18 ديسمبر، 2024 6:41 م

أزمة الرهان على السيد أردوغان

أزمة الرهان على السيد أردوغان

كان الرهان على أردوغان يحمل أبعادا سياسية وفكرية وحضارية كبيرة، وكاد يجتمع على الرجل الجميع، بمن فيهم العلمانيون واليساريون والليبراليون.

نفس الحكاية تتكرّر دائما وبتفاصيل متنوعة: ثمّة من جهة أولى طرف ينتمي إجمالا إلى ما يسمى بالإسلام السياسي، لكنه يتسم بنوع من الطاقة الغامضة، ولعله يكون مستعدا للتعاون إلى أقصى الحدود، أو هكذا يبدو للوهلة الأولى. وثمة في المقابل أطراف تسعى إلى توظيفه لغايات معيّنة. الأمثلة كثيرة ولا تخفى عن أحد، من بينها أن الإدارة الأميركية قد وظفت في سنوات خلت فلول المجاهدين الأفغان، كما وظفت معهم شخصية الملياردير الغامض أسامة بن لادن، وذلك أثناء الحرب الباردة على المعسكر الشيوعي “الملحد”، والتي كان الاعتقاد بأنها ستدوم قرنين أو أكثر؛ ومعلوم أيضا أن الرّئيس المصري الأسبق محمد أنور السادات عمد إلى توظيف الإخوان المسلمين والجهاديين بعد أن منح لنفسه لقب الرّئيس المؤمن، لغاية تصفية تركة جمال عبدالناصر ذات التوجه “الاشتراكي”، مثلما حاول جمال عبدالناصر في السنوات الأولى من حكمه توظيف الإخوان في مواجهة مؤسسة الأزهر ذات القيم “الإقطاعية”.

لكن اللعبة تكون خطرة بكل المقاييس، وأحيانا ينقلب السحر على الساحر، ثم يصبح التخلص من الرهان باهظ الكلفة على اللاعبين أنفسهم. بهذا المعنى يتوفر الشرط الدراماتيكي داخل نسيج الحكاية المتكررة. والسؤال الآن، هل تكررت نفس الحكاية مع طيب رجب أردوغان؟

من المذهل أن يظل أردوغان خلال أكثر من عقدين من الزّمن محط رهان دولي متعاظم. لكن، بالمنظور السياسي البرغماتي فإن ذلك مما يحسب له لا عليه. لقد أخذ ذلك الرهان يتبلور منذ بدأ نجم الرجل يصعد في سماء إسطنبول قبل أزيد من عقدين من الزمن، أو على الأقل منذ وصوله إلى رئاسة بلدية إسطنبول باسم حزب الرفاه عام 1994. قبل تلك الفترة كان كل شيء في حياة الرّجل غامضا أشد ما يكون الغموض، لدرجة أن حياته الجامعية نفسها ظل يكتنفها غموض مثير للحيرة وباعث على الشكوك حتى داخل تركيا نفسها؛ فلا صور ولا وثائق ولا مستندات، ولا شيء يُرى أو يُنظر، عدا مرويات شفهية متضاربة المتن والسند.

غير أن الرهان سينطلق رسميا عقب نجاحه في الانقلاب على أب الإسلام السياسي التركي نجم الدين أربكان، والذي لم يكن شخصا مرغوبا فيه محليا ودوليا، ثم سيتعاظم الرهان عليه أثناء صعوده السريع إلى رئاسة وزراء تركيا عام 2003، وهو العام الذي صادف احتلال المحافظين الجدد للعراق، والمشهود لهم بدعمهم لانقلاب أردوغان على أربكان وتسريع وتيرة التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي. وتلك حكاية أخرى.

