18 ديسمبر، 2024 9:09 م

أزمة الرجال العظماء

أزمة الرجال العظماء

عندما تمر الأمم بأوقات عصيبة، فأما أن تخرج منها محطمة وممزقة، وأما تخرج قوية موحدة. الأمثلة كثيرة…الولايات المتحدة الأمريكية، مرت بوقت عصيب في منتصف القرن التاسع عشر، عندما أصر الجنوبيون على الأنفصال، مقاومين بذلك توجهات الشماليين في البقاء بالأمة الأمريكية موحدة، وبمنح السود (العبيد في ذلك الوقت) الحرية. كان الجنوبيون يشعرون أنهم مختلفون كثيراً عن الشماليين وكانوا في معاركهم مع الشماليين يهتفون ب- فرجينيا- الولاية (الأقليم) الذي كانوا يعتبرونه رمز الصمود. الاّ أن الرئيس الأمريكي في ذلك الوقت (أبراهام لنكولن)، أصرّ على أن تبقى الأمة الأمريكية موحدة، وقاد حرباً طاحنة ضد الجنوبيون ذهب ضحيتها عشرات الآلاف من الطرفين على مدى أربع سنين عجاف، ويقال أنه لم يبقى بيت في الشمال أو الجنوب ليس فيه قتيل أو جريح. ثم فاز الشماليون واندحر الجنوبيون، وبقيت أمريكا التي نعرفها اليوم موحدة. لاتزال المدارس في أمريكا تحتفل الى اليوم بيوم ميلاد لنكولن، وتأبن يوم وفاته باعتباره من أعظم الرجال في التأريخ الأمريكي، لأنه هو الذي حافظ على أمريكا موحدة، ولأن أمريكا الآن، هي هذا البلد العظيم ذو القوة العظمى والقدرة الأقتصادية الهائلة وبلاد الفرص، وقائد العالم في كل المجالات، الأقتصادية والتكنولوجية والثقافية والفنية…الخ.

لانريد أن ندخل هنا في جدل السياسة القذرة التي تتبعها الحكومة الأمريكية الآن وفي السنوات الخمسين أو الستين الأخيرة لأننا سوف نخرج عن الموضوع.

بقي لنكولن رئيساً للولايات المتحدة أربع سنوات فقط، حيث اغتيل على يد أحد الجنوبيين الحاقدين في حادثة مشهورة. لكن لنكولن بقي خالداً في ذاكرة التأريخ الأمريكي وذاكرة الشعب الأمريكي… لماذا؟ لأنه لولاه لما كانت أمريكا البلد العظيم الذي نعرفه اليوم.

طبعاً نحن العراقيون والعرب وأهالي الشرق الأوسط نقول: ليته لم يفعل ذلك، بل ليته مات قبل ذلك أو انهزم في الحرب، حتى لاتكون أمريكا التي نعرفها اليوم.

مرة أخرى، نخرج هنا عن الموضوع ولاداعي لتضييع أنفاسنا في الجدل عن أسباب أماننيا الغير واقعية هذه.

هناك أمثلة أخرى كثيرة في تأريخ الأمم والشعوب، غاندي، تشرشل، كاسترو، زايد بن سلطان، نلسون مانديلا…وغيرهم العديد، كل هؤلاء رجال عظماء عند شعوبهم…لأنهم حافظوا على أوطانهم عزيزة قوية موحدة، لأنهم لم يستجيبوا ولم يرضخوا للقوى والدعوات التي كانت تسعى لتمزيق بلادهم. ولأنهم رغم ضخامة تلك القوى وشراسة الهجمات، قاوموها متسلحين بمبادئ وطنية ربما لم يكن لها علاقة بالدين بتاتاً.

ماذا سيقول التأريخ بعد سبعين أو ثمانين سنة عن أناس مثل المالكي، أو العبادي، أو غيرهم من الساسة العراقيين؟. عن المالكي ، ربما سيقول مايلي: وفي عهده…هاجمت العراق جماعات أسلامية تطلق على نفسها داعش واحتلت مناطق واسعة من البلاد في ظرف أيام، وانكسر الجيش العراقي بصورة سريعة وغريبة جدا وعم الفزع وعاث الداعشيون فساداً في الأرض، وقتّلوا الناس وهتكت الأعراض…وارتكبوا المجازر، منها مجزرة سبايكر التي راح ضحيتها 1700 شاب، أعدموا صبراً…

وعن العبادي، ربما سيقول: وفي عهده قُسّم َ العراق الى دويلات ثلاث هي التي نعرفها اليوم…

