه الولاية لنفسه في التصرف بهذه الأموال وإيجاب أخذ إذنه في صرفها لكونه “نائباً” عن الإمام وتحريم تأخير دفع الخمس ومساواة ذلك بالغصب الحرام ووجوب تقديم دفعه على الادخار الشخصي من أجل شراء مسكن مثلاً(١١) وغير ذلك من الآراء والفتاوى المتعلقة بالخمس والتي لا يمكن قبولها كما هي على أنها نتائج علمية كاشفة عن الحقيقة ومعذرة شرعاً مع غض النظر عما نراه من تعارض ظاهر بين التجرد العلمي المطلوب من مؤسسة الإفتاء كمؤسسة علمية وبين الوظيفة المالية التي تقلدتها. وهذا التعارض ليس متعلقاً بالضرورة بأي إساءة لاستخدام هذه الأموال أو إهدارها، ولا بالتشكيك بأمانة القائمين عليها وتقواهم وورعهم، بل يبقى قائما ومؤثراً وسبباً مهماً للتحيز العلمي حتى بفرض التحقق من حسن التصرف في هذه الأموال وصرفها في مواقعها المقررة من قبل المرجع.

المرجعية والتقليد:
هنا لابد لنا من التطرق ولو على عجالة إلى بعض الجوانب الأخرى لتعارض المصالح في أصل مسألة التقليد. حيث لا تخلو الرسائل العملية للمراجع من باب في وجوب التقليد وأحكامه مع العلم بأنه قضية أصولية وليست فقهية. إذ لا يمكن عقلاً تقليد المجتهد في وجوب تقليد المجتهد. فوجوب تقليد جهة معينة هو قضية أولية (a priori) لابد من الاعتقاد بها قبل تقليد واتّباع هذه الجهة عملياً. وذلك ينطبق على باقي أحكام التقليد من قبيل وجوب تقليد الأعلم وعدم جواز تقليد الميت ابتداءً وغيرها والتي مدارها اقتناع المكلف بالدليل عليها واعتقاده بها مسبقاً، حتى يصح له عقلاً أن يطبقها ويختار المرجع الذي يقلده بناءً عليها. ومع أن الملاحظ في أغلب الرسائل العملية أن أحكام التقليد المقدمة لعامة الناس تصاغ على هيئة مسائل وفتاوى تخلوا من الاستدلالات والبراهين مثلها في ذلك مثل باقي أبواب الكتاب بالرغم من كونها مسائل أولية اعتقادية إلا أن هذا مبحث آخر ليس هنا مكانه.
فضرورة القناعة المسبقة بوجوب التقليد لا تنفصل عن ضرورة القناعة المسبقة بقدرة المرجع أو المجتهد على استنباط الحكم الشرعي بشكل سليم، وبسلامة العلوم والوسائل والمباني النظرية التي يعتمد عليها عند استنباطه للحكم وقدرتها على الكشف عن الحكم الشرعي، وبعدم تحيز المرجع لرأي معين أو لمصلحة جهة معينة، وبعدم وجود أي تعارض لدى هذا المرجع بين وظيفته العلمية في استنباط الأحكام وأي وظيفة أخرى مالية أو تنفيذية تَقلّدها. وبالتالي ضمان كونه “صائناً لنفسه، حافظاً لدينه، مخالفاً لهواه” كما ينقل عن الإمام العسكري عليه السلام قوله. خصوصاً إذا كان المرجع هو من يفتي لنفسه بهذه الوظيفة المالية أو المنصب التنفيذي. بل ومن الضروري أيضاً ضمان عدم وجود تعارض للمصالح لدى “أهل الخبرة” والذين تحيل إليهم المؤسسات المرجعية عادة مسؤولية الدلالة على المجتهد الأعلم أو غير الأعلم والذي يجزئ تقليده شرعاً. حيث أن أهل الخبرة من داخل الوسط العلمي الشرعي في غالبيتهم يستلمون رواتبهم من وكلاء المراجع إن لم يكونوا هم ذاتهم وكلاء لبعض المراجع وبالتالي فقد لا يمكن ضمان حيادية رأيهم أو شهادتهم حول أعلمية المرجع الذي يقبضون الخمس من المؤمنين باسمه أو يستلمون رواتبهم منه أو من وكلائه.