كان أردوغان في كل ذلك مدعوما بطاقم حزبي قوي يقوده أحمد داوود أوغلو بصفته “العقل المفكر” لحزب العدالة والتنمية وصاحب نظرية “صفر مشاكل”، قبل أن تهمشه الآلة الأردوغانية، فضلا عن الرئيس السابق عبدالله غول، قبل أن تنجح كتائب أردوغان في إقصائه. وطبعا فإن غوغاء الأردوغانية لا يهمهم “عقل مفكر”، ولا “صفر مشاكل”. وهذا ما تفسره نظرية الثورة التي تأكل أبناءها. غير أن الرهان على أردوغان لم يبدأ في التعثر إلا عقب وصوله إلى رئاسة الجمهورية عام 2014، وظهوره بمظهر الدكتاتور المتعطش لتجميع كافة السلطات بين يديه. فما طبيعة الرهان؟

في سنوات مجده جمع حوله متناقضات يصعب وضعها في سلة واحدة، سواء داخليا أو خارجيا. غير أن لكل رهان أجلا مسمى، أو غير مسمى. دعمه الأكراد ضد النزعة الأتاتوركية قبل أن ينقلب عليهم بقسوة مفاجئة، دعمه الصوفيون بقيادة فتح الله غولن ضد التشدد العلماني قبل أن ينقلب عليهم بشراسة مستغربة، دعمه الديمقراطيون ضد هيمنة المؤسسة العسكرية قبل أن يرمي بالعشرات منهم في السجون. على المستوى الدولي فقد كان الرهان أكبر من ذلك بكثير: تحقيق المصالحة الصعبة بين الديمقراطية والإسلام. هكذا كان رهان أهم مراكز التفكير الاستراتيجي في الولايات المتحدة.

كان الرهان على أردوغان يحمل أبعادا سياسية وفكرية وحضارية كبيرة، وكاد يجتمع على الرجل الجميع، بمن فيهم العلمانيون واليساريون والليبراليون، فضلا عن الإسلاميين الذين احتاروا في أمره بادئ الأمر ثم صاروا يهللون باسمه. على أن الإنصاف يقتضي الاعتراف بأن الرهان على أردوغان لغاية تحقيق المصالحة الصعبة بين الإسلام والديمقراطية لم يكن يخلو من معقولية. فلا دليل على أن الخصام بين الديمقراطية والأديان مسألة حتمية، وإلا لما نجحت الديمقراطية في الهند بالنظر إلى خصائص الهندوسية التقليدية، ولكانت الديمقراطية متحققة في الصين بالنظر إلى خصائص البوذية التقليدية. في كل الأحوال، ثمة شيء نعرفه: ليس الدين في حد ذاته الحاسم، وإنما تمثلات الناس حول الدين. تلك التمثلات متغيرة في الحساب الأخير. هناك مثال يهمنا كثيرا، قبل عقود خلت، قلة من المسلمين من كانت تعتقد بأن الحجاب فريضة. حتى أنصار الحجاب أنفسهم كانوا يدافعون عنه من باب الأعراف والتقاليد. مثال آخر، قبل أقل من قرن واحد، قلة من المسلمين من كانت تعتقد بأن زيارة قبر الرسول تمثل نوعا من أنواع الشرك والقبورية ومما صار يقال الآن. هذا يعني أن الحاسم ليس “الدين في حد ذاته” وإنما هي تمثلات الناس حول الدين.

ثمة تصور واقعي يقول: إن الممارسة السياسية هي الفرصة السانحة لتغيير تمثلات الناس، فيما يسميه ماركس بالبراكسيس. بهذا المعنى لم يكن الرهان على أردوغان مجرد حساب سياسوي بالمعنى الضيق. ثم إن العالم كله يعرف أن الإنسان المسلم قد لا يقبل بفكرة معينة إلا إذا لبست لبوسا دينيا. من هنا نفهم ونتفهم ذلك الدعم الكبير الذي حظي به أردوغان منذ سنوات حكمه الأولى لغاية إخراج الإسلام من عصر “الاستبداد الشرقي”، إلى طور “الديمقراطية الحديثة”. وهو رهان استتبعته رهانات أخرى، أهمها دينامية التحاق تركيا بالاتحاد الأوروبي تحت حكمه جراء المعايير التي بدا كأنه سائر نحو تحقيقها بلا تردد، ثم دينامية توسيع العلاقات التجارية مع إسرائيل كمدخل منفعي نحو السلام.