يسير العراق بخطىً حثيثة نحو التقسيم، بلا اعتراض ولامقاومة!…البرلمان على وشك أقرار قانون الحرس الوطني الذي وكما هو واضح جلياً، جيش سني خاص بالمناطق السنية، يحرم على الجيش العراقي دخولها لأن الجيش العراقي هو جيشاً شيعياً ليس فيه سنياً، حيث أن السنة من الجيش أو الشرطة أما أنه التحق بداعش أو اعتزل القتال منتظراً الأنضمام الى الجيش السني الموشك على الظهور. وكل هذا يتم بأمر وسيطرة مطلقة من قبل الأمريكان المقتنعون تماماً بمظلومية السنة وطغيان الشيعة منذ سقوط النظام السابق ودخولهم العراق، ثم تربع المالكي على عرش العراق لثمان سنين عجاف، كرّس من خلالها هذا الشعور الطائفي البغيض وبشكل علني بعد أن كان سراً ورفع شعار (تصفية الحساب) ووضعه على قناته في ذلك الوقت (العراقية) لستة أشهر متواصلة، ضارباً بعرض الحائط اللي يعجبه واللي مايعجبه. ثم دفع الثمن غالياً بعد أن أدارت له المرجعية ظهرها الى غير رجعة وأرغمته على الأنسحاب رغم فوزه الساحق في الأنتخابات والذي جلب الى البرلمان كثير من الوجوه الباهته التي لايألفها الناس وأصبحوا نواباً في البرلمان منسلتين من عهودهم مع المالكي مثل الشعرة من العجين.

ولأن العراق يخلو من الرجال العظماء، نرى الجميع راضٍ بالتقسيم (خلي نتقسم ونخلص)!…ولماذا يهتم القائد السياسي زعيم الحركة الفلانية أو الحزب الفلاني، والميارات طوع أمره وتحت تصرفه، والآلاف من الموظفين والجنود وشباب الحشد الشعبي الغيور هم خدم له؟…

لايخفى على أحد أن أحزابنا وحركاتنا وتياراتنا السياسية، لم تعد بحاجة الى تمويل دولي من دول أخرى، فميزانية البلد هي الممول، ومادام الحزب أو الحركة أو التيار له وزارة أو وزارتين، فليس هناك حاجة لدعم خارجي، فميزانية الوزارة ومشاريعها الأستثمارية، تورد مئات الملايين الى خزينة الحزب والحركة والتيار، لذلك نرى وبمرور الزمن، أن هؤلاء يزدادون قوة وثراءً وفحشاً! ولاسبيل لأيقاف ذلك، أذ من يتجرأ أن يقف بوجوههم أو يتكلم عن ذلك ، أو يحاول أيقاف ذلك؟

يقول كثير من الناس، أنه لولا دخول داعش لحصلت ثورة عارمة في البلد، ثورة على هذا الفساد العظيم، وعلى هذه السرقات المهولة، وعلى هذا الثراء الفاحش.

راتب حماية نائب في البرلمان 42 مليون دينار شهرياً تُسلّم الى النائب، في حين يعاني الأغلبية من الشعب الفقر وشظف العيش؟ أي مهزلة هذه؟

ويقول كثير من الناس: لم يبق لنا ألاّ السيد السيستاني، علّه يفعل شيئاً؟…

بلاشك، أن التأريخ سيكتب عن السيد السيستاني مايلي: ولولا فتواه بالتصدي لداعش لأحتل الداعشيون مناطق كبغداد والنجف وكربلاء…

هل يستطيع السيد السيستاني أيقاف سونامي تمزيق العراق؟ هل يستطيع أيقاف شراسة هجمة التقسيم العرقي والطائفي؟ أم أنه يرى كما يرى معظم الناس أن تقسيم العراق الى ثلاث دويلات، هو الحل الأمثل لبلد العراك (العراق)؟.

يعز علينا، نحن الوطنيون الذين تربوا ونموا مع خارطة العراق التي تشبه رجل جالس، يعز علينا أن تصبح هذه الخارطة في براثن الماضي. ماذا ستكون خارطة وطني في المستقبل القريب؟ ماذا ستشبه؟ وهل سيبقى أسم وطني العراق، أم سيكون شيعستان؟…أو سنيستان؟…

هل سيكون السيستاني رجلاً عظيماً يحفظ لنا ولأجيالنا هذا البلد العزيز؟

أم أن الواقع البغيض يقول: لاأحد يستطيع الوقوف بوجه سونامي التمزيق؟…خصوصاً وأنه يحدث بأرادة أمريكية…

لكن الأرادة الأمريكية لم تكن المنتصرة دائماً، بل عانت النكسات والهزائم في العديد من الأختبارات: فييتنام، كوبا، أيران، حرب 2006 مع حزب الله…وغيرها…

اللهم أنا نطمح أليك في دولة كريمة تعزُّ بها الأسلام وأهله وتذل بها النفاق وأهله…

[email protected]