لا ضريبة بلا تمثيل:
عندما ننظر بشكل منصف لهذا التداخل الوظيفي بين الدور العلمي (التشريعي) والمالي (التنفيذي) للمؤسسات المرجعية الشيعية. فلابد لنا أن نشير إلى ضرورة تفهم دورها ووظيفتها العلمية والاجتماعية تجاه المؤمنين بها والمنتمين إليها بالإضافة إلى حاجتها لمصادر التمويل كغيرها من المؤسسات. فتمويل المؤسسات العلمية في الأغلب لا يخرج عن عدة أصناف. فهو إما تمويل تجاري بمعنى أن تقدم المؤسسة إنتاجها أو خدماتها وتقبض ثمنها، أو تمويل سياسي بمعنى أن تمول من قبل حكومة أو منظومة سياسية معينة، أو تمويل خيري يقوم على التبرعات الطوعية من المستفيدين وغيرهم، أو تمويل ضريبي يقوم على الضرائب والرسوم الإلزامية. ولسنا هنا في معرض التفصيل في مميزات وعيوب كل واحد من هذه الأنواع فلكل واحدة منها تحيزاتها وتعارضاتها. ولكن الواقع الملاحظ هو أن المؤسسات الدينية الشيعية تعتمد بشكل أساسي على النوعين الأخيرين وهما التمويل الخيري ممثلاً بالهبات والصدقات والتمويل الضريبي ممثلاً بالخمس. وإذا تغاضينا عن مسألة تعارض المصالح في فتاوى الخمس، وعن كون الخمس أمراً إلهياً من عدمه. نجد أن فرض رسوم أو ضرائب معينة على أعضاء أي جماعة من أجل خدمة أعضاء الجماعة هي أمر شائع لدى البشر وغير مستنكر أو مستهجن خصوصاً إذا كان الانتماء لهذه الجماعة طوعياً ويسهل بذلك الانفصال عنها والتوقف عن دفع الرسوم. أما إذا كان هذا الانتماء مفروضاً بقوة اجتماعية أو سياسية أو كان من الصعب الخروج والانفصال عنه لأي سبب. فقد نشأت بعض القواعد لتنظيم الضرائب الإلزامية والتي أثبتت تجارب الأمم الأخرى جدواها ومنها مبدأ الرقابة الشعبية والشفافية. والتي يمثلها شعار “لا ضريبة بلا تمثيل” (No Taxation without Representation)  والذي رُفِع في منتصف القرن الثامن عشر في المستعمرات البريطانية وذلك كرد فعل على فرض الملك البريطاني لضرائب جديدة على سكان هذه المستعمرات دون أن يكون لهم من يمثلهم في البرلمان البريطاني المسؤول قانوناً عن فرض الضرائب وهو الحق الذي يضمنه قانون الحقوق البريطاني في ذلك الوقت (Bill of Rights 1689). وقد عبَّر عن هذا الشعار السياسي البريطاني جون هامبدن بقوله (John Hampden): “ما لا يملك الملك الإنجليزي الحق للمطالبة به، فإن للمواطن الإنجليزي الحق في رفضه”. حيث أن الرقابة البرلمانية على الحكومة من قبل ممثلي الشعب تقوم بعددٍ كبير من المهام الرقابية الأساسية من أجل التحقق من الحاجة الفعلية لفرض الضرائب، وعدالة توزيعها، وأنها موجهة فعلاً لخدمة الشعب وليس لخدمة الطبقة الحاكمة ومن أجل تحديد مقدارها بحسب حاجة الشعب والبلاد لذلك، والرقابة على صرفها والتأكد من عدم إهدارها. هذا بالإضافة إلى وضع القوانين التي تنظم فرض أي ضرائب جديدة، والتأكد من كونها كلها تفرض لأجل مصلحة واضحة ومحددة ولا تُفرض باسم الواجب الشرعي أو القانوني فقط.

الخاتمة:
في الختام، فأنا أعتقد أنه ومن أجل الحفاظ على علاقة المنفعة المتبادلة بين مكلّفي الشيعة بصفتهم الجهة المستهلكة للفتاوى الشرعية وبين المؤسسات الدينية بصفتها الجهات المنتجة لها والمستفيدة منها، في مستوى مشابه لمستواها الحالي من الثقة والاعتمادية، فمن الواجب حدوث تحول على الصعيد الشخصي والمؤسساتي في مؤسسات المرجعية من أجل الوصول لوضع أكثر تناسباً مع اشتراطات المنهج العلمي التشكيكي الحذر وذلك بتحقيق المزيد من الموضوعية العلمية ووضع الآليات اللازمة من اجل إبعاد الباحثين في العلوم الشرعية عن التحيز وإلغاء التعارضات في المصالح لديهم قدر الإمكان. وحتى ذلك الوقت، فإن هذا المقدار الكبير الظاهر من تعارض المصالح لدى مؤسسات المرجعية يتطلب منا أخذ فتاواهم في موضوعي التقليد والخمس بالذات بقدر كبير من الحذر. وذلك إلى أن يتم تحقيق المزيد من الشفافية والفصل بين مهام الفتوى والبحث العلمي ووظيفة تحصيل أموال الحقوق الشرعية وصرفها.