كاد الرهان على أردوغان يستقطب الجميع في الأخير، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا. وحتى لا ننسى، ففي عام 2010 منحته المملكة السعودية جائزة الملك فيصل العالمية لخدمة الإسلام. وفي نفس العام منحته مؤسسة القذافي العالمية لحقوق الإنسان جائزة القذافي لحقوق الإنسان. وفي 2014 فاز بوسام التميز من طرف المجلس الدولي لحقوق الإنسان والتحكيم والدراسات السياسية والاستراتيجية. ولا يخفى أن تلك الجوائز بدورها رسائل لدوائر القرار الدولي تقول “كلنا مهتمون بالنموذج الأردوغاني”.

أعتقد، ولعلها فرضية تكميلية، بأن مخطط أردوغان كان طويل النفس، يتحرك بأناة وتريث، لولا أن الانفجار الفجائي لما كان يسمى بـ“الربيع العربي” قد فرض عليه المرور إلى السرعة النهائية. هنا بالذات سقط القناع. لكن، لنحذر مرّة أخرى من الوقوع في خطأ الاعتقاد بأن أردوغان كان يخفي كل هذا المخطط. لأن الرؤية الواقعية تنفي وجود مخطط يسبق الأحداث ويرسم مسارها بالتمام. كل ما هناك في الحالة التركية، نسيان معطى حاسم يقول “طول الأمد في السلطة يفسد الإنسان حتى وإن كان ملاكا طاهرا”. لماذا؟ بكل بساطة لأن السلطة ضد الطبيعة البشرية. علينا ألا ننسى هذا. فعلا، لا تتنافى السلطة والزعامة مع غرائز القطيع البدائية، لكن الأمر يختلف عندما نتحدث عن الشرط الإنساني. لذلك كان قرار الحداثة السياسية سليما وحكيما: لا يحق للحاكم أن يترشح لأكثر من ولايتين متتاليتين، وذلك ليس خوفا فقط من أن يعتاد هو على السلطة التي ستفسد طبيعته البشرية، وإنما خوفا أيضا من أن يعتاد الناس على وجوده في السلطة، فلا يرضون عنه بديلا. وذلك هو المرض الذي يصيب الشعوب بسهولة بالغة.

لم يقتصر الرهان على أردوغان في حدود تحقيق الانتقال الديمقراطي لتركيا، وإنما شمل الانتقال الديمقراطي للإسلام نفسه. كانت خلفية مراكز البحث الاستراتيجي في أميركا تقوم على أساس أن الديمقراطية ليست قادرة على احتضان الدين وحسب، وإنما قادرة على جعله عنصرا فاعلا في البناء الديمقراطي. كان نموذج إسرائيل كدولة شرق أوسطية مزجت بين الديمقراطية والدين شاخصا أمام العيان، ويغري بإمكانية تعميمه، لا سيما وأن هناك أنظمة “علمانية” عربية “معادية” لإسرائيل، لم تكن أنظمة ديمقراطية، وبالتأكيد لم تكن أنظمة دينية، مثلما كان حال عراق البعث، وسوريا الأسد. إن المحافظين الجدد أنفسهم، الذين دشنوا غزوة العراق في زمن صعود الأردوغانية، ليسوا، من وجهة نظر فلسفية، من أنصار العلمانية. بل لم يكونوا يخفون اتفاقهم مع الفيلسوف الأميركي الألماني ليو شتراوس في اعتباره أن التقاليد العلمانية القائمة على النسبية القيمية، والمنحدرة من التقاليد القروسطية هي التي أفضت إلى صعود النازية في ألمانيا. بهذا النحو يبدو الرهان على أردوغان أكبر من مجرد حسابات سياسوية. لقد كان الأمر يتعلق بِرهان على إمكانية التأصيل الثقافي الديني لمبدأ الأمن والسلام. وهذا أعز ما يُطلب في زمن الحرب على الإرهاب.

غير أن الحملة الشعبوية التي يشنها أردوغان اليوم، والتي انتهت إلى طرد الآلاف من الموظفين في مختلف القطاعات، واعتقال الآلاف من الأشخاص بينهم العشرات من القضاة والإعلاميين، وإصراره على تغيير الدستور لأجل جمع كل السلط بين يديه، وصولا إلى شتمه للحكومات الغربية فيما يبدو تهييجا انتخابيا للإسلاميين الراديكاليين، كل هذا هو بمثابة انهيار مدو لاستراتيجية الرهان على أردوغان.

نقلا عن العرب