علي بن محمد الحمد
طبيب وباحث سعودي

المصادر:
(١) أزمة العلوم الشرعية في مقابل المنهجية العلمية الحديثة، الجزء الأول – علي محمد الحمد

(٢) Daston and Galison, 2007
“Objectivity is the idea that scientists, in attempting to uncover truths about the natural world, must aspire to eliminate personal biases, a priori commitments, emotional involvement, etc”

(٣) Jan Golinski “How To Be Objective” The American Scientist
July-August 2008، v96, p332
“When factual claims are evaluated, the persona of the scientist is as much at stake as the procedures that were followed.”

(٤) Personal Biases – Barriers to Decision Making
Boundless Open Textbooks https://www.boundless.com/management/decision-making/barriers-to-decision-making/personal-biases/
“Confirmation bias: This is probably the most common and the most subliminal, as many people naturally exhibit this bias without even knowing it. Often times called selective search for evidence, confirmation bias occurs when decision makers seek out evidence that confirms their previously held beliefs, while discounting or diminishing the impact of evidence in support of differing conclusions.”

(٥) أنظر كمثال: قانون الغذاء والدواء ومستحضرات التجميل الأمريكي The United States Federal Food, Drug, and Cosmetic Act (abbreviated as FFDCA, FDCA, or FD&C)
والذي أقره الكونجرس الأمريكي في العام ١٩٣٨م بضغوط شعبية بعد وفاة مئة شخص في حادثة تسمم دوائي.

(٦) DEPARTMENT OF HEALTH AND HUMAN SERVICES
42 CFR Part 50
45 CFR Part 94
[Docket Number NIH–2010–0001] RIN 0925–AA53
“-Maintaining objectivity in research requires a commitment from Institutions and their Investigators to completely disclose, appropriately review, and robustly manage identified conflicts.
-The Institution is responsible for complying with the regulations, including maintaining a written and enforced FCOI policy; managing, reducing, or eliminating identified conflicts; and reporting identified conflicts to the PHS Awarding Component. The reports denote the existence of an FCOI and the Institution’s assurance that it has been managed, reduced, or eliminated.”

(٧) السيد محمد سعيد الحكيم، فاجعة الطف ص٥١٩

(٨) انظر كمثال: مدير مكتب سماحة المرجع الشيخ بشير النجفي (دام ظله) في لقائه مع إحدى الفضائيات: إن المرجعية صمام الامان للشارع الاسلامي..
22/8/2013
“مبيناً في هذا الصدد موقف المرجع وحجم مسؤوليته الكبرى في أداء عمله الأول وهو بيان الأحكام الشرعية في المقام الاول، ذلك عن طريق استنباطها من المصادر المتوافرة لديه وبعد أخذها من مضامينها الشرعية ومواردها في القرآن والسنة النبوية الأئمة الأطهار (عليهم أفضل الصلاة والسلام)”
(٩) وانظر كمثال: موقع سماحة المرجع الشيخ بشير النجفي
“رجل عزم على الحج ولكنه لم يخمس وضاق الوقت فماذا يفعل؟ 
الجواب: يمكنه أن يخمس ما ينفقه على الحج فقط ثم يخمس سائر أمواله بعد العودة من الحج فوراً. وإن عجز عن ذلك أيضاً ففي مثل هذه الحال يمكنه أن يتصل بنا مباشرة بالهاتف أو الفاكس أو بواسطة مدير مكتبنا في بريطانيا ويتم محاسبته وتحديد ما عليه من الخمس ويدفع المقدار الذي لا يضر بالحال ولا يعوقه عن إتمام الحج ويبقى الباقي في ذمته إلى التمكن من الوفاء ولو أقساطاً. والله العالم.”

(١٠) السيد مرتضى العسكري، معالم المدرستين ج٢

(١١) موقع السيد السيستاني-الاستفتاءات
http://www.sistani.org/index.php?p=525390&id=463

أحدث المقالات